مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الجزء الأول
إلى المنار
اكتشاف البحر المحيط
الجزء الثاني
إلى المنار
غارة البرابرة
الجزء الثالث
إلى المنار
ناپیژندل شوی مخ
آخر الليل
الجزء الرابع
إلى المنار
البحر المهمل
الجزء الخامس
إلى المنار
مكافحة الدخلاء
الخاتمة
إلى المنار
مقدمة المترجم
ناپیژندل شوی مخ
مقدمة المؤلف
الجزء الأول
إلى المنار
اكتشاف البحر المحيط
الجزء الثاني
إلى المنار
غارة البرابرة
الجزء الثالث
إلى المنار
آخر الليل
ناپیژندل شوی مخ
الجزء الرابع
إلى المنار
البحر المهمل
الجزء الخامس
إلى المنار
مكافحة الدخلاء
الخاتمة
إلى المنار
البحر المتوسط
البحر المتوسط
ناپیژندل شوی مخ
مصاير بحر
تأليف
إميل لودفيغ
ترجمة
عادل زعيتر
إلى صديقي
إميل فايانكور
الكندي الفرنسي الكبير
المؤلف
مقدمة المترجم
ناپیژندل شوی مخ
نقلت إلى العربية منذ سنة كتاب «النيل» للكاتب الألماني الكبير إميل لودفيغ، وقد قلت في مقدمتي: «وللنابغة الغربي هذا كتاب «النيل» وكتاب «البحر المتوسط» ترجم فيهما للنهر وللبحر كما ترجم للعظماء، فأكسبهما من الحياة ما يخيل إلى القارئ معه أن الجماد من بني الإنسان، و«النيل» هو الذي أعرضه الآن على القراء.»
والواقع أنني بدأت بترجمة «البحر المتوسط» قبل نشر «النيل» فأتممت نصفها في «نابلس» وأتممت النصف الآخر في «القاهرة»، و«البحر المتوسط» هو الذي أقدمه اليوم إلى القراء.
وقد سلك المؤلف في تاريخ البحر طريقا غير الذي سلك في تاريخ النهر، فالمؤلف، وإن رأى إمكان وصف سيرة النيل كما توصف حياة بطل من ولادته إلى مماته، وجد البحر المتوسط ميدان صراع روائي بين أممه، ووجد معارضة النيل الفحل الذي يشق طريقه من خلال الصخور والصحارى بهذا البحر الأنثى، ووجد الجميع يبغي حيازة البحر المتوسط فينتقل من سيد إلى سيد.
والبحر المتوسط هو الذي ظل قرونا كثيرة مركزا للحضارة العالمية التي حمل لواءها اليونان ثم الرومان ثم العرب، والبحر المتوسط هو الذي كان أداة وصل بين تمدن الشرق وتمدن الغرب، ولم يخسر هذا البحر مكانه في عالم التجارة إلا بعد اكتشاف «رأس الرجاء الصالح» ثم استرد مقامه التجاري بعد حفر قناة «السويس».
وما فتئ الشرق يستهوي إميل لودفيغ ويجتذبه، فأنفق عشر سنين
1
في وضع «النيل»، وأسبغ على النيل من الروعة والقوة كما أسبغ على الأبطال والعظماء. ولودفيغ قد قضى سنين كثيرة على شواطئ البحر المتوسط التي أحبها، ثم وضع عنه، في ثلاث سنين، هذا السفر الجليل الذي أقدم ترجمته، فيكون قد اجتمع البحر بعد النهر لدى القارئ العربي.
عادل زعيتر
القاهرة
مقدمة المؤلف
ناپیژندل شوی مخ
مهداة إلى من لا يحبون المقدمات
مصاير البحر تعبث بسطحه وتلهو بشواطئه، غير أنه لا تاريخ لاتساع مائه العقيم، وفي البر تقع المعارك، والوقائع لا تنال الأمواج إلا حينا بعد حين، ومع ذلك، وفي غضون المعارك والفتوح يسمع هدير البحر ويرى التماع أمواجه الزرق دائما، وتعين الزوابع والسحب أعمال الناس ومصير الأسفار الناجع والفاجع، ولكن الأشرعة والسكانات
1
والمراسي والمناور تسوق القارئ، دوما، إلى العنصر الذي يكتنف الجميع، وتنعش الصخور والأشجار والرياح والأسماك ما هو منثور في هذا الكتاب من الجزر.
ويتطلب تاريخ البحر أسلوبا غير ما يقتضيه تاريخ النهر، ويمكن وصف سيرة النيل كما توصف حياة بطل من ولادته إلى مماته، ويغدو البحر الذي يود الجميع أن يسيطر عليه ميدان صراع روائي بين الأمم التي تعيش على شواطئه، ويعارض النهر الفحل الذي يشق طريقه من خلال الصخور والصحارى بالبحر الأنثى، وكل يبغي حيازته، شأن هيلانة فيما مضى، وهو كهيلانة ينتقل من سيد إلى سيد.
