129

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

وتحيق كارثة كبيرة بالرومان الذين كانوا مع أشرافهم وأعضاء سناتهم يحبون أن يرسموا سلسلة نسبهم إلى رومولوس، فقد جعلت من إيطالية ولاية بزنطية وجعلت من رومة عاصمة لهذه الولاية، فتكون بذلك تابعة للإغريق، وبذلك يكون العالم اليوناني قد انتقم من اللاتين انتقاما عظيما، وذلك بعد خمسة قرون من الزمن الذي حول أغسطس فيه بلاد اليونان إلى ولاية.

ولم يمض زمن قصير حتى قضي على آخر أثر جرماني في البحر المتوسط، وكانت الإمبراطورية الرومانية تنهض ثانية حين سقوط عاصمتها القديمة، ومع ذلك فإن رمزها الذي كان دائرة مركزها رومة حتى ذلك الحين يتحول إلى شكل إهليلجي ذي محترقين.

ويلوح أن البحر المتوسط، الذي كان مقسوما إلى نصف غربي ونصف شرقي فاتحد مدة خمسة قرون، قد قسم مجددا، ويظهر أن الدردنيل وجبل طارق؛ أي المضيقين اللذين حرراه من الحواجز جاعلين منه بحرا داخليا، يغدوان تابعين لشعبين مختلفين وحضارتين متباينتين. وما وفق له جوستينيان في الغرب بدا متعذرا في الشرق تقريبا، فهو قد عاد غير قوي في الشرق لمقاتلته ملوك الجرمان المحتلين للقسم الغربي من البحر المتوسط، وصار لا مناص له من الإذعان منتصرا على فريق من البرابرة متسامحا تجاه فريق آخر منهم، ويدفع وفق المعنى الحرفي؛ أي يضطر جوستينيان إلى إعطاء الفرس جزية، ويدنو الخطر من القسطنطينية كلما قضت الضرورة بأن يبعد جوستينيان منها كتائبه، ويهدد الهياطلة والصقالبة عاصمته حوالي سنة 559 على حين يزحف شعب البلغار الفتي متوجها إلى كورنث، ويبرز الصرب والكروات على مسرح التاريخ للمرة الأولى متدفقين على طول حدود الإمبراطورية من الشمال، وتكلف هذه الحرب التي دامت عشرين سنة ثمنا غاليا من الأرواح والأموال، وينفق الإمبراطور فيها ملايين الذهب التي كان قد ورثها.

وينشئ جوستينيان في كل مكان طرقا وقنوات وحمامات عامة وأديارا ومكتبات، ويشعر بأنه أنجز هذه المشاريع عن علم وحماسة أكثر مما أبداه في حروبه، وتصفه التواريخ منهمكا في تربية دود الخز بما تحرر به أبهة بزنطة من الصين للمرة الأولى، ويجد حارس العدل هذا أن من الطبيعي أن يسرق بزر حرير من الصين بواسطة راهبين فيؤتى به في عصي مجوفة، وإن شئت فقل إنه كان يقدر أن من الجائز أن يخادع قسيس خادم للقوة والمال قسيسا آخر. «لقد فقت سليمان!» هذا ما قاله جوستينيان صارخا عندما فرغ من بناء كنيسة أيا صوفية وقصره الخاص، وقد ضاعف جهده نتيجة لاحتراق المباني في أثناء الثورة، وقد مضت خمس سنين فقامت الكنيسة الجديدة، التي شيدت بمواد غير قابلة للاحتراق أتي بها من كل مكان، أعظم اتساعا وأكثر جمالا من الكنيسة القديمة، ووجب على أعمدة معبد أفسوس أن تحمل القبة التي رفعت تمجيدا ليسوع، وأمر بتحويل كرة الرخام الكبيرة الخاصة بأفروديت فرغامس إلى جرن ماء مقدس. ومن الجلي أن هذا الولع بالبناء، الذي حفز كثيرا من الطغاة في جميع الأدوار، ضرب من وسائل الصيت مصدره شعورهم بأن الدول تنهار بأسهل من انهيار القصور.

