ومع ذلك لم يكن الفاتح، بل عدوه المقهور في رافن، تيودوريك الأستروغوتي، هو الذي أصبح مؤسسا لدولة البحر المتوسط الجرمانية التي كان يحلم بها جميع الغزاة من البرابرة، التي كان يحلم بها جنسريك بأفريقية وألاريك بإيطالية وأتيلا بفرنسة، وتيودوريك هذا وحده هو الذي وفق لوقت قصير أن يحمل الجرمان الآخرين على الاعتراف بمملكته، وقد عرف في الوقت نفسه، وبفضل أسطوله، أن يحول دون عمل بزنطة. وقد حافظ هذا الجرماني، الذي دام سلطانه أكثر من ثلاثين سنة، مع شيء من الغموض، على سيادته في إيطالية وإسبانية وجنوب فرنسة وفي رتية ودلماسية، وقد كان مدينا لثقافته الرومانية بنجاحه حيث أخفق أسلافه في القرن الرابع والقرن الخامس. والواقع أن هذا المقاتل الجرماني تعلم كثيرا حينما كان رهينا في القسطنطينية، ويجمع آثار الفن اللاتيني ويعنى بالأدب اللاتيني، وما أقامه من كنائس وما شاده من ضريح له في رافن ينم على روح رجل من الشمال صار «رومانيا»، ويعترف بإمبراطور القسطنطينية مولى له رسميا ويفوض إدارة شئونه إلى روماني حقيقي.
ويبدو الرجل الذي عقبه كأقوى ملك للبحر المتوسط، لا كملك للقوط، بزنطيا فينتصب ضد الجرمان مرة أخرى، ويعرف أن يلطف ضغطهم في أثناء عهده الساطع الذي دام نحو أربعين عاما، ويبدو ابنا حقيقيا للبحر المتوسط، ويردع بحزم مهاجري ممالك الأستروغوت واللنبار، ومع ذلك فإنه لم يكن لاتينيا ولا إغريقيا، وإنما كان إيليريا تراكيا؛ أي ألبانيا وفق تسمية الوقت الحاضر، ويختار جوستينيان (527-565) من قبل دانتي رمزا للإمبراطورية الرومانية أكثر من اختياره قيصر أو أغسطس. ويحتمل أن هذا كان؛ لأنه جمع بين الإمبراطورية والكنيسة، أو لأنه سمى القانون «سلطانا منزها عن الخطأ» فوضع نفسه تحت سلطانه، أو لأنه كان آخر من أمسك المجموع ملتحما. أجل، إنه عرف بعد قرنين من قسطنطين أن يمسك البحر المتوسط موحدا ضمن الإيمان النصراني، الذي ثبتت أصوله في هذه الفاصلة، بأسهل مما عرف قسطنطين هذا، غير أنه كان مثل سلفه ولوعا بالسلطان قبل كل شيء. أجل، كان يعد نفسه حبرا إمبراطوريا ومبشرا عمد أمراء الهياطلة وأمما وثنية أخرى في القسطنطينية، غير أنه كان يتصرف في الأمور تصرف طاغية روماني، لا كنصراني مؤمن، وهو لم يرغب أن يكون سلطانه على قلوب رعاياه، بل على شواطئ البحر المتوسط. وكان الجيش والأسطول غايته، وكان الإنجيل واسطته، وكان القانون قوة بين الحدين، وبالقانون كان يسعى أن يجمع بين رسالتيه.