وبين البحار يظل البحر المتوسط وحيدا عنصرا ومركزا، والبحر المتوسط بحيرة طبيعة، وهو ليس بحرا واحدا مع ذلك، وذلك لأن للمضايق التي تقيد حريته؛ لأن لجبل طارق والدردنيل، مصاير درامية،
2
وقد غير المضيق الثالث، وقد غيرت قناة السويس، حياة البحر المحيط، ولكن في زمن حديث جدا.
وغدا سبيل الحضارة، وغدا البحر المتوسط، مركز التاريخ الروحي الذي ظهر من العالم الهمجي في العالم الغربي، وهنالك نشأت جميع أدياننا وفلسفاتنا وعلومنا وفنوننا وتحولت وكافحت ونضجت، ومن هنالك اقتبست نفوس أوروبة وأذهانها طرز حكوماتها وأفكارها وفنونها، ومن البحر المتوسط أيضا أتت عقائد أمريكة ودساتيرها ومعابدها، ولم يتجه خيال الشعوب نحو البحار المحيطة الأخرى إلا بعد الاكتشافات الكبرى. ولذا سيكون لقصتنا لون آخر منذ سنة 1500؛ أي من الجزء الرابع، فيعنى بالتجارة والبيع والشراء أكثر مما بالحركة الذهنية؛ وذلك لأن ذلك التاريخ الذهني الطويل لا يزيد مع القرون بل ينقص في كل دور، وللتاريخ القديم في البحر المتوسط أن يكون أطول مما هو عليه ثلاث مرات؛ ولهذا التاريخ في الرسم الابتدائي أن يوسع بأكثر مما تجده هنا.
ومهما يكن من أمر فإن من المتعذر أن يؤتى ببيان كامل، فتاريخ أمم الشاطئ وحده يتطلب ثلاثة مجلدات، وما أكثر الملوك الذين لم يذكروا في هذا الكتاب! ومن العبث، في الغالب، أن يبحث القارئ فيه عن المفضلين لديه، ولا يؤلف كتاب ك «النيل» إلا رمزا، وهو يهدف إلى حث القارئ على دراسة بعض الأدوار عن كثب في الكتب الأخرى لعدم وجود ما هو منظور في هذه الصفحات، وما قد يرغب فيه من منظور يجده القارئ في الكتب الأخرى أو في المعلمات،
ناپیژندل شوی مخ
3
لا في هذا الكتاب. وتختلف العاطفة والنفرة باختلاف إرادة المؤلف وفلسفته وتكوينه، وبما أنني قضيت سنين كثيرة على شواطئ البحر المتوسط التي أحبها وأحب شعوبها فإنني وصفت بحري المتوسط الذي قد ينكره الآخرون، وليس هذا كتاب سياحة، بل هو الطبيعة والتاريخ كما أراهما. وقد كتب أقدر المؤرخين عن وحي باطني غير مصرحين بذلك من المقدمة، والأغارقة هم الذين عينوا رسمي ما دمت مدينا بكل شيء لآلهتهم وفنهم وحكمتهم.
وإذ إن تاريخ البحر المتوسط حتى القرون الوسطى هو تاريخ أوروبة من الناحية العلمية، فإن من الممكن أن أطبق هنا من التاريخ الوصفي ما كانت تفصيلاته غير مألوفة منذ زمن طويل. ولما اخترت في سنة 1919 ذلك الأسلوب العصري في التراجم كان الفكر الأساسي الذي يساورني يقوم على حتمية العوامل البشرية، ومن ثم على ارتباط كل من الحياة الخاصة والحياة العامة في الأخرى وعلى إيضاح كل منهما للأخرى. وكان يلوح لي أن اكتشاف الإنسان خلف أعماله أمتع من أعماله نفسها، وإذا كان تاريخ الملوك قد درس أكثر من دراسة تاريخ العمال فلعدم كفاية ما هو موجود من الوثائق عن العمال لا ريب.
ولا نرى ما يسوغ دراسة التاريخ إذا لم تهدف إلى استخراج ما ينطوي عليه كل حادث من رمز، والرمز وحده هو المهم، وذلك لأنه مرآة لما بين منازع الناس وقوى القدر من تنازع، وذلك لأنه يفرض مقابلة بين زماننا وانتصاراتنا وهزائمنا في حياتنا العامة كما في حياتنا الخاصة، ومن لم يكن في صميم الإنسانية التي نستدعي ظلها فإنه لا يطلع على غير الوقائع ولكن من دون أن يستنبط شيئا خصيبا إنماء لنفسه.