وكان جوستينيان كثير العناية بالجزئيات على الدوام، وكان في رافن وأورشليم يرسم ويغير نسب كنائسه الجديدة شخصيا، ومع ذلك فإن اليد التي رسمت تصميم قبة أيا صوفية الواسعة قد أمضت مرسوما أثقلت به ذكرى صاحبها بأكثر من كل حكم بالإعدام، وذلك أن جوستينيان أغلق مجمع أثينة العلمي، ولا مراء في أن هذا تدبير نصراني لما كان من منعه دروس أولئك الذين «يؤمنون بالحماقة اليونانية». وكان هذا أيضا انتقام بزنطي ازدرى علماء أثينة مدينته مدة قرنين، ويضطر علماء الأفلاطونية الجديدة، بعد أفلاطون بثمانمائة سنة، إلى الهجرة عند حفدة البرابرة في بلاد فارس مع أن أجدادهم كانوا يستريحون في ظل السيجان

26

التي كان يتنزه أفلاطون تحتها.

ومن ينظر إلى هذا العمل من بعد يجده همجيا كانتهاب رومة من قبل القوط، ويصعب تسويغه ما استندت الكنيسة في ذلك الحين إلى أرسطو الذي صار في القرون الوسطى قديس علم اللاهوت، وعن تبني أرسطو هذا يقول أغستن كلمته الرائعة: «علينا أن نصنع كما فعل العبريون حين خروجهم من مصر حيث تركوا أصناما، ولكن مع جلبهم فضة وذهبا، وذلك بأن نستخرج كنوزا من كتب الوثنيين.» وعن اعترافات القديس أغستن؛ أي عن كتابه الذي هو أشهر كتب القرون الوسطى، كان النصارى يقولون: «كان يبدو كما لو كتبه سقراط.» وفي الغالب يظهر الأساقفة والبابوات، حين يدخلون الإصلاحات شيئا فشيئا، يظهرون أكثر حكمة من إمبراطور مثل جوستينيان الذي زعم تأسيسه دينا للدولة بمرسوم بسيط، وهو لم يوفق في ذلك كعدم توفيق كل ملك في مثل ذلك، وما كان يمكن تحقيق قيام دين للدولة مثل ذلك الدين في الإمبراطورية الرومانية، ففي القرن الخامس كانت تمارس الوثنية بلاد بأسرها في شمال أفريقية، وقل مثل ذلك ما كان بإسبانية ولا كونية في القرن التاسع، وهكذا كان يتعذر تداخل العالمين بغير الإدغام، وهذا لم يكن بغير قسر وجور، ومما يروى أن أسقفا بأفريقية قد أكره سبعين ألف شخص على المعمودية في بضعة أشهر، ومن جهة أخرى استعار النصارى أنفسهم بعض العادات من الوثنيين كالإيواء وكالقبول في صف الإكليروس وكذخائر القديسين وإدراج طوباوي في عدادهم، أولم يؤله قيصر من قبل فرجيل فيسمى «سوتر»؛ أي «المنقذ»؟ أولم يجعل أدريان في بضع سنين أنتينوس الذي غرق في النيل إلها معترفا به في الإمبراطورية؛ لأنه كان وسيما عزيزا على الإمبراطور؟ وقد أعلن أن قسطنطين قديس، وكان يمكن جوستينيان أن يأمل مثل ذلك.

ولم يصدر الخطر الذي كان يهز النصرانية منذ القرن الرابع بلا انقطاع عن الوثنية مع آلهتها القديمة التي كان يرجو خيالي مثل جوليان إحياءها ذات حين، بل كان صادرا عن تعدد المذاهب وعن حسدها المشترك للإمبراطور.

وقد نشأت المذاهب نتيجة لنزاع حول حرف من الأبجدية، حول حرف

ناپیژندل شوی مخ