وكان ابنا لوالدين من فلاحي إيليرية، ولكنه كان ابنا لأخ ضابط كبير بزنطي فيربى في الجيش ويحافظ في جميع حياته على صفات الجندي والفلاح. وكان يريد أن يصنع كل شيء بنفسه، كأن يضع تصميما لبرج جديد، وكأن يدعك بيديه نسيجا جديدا ليقابل بينه وبين نسيج حريري من الصين، وكأن يجرب مركبا حربيا خفيفا أو مركبا حربيا يجري بالمجاديف أو سرجا من طراز حديث. وكان الأغارقة يلقبونه ب «العاهل الذي لا ينام أبدا». وكان مستبدا بفطرته، فنظم بمراسيمه جميع أعمال رعاياه من العماد حتى التوبة النصوح، وإلا عرض أبناء الوطن حقوقهم وأموالهم للضياع. وقد أعاد للإمبراطورية فخامتها مفرطا على الطريقة الشرقية مع محافظته على بساطة زاهد شخصيا، وقد كان سمحا أنيسا، وقد كان في الوقت نفسه معجبا بصفاته، وقد كان عازما عزما قاطعا على أن يكون خير الناس؛ أي عادلا.
وما كان عليه جوستينيان من كلف بالعدل يعد من حيل الطبيعة لتسكين نشاط هذا الطاغية الذهني، ولما أصبح نابليون قنصل فرنسة الأول سن قانونه المدني من فوره، وقل مثل هذا عن جوستينيان الذي نشر قانونه معبرا عن سلطانه، ولم يبق من عهده الطويل غير قانون جوستينيان الذي تم وضعه بعد جلوسه على العرش بعامين، فزيد بعد ذلك. ولم يكن نظامه الاستبدادي محتاجا إلى قانون ليمارس؛ ولذا أبصر عن ضرورة داخلية عميقة تأليف لجنة يعهد إليها في وضع مدونة جوستينيان؛ أي متن قانونه، وقد أنجزت هذه المجموعة الأولى بأسرع مما أنجز به قانون نابوليون؛ أي في أربعة عشر شهرا، واليوم يقضي التلميذ المجد وقتا كبيرا ليتعلم ما تحويه من مبادئ أساسية ويتخذ هذا القانون الذي هو متن أساسا للقانون الغربي حتى أيامنا.
والحق أن جوستينيان قد انتفع بميراث رائع، انتفع بتراث عشرة قرون، والحق أن مبادئ القانون الروماني ترجع إلى ألواح المملكة الأولى الاثني عشر، وكل شيء في قانون جوستينيان منطقي وعملي معا، على حين ترى القانون الجرماني قد فسح فيما بعد مجالا للمشاعر الشخصية والعوامل الفردية أكثر مما لغيرهما فصعب على الأمم الأجنبية أن تنتحله لهذا السبب، ويعد كلا المنهاجين القانونيين مرآة لوضوح الروح اللاتينية وغموض الروح الجرمانية. وكان تريبونيان المشهور الذي عينه جوستينيان رئيسا للجنة وضع قانونه فيلسوفا، ولكنه كان أيضا رجلا متحرزا غير غافل عن مصلحته الخاصة، وما كان عليه من براعة في التنظيم ينم عليه رأيه في النشر القادم لمجموعة الأحكام والفتاوى المعروفة ب «الديجست» وب «الباندكت»، ينم عليه حسابه، كوكيل النشر الأمريكي، في تكثيف ألفي كتاب في خمسين كتابا وفي تكثيف ثلاثة ملايين سطر في مائة وخمسين ألف سطر، وإذا ما أريد إبراز أخلاق هذا الإمبراطور بالبحث في قوانينه وجد في إعلانه مساواة الغني والفقير أمام القانون مساواة تامة مع أنه كان يوجد فرق بين بين فريقي أبناء الوطن هذين، ومن الممكن إظهار حلمه البعيد من الخلق الروماني بتسامحه الإنساني وبما قيد به حقوق الأب فكان على النقيض من مبادئ الشريعة اليهودية.