ومتى شعر القارئ بالأهواء التي أثارت «الأبطال» كما تثيره، تمثل رجل التاريخ وفحص نفسه سرا ليعلم كيف يسير لو كان في مكانه، غير أن تغيير المكان هذا يغدو ممكنا بفضل المؤلف الذي يتمثل ذلك الرجل مقدما. وإذا ما استطاع القارئ أن يستفيد من مقادير الرجال والأمم في سلوكه الخاص على ذلك الوجه، أمكنه أن يقابل بين قدره الخاص وأقدار رجال التاريخ، وهنالك يصير التاريخ مستشاره.
وقد حاولت تطبيق هذا البيان، الذي يجعل من العامل الإنساني قطبا للتاريخ، على حياة الأمم مع مراعاة ثلاثة مبادئ، وهي: أن كل حركة روحية ذات معنى، فالأنبياء والمشترعون والمفكرون والمتفننون عوامل جوهرية في التاريخ، وأنه «لا أصل للسياسة بلا تاريخ، ولا ثمرة للتاريخ بلا سياسة.» فهذا هو من الأهمية ما لا يزال مؤثرا في زماننا، وأن من الضروري إنعام النظر في العظماء، فإذا كانت المآثر خاصة بمتحف التاريخ فإن أكابر الرجال، فإن العاملين والمفكرين، قوام أفئدة الناس وعقولهم.
وتبقى آثار الذهن والفن بعد مبدعيها، ويمضي الملوك وأقطاب السياسة والبابوات والرؤساء والقواد، الذين أعاروا أدوار التاريخ من أسمائهم، وما عملوا أو لم يعيشوا بعدها غير زمن قليل، ولم تبق واحدة من الإمبراطوريات الأجنبية التي تتعب حولياتها ذاكرة التلاميذ.
وصارت جميع المعاهدات والمحالفات قصاصة ورق، والروح التي صدرت عنها وحدها، والرمز الذي تمثله وحده، هما اللذان بقيا، ويعد النفوذ الإغريقي والنفوذ النصراني اللذان مارسهما الإسكندر والصليبيون في آسية من الأهمية كنفوذ العرب في أوروبة، ومع ذلك تبدو لنا صورة المعارك الماضية من المهازئ التي لا يستفيد منها حتى الضابط الذي يدرسها، وتدور معاهدات السلم المختومة رسميا حول ولايات أو مرافئ خربت منذ زمن طويل أو غيرت مالكيها.
وما الذي يستحق الذكر إذن؟ ليست معارك البحر المتوسط التي قام بها تمستوكل وأغريبا ومحمد وسليمان ونلسن وغريبالدي، ولا معاهدات السلم التي عقدها تيودوز وغريغوار وفليب وكافور، وإنما الذي يعين أهمية أحد الأدوار هو الذي يتركه هذا الدور كالحكمة والفن ومرآة جيل ساطع أو خلق رجل عظيم، وللأكروبول وحده من الشأن في حياة البحر المتوسط ما هو أعظم من تاريخ مراكش بأسره، وإذا وجد تاريخ آخر غير تاريخ الذهن فإنه يتجلى في تصوير السمات الإنسانية جوهرا وتصوير أخلاق أكابر الرجال.
وفي ذلك سر بلوتارك الذي هو من أعظم مهذبي الإنسانية، ولا ينبغي أن يؤلف تاريخ العالم وفق المباحث العلمية الحاسمة، بل في سبيل فتن ألوف القلوب التي تهزها تلك العوامل، وسيوضع بعض العظماء الأفذاذ المعتزلين الذين وجهوا التاريخ تحت الرصد كما في كتبي السابقة، ولو لم يقتل قيصر وهنري الرابع، ولو مات أتيلا وشارلكن ولويس الرابع عشر قبل تاريخ وفاتهم، لاختلف لون قرون بأجمعها، أولم نر بأعيننا كل ما يتوقف على حياة ثلاثة رجال أو أربعة رجال؟ أجل، إن الاقتصاد السياسي يقدم بأرقامه معطيات مهمة، ولكنه لا يسفر عن نتائج، وتعوزنا الإحصاءات الصحيحة في بدء هذا الكتاب، ولم يبرز اقتصاد البحر المتوسط وتجارته محكمين إلا من القرن التاسع عشر، وذلك إلى أن الأقاليم والأنهار والمنتجات عرضت معينة لأخلاق مختلف الشعوب.
ناپیژندل شوی مخ
ويسفر هذا السفر عن خلاصة للسياسة العالمية، وهذا هو الرسم الذي جعل منه فردي آمن دوما، آمن في الماضي كما في الحاضر، بأن الروحي أفضل من المادي، ولكن مع النظر إلى ما في تحقيق هواجس المبشرين من بطوء، ولا يستطيع المصلح أو الفيلسوف أو الخيالي أن يصنع زمنه، وما بعض الرجال، كبركلس ومارك أوريل وصلاح الدين، إلا من الشواذ في بلاد البحر المتوسط، وأقطاب السياسة المفكرون، كمحمد، هم الذين رضوا بالأمور كما كانت فكتب لهم الفوز، ومع أن أفلاطون ودانتي أكبر من ذلك لم يتفق لهما مثل ذلك قط، وقد نسي الفاتحون الذين أهملوا الفكر كأتيلا. والواقع أن العظماء الذين ذكروا في هذا الكتاب جلبوا أفكارا إلى الأمم التي قهروها كما صنع الإسكندر، أو تلقوا دروسا من المغلوبين كما فعل بعض رؤساء الرومان والعرب، ومن بينهم من ظهر مشترعا كجوستنيان ونابليون، أو سائرا بالحضارة قدما كبعض البطالمة والبزنطيين أو بعض البابوات أو بعض رؤساء جنوة والبندقية. قال فولتير: «أطلق كلمة «العظماء» على الذين امتازوا في ميدان النفع والإنشاء، وأما الذين خربوا ولايات وفتحوها فهم من الأبطال فقط.»
ويستدعي هذا التاريخ مقابلة بالأزمة العالمية الحاضرة على الدوام، ولا نستطيع أن نتعلم شيئا من الثورات القديمة لا ريب، وذلك لأنها خاصة بحياة أخرى، ولكن مما يفيد أن نعرف الوجه الذي ألف به طغاة الماضي شيعتهم.
وترى المعضلة الديموقراطية هي التي تفرض علينا في كل مكان، وترى الطغيان يصدر في كل زمان عن ديموقراطية فاسدة، وذلك إلى أن يزول وفق تطوره الطبيعي، وتنطوي جميع الديموقراطيات على طغاة مكتومين مرهوبين، مشئومين في الغالب، ويوصف بعض كبراء أولياء الأمور في القرون القديمة بالجبابرة، وليست قيمة الديموقراطية بما تقوم عليه من التصويت العام، وإنما تقوم في أيامنا، كما في عصر بركلس، على ما تعرضه على ذوي المواهب من إمكانيات وعلى رقابة أصحاب السلطة، ولا مراء في أن الرجل الكبير القابض على زمام السلطان يسيطر على دوره في الوقت الحاضر كما في العهد الجمهوري بأثينة ورومة، ولا يعتم مع ذلك أن يغيب مغلوبا بعمله نفسه، وإني تجاه فيض الحوادث التي وقعت في خمسة وعشرين قرنا لم أنزع إلى توسيع وجهة نظرية عما قبل التاريخ، ولن يجد القارئ في هذا الكتاب دراسة حول ما حدث قبل التاريخ من الانقلابات في البحار والقارات، ولا حول مسألة عروق البحر المتوسط الابتدائية التي تتغير بتغير الموضة
4
كثياب النساء، وقد غدت معرفة أي العروق قد سيطر على البحر المتوسط، وأي القبائل التي كان ينتسب إليها ذلك العرق، من الموضوعات الجديدة التي يعنى بها من وقف نفسه من الأساتذة المعاصرين على خدمة الطغاة في الوقت الحاضر، ومن هم «الإيبريون البلاجيون، وشعوب اللغة الساتمية وأمم المثال الهندي الجرماني والحاميون الإيبريون» إن لم تكن هذه أسماء هزلية صادرة عن مختبرات علماء وصف الإنسان في الزمن الحالي؟ وأجدر بي أن أبين أن العروق لم تختلط في مكان ما اختلاطها في البحر المتوسط، فكان في هذا سر عبقريتها.
بيد أن مصدر وحي البحر المتوسط هو المنظر والنور والهواء والماء، وقد بدأت هذا الكتاب في فصل الصيف، وقبل الحرب في البحر المتوسط، وبالقرب من جزر إيرس،
5
ثم قاد منفاي إله غير معروف فجئت بلدا فردوسيا، وهنا تستقبلني روضة اختطها خبير كبير بالبحر المتوسط، اختطها ف. و. جلسبي، الذي حلم بالحدائق في جميع حياته، والجنة التي رسمها منذ خمسين عاما وفق تصميم مغنى
6
إيستي،
ناپیژندل شوی مخ
7
وهنا، حيث يفصلني عن البحر المتوسط ستة آلاف ميل، داومت على كتابة سفري وأتممته ناظرا إلى المحيط الهادئ.
وهكذا حبك ضرب من رياش غوبلن
8
ذو حيوانات وأناس وأشجار وجبال، وفيه تظهر لك رحلات أمم وقسيسون ومقاتلون وأنبياء وشعراء مع مرور ملاحين بينهم في كل مكان، ويمكن الناظر أن يختار ما يشاء هنالك، وبما أنني أحاول دوما أن أحول الأفكار الرمادية أو القرمزية إلى صور غريبة فإنك لا ترى في هذا الكتاب غير الصور.