ويظل قطب الدولة المشترع يقظا في شخص جوستينيان على الدوام، ومن ذلك أن كان يوجد شغب بين فريق «الزرق» وفريق «الخضر» في ميدان السباق، فهو، مع فرضه عقوبة عن حب للعدل، قد حال دون اتحاد هذين الحزبين ضده، واتحاد مثل هذا كان موجودا في السنة الأولى من عهده مع ذلك. وقد اعتقد الإمبراطور ضياعه، وذلك أن سار الحزبان المتحدان إلى قصره الذي خربوه مع الهتاف: «كن غالبا!» ويا للعظمة في هذا النداء الثوري! وهو لم يسبق أن صرخ به في وجه مليك من قبل الجماهير، والواقع أنه لم يكن هنالك حرب، وليس هذا الصراخ غير ترديد لاستفزاز جنود الرومان الاستهزائي في وجه يسوع حين كانوا يدعونه وهو على الصليب إلى إنقاذ نفسه إذا كان ابنا للرب حقا.
وكان جوستينيان مدينا بسلامته في ذلك اليوم لامرأته تيودورا التي لم يعرفها إلا في الأربعين، وهي التي نراها في فسيفساء رافن جالسة على العرش كملكة علوية، وقد كانت ابنة ملعب، وقد كانت ابنة لعارض دببة ولعاهرة، وتدخل فرقة رقص إيمائي قبل الأوان، ثم تقف نظر الإمبراطور في ملعب، وتعود إلى هذا الملعب بعد سنين كثيرة لابسة تاجا من ذهب ملكة لإمبراطورية عالمية. ومن الشعب خرجت بنات كثير قبلها وبعدها متخذات مثل حرفتها في القسطنطينية، ولكن تيودورا كانت على العكس من النساء اللائي هن من طرازها فمثلتهن مسالين؛ وذلك لأن تيودورا عرفت أن تستفيد من نصيبها.
وتوصي تيودورا زوجها بأن يكون رابط الجأش في ساعة الذعر وحين محاصرة الجمهور للقصر، ويكون لها وقت بذلك فتنقذ العرش بأمرها قائدها الخاص أن ينحاز إلى حزب «الزرق» ضد حزب «الخضر»، وأهم من قائمة عشاق تيودورا ما كان من حب جوستينيان العظيم لها وتكريمه إياها ما دامت حية؛ أي مدة عشرين سنة، فلما ماتت حد من أجلها حتى وفاته.
وتخيب الثورة فيقضى على جميع حقوق الشعب، وما فطر عليه البزنطيون من طبع حاد، أثبتوا به أنهم وارثو الأثنيين في معارضتهم المتأصلة، تجلى فيما قاموا به من فتن مستمرة في غضون القرون القادمة. ولم يقع في عهد جوستينيان من الفتن بعد ذلك ما يقمعه، فلما وطد نظامه الاستبدادي صار من الممكن أن يبدأ بحروبه ليوحد الإمبراطورية، أن يبدأ بتلك الحروب التي دامت عشرين عاما. وكان الأسطول سلاحه الرئيس، وهو إذ لم يكن جنرالا ولا أميرالا فقد فوض أمر أسطوله إلى رجل قوام به كما كان أغسطس قد صنع، وكان قائده بلزير من سرعة الحركة مثل أغريبا منذ ستمائة سنة فقهر ملك أفريقية، وقد أراد أن يكون تناسق بين سفن الأسطول فأمر بصبغ جميع الأشرعة باللون الأحمر، ويدخل قرطاجة فتزول إمبراطورية جرمانية قديمة من البحر المتوسط كما يزول آخر ملك وندالي، ويكون هذا إنقاذا حقيقيا.
وأصعب من ذلك بدرجات أن يغلب القوط في إيطالية وإسبانية، ولم يتم نصره إلا بعد حروب دامت عشرين عاما وبفضل تفوقه في الملاحة ، وتغدو رومة مسرحا لاعتراك القوط والبزنطيين في تلك الحروب الطويلة، وتحاصر رومة ثم تحرر ثم يعاد فتحها إلى أن دخل أحد قواد العاصمة الجديدة، نرسيس، تلك العاصمة القديمة التي عرف كيف يحترمها.
ناپیژندل شوی مخ