وإني، بعد هذه الإنذارات حول الوقت الذي قد يلاقيه القارئ في البحر أدعو القارئ إلى ركوب سفينتي التي تتحول من زورق ذي مجاديف إلى مركب ذي أشرعة ومقاذيف فإلى جارية
9
شراعية ثم إلى باخرة دولابية، ولا ريب في أن تنوع المناظر هذا يحول دون سأمه في أثناء سفره على أجمل البحار، وطوافه بين جنوة ويافا وبين البحر الأسود وجبل طارق، ومن عهد أوليس
10
إلى زمن موسوليني.
ناپیژندل شوی مخ
لودفيغ
سنتا باربارا
كليفورنية
يناير سنة 1942
الجزء الأول
إلى المنار
يكمد ظل الزيتونة ويجلس الرجل على مقعد حافظا لعينيه من الشمس بحافة خويذته، فلم يعتم أن أبصر غير محتشم ما يلمع على سطح البحر الغربي من لون وردي، وفروع ذروة الشجرة وحدها هي التي لم تزل تسطع بلون أخضر رمادي غض منارة بأشعة الشمس المائلة عند الغروب، ويسفر وجه الرجل عن أسارير منقوشة بصرامة، والرجل بحار عصلبي،
1
والرجل كهل ما فتئ ينظر إلى الشمس وهي تغيب منعكسة على البحر.
والشجرة قديمة، وقد تكون بالغة من القدم ثلاثة قرون، وهي قد برزت في هذا المكان من بلد شبه همجي نتيجة بذر أتت به الريح من الغرب، وهي قد نشبت بالشاطئ فوق هوة وعرة، وفي صدوع صخور كلسية عالية سهل عليها أن تشقها مع الزمن لتنال أغذيتها من أعماقها حين نموها في الفضاء، وتقوم الساق الرمادية المخضرة بالأشنة
ناپیژندل شوی مخ
2
والمغضنة بألف فلع على تلك الصخور مع ميل، وتتخذ الشجرة وضع رجل عظيم فتبقى في شقها العميق غير ملتوية على الرغم من العواصف والزوابع، وذلك مع فيض أغصانها الفتية البادية من بعيد على الصخر.
وذلك لأن شجرة الزيتون من جذرها إلى ذروتها، حين تنقسم إلى أزواج متعاقبة يكون لأقدمها غلظ الساق، تمثل، على شكل ملموس، نسب فصيلة مسنة يمسك أجدادها بأجيالها فتتعاقب هذه الأجيال فتية خفيفة مهذبة مقدارا فمقدارا، وفي الأسفل، وبالقرب من المقعد، حيث يمكن مس قشرها الخشن المتشقق لم تظهر غير أثر فتاء، وفي الأعلى، وعلى الأطراف، حيث تميل إلى البحر، تتمايل على مهل كما لو كانت حية، كما لو كانت غضة! وفي أطراف فروعها الفتية الخضر الضاربة إلى بياض تهتز ثمارها الصغيرة السود الجاهلة حقيقة الساق التي تحملها جهلا تاما، والشجرة وحدها هي التي تشعر في عروقها القديمة بجريان العصارة الحية التي تنضج الثمار في أقصى أطرافها.
ويلوح أن الرجل، كان يتأمل البحر جالسا تحت الزيتونة منحني الكتفين متوكئ الذراعين، قد كون من جوهر الشجرة والمقعد، والآن ينهض متثاقلا مقرنا كالملاح، ثم ينفض حذاءه الأيسر تخليصا له من وريقات سقطت عليه ولصقت به لصقا خفيفا.
ويمر متأنيا ببيت أبيض صغير متوجها إلى برج عال، وهنالك، على طرف رواق غير منتسق وذي صنوبر على جانبيه منحن بفعل الرياح، يبرز منار على سطح البحر النير، أبيض كالبيت، ولكن مع قوة وإحكام، ولكن مع اختلاف غريب عن برج جرس، ولكن مع خطوط طويلة ونوافذ منضودة، أنشئ من أجل ما يحمل في ذروته، وكان ذلك بيتا مدورا زجاجيا خيالي المنظر، وكان يتوج البرج الطويل المسدس الأضلاع، وكان مغطى بسقف على شكل مظلة ذات التماع أحمر، لا ريب، حين فتاء البرج والصنوبر.
ويرقى الحارس في المنار رويدا رويدا، وأول ما يعنى به قبل خدمة الليل هو فحص المصباح الذي هو روح الجميع، وتطن أعقابه
3
على الدرج الحجرية، ويغدو صوت خطواته وارتفاع الدرج أمرا مألوفا لديه في غضون السنين العشرين التي قام فيها بتلك الخدمة بعد مغامراته في أثناء الحرب العالمية.
وفي الأعلى تؤدي مرقاة حديدية ذات ست عشرة درجة حلزونية إلى البيت الزجاجي، ولا يزال هذا البيت غارقا في فوران من الشفق أحمر وأصفر مع ألف انعكاس عابث في عدسة وجه المصباح الذي يستدق في أعلاه وفي أسفله كالكمثرى، ولا يكاد الجسر الضيق المستدير حول المصباح يدع ممرا للحارس، وهو يبدو نذيرا له بألا يسمن مع حياته الحضرية، ويؤدي ما في الجذل
4
ناپیژندل شوی مخ
من انحراف خفيف إلى نفوذ رأسه وذراعيه في فضاء داخل القفص الزجاجي الذي رفع في وسطه، وفوق حلق من النحاس الأصفر، مصباح كهربي عظيم كامد فاتر منتظر قيامه بخدمة، ولو ترك هذا المصباح وشأنه ما كان له نور أقوى من نور مصباح سيارة على قارعة الطريق، ولكنه يبلغ بما يعلل به من المواشير
5
قوة 150000 شمعة فيرى من بعيد، يرى من نحو عشرة فراسخ.
ومع ذلك يظهر النهار غير راغب في ترك حقوقه، ومع ذلك يظهر النهار راغبا في جعل نوره مائة ضعف، وتضيء الوجوه الألف للعدسة الضخمة وجه الحارس بأشعتها المحرقة الملونة بألوان قوس قزح، وتتحول يده إلى طيف سحري كثير الألوان حينما يرفعها لفحص حلقة تحت المصباح، والآن يخرج رأسه من القفص البلوري حذرا، وهو يحقق، بنظرات يلقيها، جلاء الألواح الزجاجية المجوفة وسطحها السليم، وهو ينفخ في موضع دفعا لخيط، ثم يقوم بجولة أخرى حول الجسر الضيق بين المصباح والنوافذ الخارجية.
ويشعر الرجل الذي يرفعه بمجيئه منذ زمن طويل، وهو يقابل بين مذكراته وأدوات النور والأدلاء والصفارة البخارية واللاسلكي، وهو يفحص الجهاز الطنان الذي يتصل المصباح به آليا عند وقوفه أو انكساره فجأة.
وترانا في المنار الكبير القائم بإحدى جزر إيرس والذي يرقب ساحل البحر المتوسط الفرنسي من وسطه في جنوب طولون الشرقي، وذلك منظر جاف روائي، واليوم، في شهر أغسطس، يبدأ عمل الليل في الساعة السابعة، حتى في النهار، حين لا يشعل المصباح، لا بد من وجود حارس هنا لتسجيل الضباب والزوابع وللإجابة عن الاستعلامات باللاسلكي، والآن يأخذ الحارس خويذته قبل أن ينصرف كما يأخذ من المنضدة كتابه الذي كان يمسكه في ساعات العمل.
وينظر الحارس الجديد إلى الساعة الدقاقة، ويفحص الألواح الأربعة أو الخمسة الموضوعة على المنضدة، ويلقي نظرة على العتلة والإبر والساعات الدقاقة والهاتف واللاسلكي، ثم يسجل في دفتر وقت بدئه العمل؛ أي الساعة السابعة والدقيقة الثالثة والعشرين، وكون الجو جليا وكون سرعة الريح ضعيفة، فيلوح سكون الليالي على البحر المتوسط في أول الأمر، وتلك مصلحة لا تتطلب غير حضور الرجل المسئول وسهره في ذلك المكان بين الأجهزة التي تعمل بلا ضوضاء.
ويلقي نظرة أخرى على جميع الأجهزة، ثم يذهب إلى المكتب الكبير، ويدير عاكس التيار الصغير، فبعد هنيهة تبصر شعاعا قويا من النور يلقى، بحركات بطيئة مستديرة، على المنظر الذي لا يزال ينيره النهار إنارة ضعيفة، وتسفر ضغطة يد عن إضاءة المصباح في الأعلى، ويدور شعاع النور الثاقب المصنوع حول نفسه أحمر أبيض أزرق في فترات قصيرة، في كل أربع ثوان، وذلك هو فنار
6
الجزيرة الذي تعرفه جميع السفن من الخارج أو تسجل أمره في يوميتها حينما تبحث عن مكان لها، ويكفي مصباح واحد كذلك ينعكس نوره بوجوه العدسة العظيمة ليرى الملاحون ألوانها المتقلبة على مسافة عشرة فراسخ من جميع الأطراف، وهذا اختراع فرنسي تم في أواخر القرن التاسع عشر، واليوم لا تزال فرنسة تنتج تلك العدسات حتى من أجل مناور كاليفورنية.
ناپیژندل شوی مخ
ويستوي الحارس على مقعده مرفها، ويضيء المنضدة مصباحه الصغير فيستطيع بذلك أن يرقب كل شيء، وماذا يصنع الآن؟ يقرأ، وهذا ما يقضي به حراس المناور لياليهم في جميع العالم، ومن النادر أن يقرءوا روايات، وهم يطالعون تاريخا في بعض الأحيان، وكلهم يأتون من البحر، وكانوا كلهم ملاحين، ويملأ البحر قراءاتهم كما يملأ خيالاتهم، ولو عدلوا عن ركوب البحر، وهذا الفرنسي، الذي كان قد طاف في جميع البحار، هو من مواليد هذا الساحل الجنوبي، وكان أجداده من البروفنسيين.
واليوم يتناول الكتاب الذي تركه له رفيقه، وهو يقلبه غير مرة عن عدم دراية كمن يبدو فاحصا ثخنه وثقله مع وجود البرميل بين الصور، ثم يفتحه من صفحة الحارس، ويتكئ على الكرسي ويبدأ بالمطالعة.
وفي الكتاب خبر عن مصاير البحر الذي يرقبه في مكان معين، ومن عل، مناره الدوار، وهو، وإن كان ينقل بالكتاب إلى ماض بعيد، لا يلبث أن يعرف كون البحث خاصا ببحره؛ أي بالبحر المتوسط.
اكتشاف البحر المحيط
1
ينظر إلى الغرب رجل قوي لحياني جالس على حجر فوق شاطئ البحر واضع مرفقيه على ركبتيه مسند ذقنه بجمع كفه، موترة جميع تقاطيع وجهه، وتذرف عيناه عبرات كبيرة رويدا رويدا، وتتدحرج على لحيته وتبلغ شفتيه، وهي من المرارة والملوحة ما للزبد الذي يتدفق نحوه، وهو يشعر بمثل تلك المرارة في فؤاده، وماذا أصاب هذا الرجل الحزين الجالس على ساحل البحر إذن؟ وأين نحن؟
على شاطئ جزيرة، على شاطئ مالطة على ما يحتمل، وفي الأسطورة تسمى أوجيجي، والرجل يدعى أوليس، وكان مرتبطا في البحر المتوسط ارتباطا وثيقا مدى حياته، وقد ولد في جزيرة وأبحر نحو جزر على سفينته المصنوعة من صنوبر وحمله البحر من جزيرة إلى جزيرة حتى تروادة، وهنالك أيضا لم يبتعدوا عن سفنهم، وتسكن الجزيرة حورية إلهية، وتمسك أوليس منذ عام في الجزيرة حيث زورقها الآن، وهي لا تستطيع أن تشبع من قوة هذا الآدمي ، وتعرض كالبسو حياة إله عليه، ومع ذلك يعرضه أوميرس قاعدا على رملة باكيا، وهو المغامر الأكبر، وهو أعظم الماكرين، وهو أعظم المقاديم، هو يحلم بجزيرة أخرى أوسع من هذه مع نبات مماثل وحيوان مشابه لما فيها! وفي إيتاك أبصر النور، وله فيها منزله وزوجه وولده، وبوطنه يحلم أوليس باكيا.
وتعزم حاميته الكبرى، أتينه على إنقاذه، ولما اطلعت كالبسو على حكم الآلهة شكت قسوتهم إلى هرمس متحسرة.
ولكن ها هي ذي تخرج من كهفها وتنزل باسمة إلى الرملة حيث يقضي حبيبها أيام وحشة، وهي تخبره بأنها ستعينه على إنشاء سفينة يتمكن بها من العود إلى بلده، ويخامره ريب في بدء الأمر، ثم يملأ أملا فيتبع الحورية، ويسار به إلى ساحل محاط بأشجار صنوبر تناطح السحاب، وهي تدله على شجر جف بفعل السن فيصلح لصنع ألواح متينة منه، ويسقط أوليس عشرين ساقا، ويتخذ أوليس من التدابير ما يجزئها معه بالآلات النحاسية التي جلبتها الحورية إليه، ثم يضم بعض الألواح إلى بعض بدسر
1
ناپیژندل شوی مخ
وكلاليب، فيجعل منها طوفا.
2
والآن ينصب أوتادا من كل ناحية، ويثبت ألواح بلوط ثخينة، ويصنع من الألواح جسرا، وينصب صاريا،
3
ويضع دقلا،
4
ثم يحط السكان، وهو يجهز الجميع بحصائر من صفصاف، ويودع القعر حجارة لتكون صابورة،
5
والآن تأتيه كالبسو، التي يتجاذبها الغضب والغم دائما، بنسائج ليفصلها قلاعا،
6
ناپیژندل شوی مخ
وهي تبصره يعقد حبالا معدة لإدارة الأشرعة حول السارية، وهي تراه يصنع في نهاية الأمر عتلة يستطيع أن ينزل الرمث
7
بها إلى البحر، ويتم أوليس عمله في أربعة أيام من غير أن ينال عونا أبدا، وفي صباح اليوم الخامس، وبعد وداع يمزق الفؤاد، تأتيه الحورية بقربة مملوءة خمرا وبقربة أخرى مملوءة ماء مع أغذية في سلة محبوكة فيضع ذلك في سفينته الجديدة، ثم توجب نسيما لينا أمامه، وذلك ما يقصه أوميرس علينا في الأغنية الخامسة.
ويشق زورق أوليس عباب البحر المتلاطم في ثمانية عشر يوما، غير أن الزورق يتمايل ويهتز بعنف، ثم يتدهور الرجل في الأمواج، وتقذف العاصفة أوليس نحو صخر الشاطئ مختنقا ، ويسبح أوليس حتى مصب النهر، ويسقط في أدغال حافة غابة ميتا تقريبا داعيا همسا.
وكانت الجزيرة الجديدة التي بلغها أوليس بلد الفياك؛ أي سفالونية على ما يحتمل، وفي هذه المرة أيضا تنقذ امرأة تيس المغفرة وصاحب الآلهة، ونوزيكا هي التي ودت إمساكه، وهي التي لم تتعب من سماع حديثه عن قصة ترواده وكيف أنه تاه بين جزيرة وجزيرة هنالك، في الغرب، حول جزيرة صقلية، وأخيرا يغمر بهدايا ثمينة ويركب قاربا ذي مقاذيف، ويعده ملاحو الفياك بأن يرجعوه إلى إيتاك، وهذا هو آخر سفر له، ويضطجع أوليس على وسائد ونسائج ويذكر معارك السنين الماضية وآلامه، ثم ينام نوما عميقا هادئا قريبا من الموت تقريبا، ويصل الملاحون إلى إيتاك بعد نهار وليلة، ولكن أوليس ينام دوما ويرفعونه ويضعونه على الشاطئ غارقا في نومه، وذلك مع بسطه ووسائده، وذلك أمام مغارة وتحت ظل زيتونة.
وهكذا تتم الرحلتان الأوليان بحرا، فتوحي غيوم البحر المتوسط وأمواجه بهما إلى الأسطورة فتنا لقلوب الناس، وقد وصفت العواصف والسكون والشواطئ والصخور والأطواف والسفن والكهوف والبساتين والمعارك بين الأمم وقرى النساء ومعاشقهن والقدر حين يحلق فوق الجميع، والقدر إذ يتجلى في شخص الآلهة دائما، تغير الآلهة، بنعمها ووعيدها، ما هو أزرق من الأمواج، وتنظم مجرى مغامرات جديدة على الدوام.
وذلك لأن البحر المتوسط أجمل من جميع البحار، وهو البحر المختار بين البحار الأخرى بوضعه وشكله وجوه، وهو أول ما اكتشف وما وقع الطواف فيه، وهو هيلانة البحار، وهو مثلها مبتغى جميع من أبصروه فافتتحه أكثر الناس إقداما بعد معارك دامت ألفي سنة، لا عشر سنين، ثم كدر صيته بما نالته من الفخار بحار أحدث منه وأبعد، ثم أعيد اكتشافه بعد ثلاثمائة سنة، فاقتتل في سبيله مجددا على مرأى منا، ولماذا؟
أوليس أصغر من البحار المحيطة المحدقة به؟ أولم تفتح هذه البحار المحيطة في الحين بعد الحين من قبل سفن كبيرة وتجاوز في بضع ساعات على أجنحة الفضاء النشوى؟ ولم يقتتل في سبيله إذن؟
ذلك لأنه مهد الإنسانية، ذلك لأن كل واحد يعلم أن من صميمه ظهر الجمال والعرفان والبأس، والناس يعودون إلى البحر المتوسط كما يعودون إلى أمهم.
2
ناپیژندل شوی مخ
من النادر أن يذهب الناس إلى كونهم جزريين، ويولد الناس فيما يسمونه قارات فيشغلون ربع وجه الأرض التي يستر بقيتها عنصر لا يصلح للسكن ولا يقهر على الدوام؛ ولذا يظل فتح البحر أجدر مآثر البشر بالذكر، ولا يقاس به حتى قهر الهواء، فالأمواج مرصعة بالجزر، ولا يوجد بين السحب ما يرتاد وما يفتح.
ولمن يولد قريبا من البحر هبة ذات أسرار، فهو في فتائه ينام على الرملة مساء، وهو يهدهد
8
بارتداد الأمواج إلى الوراء، وذلك ليصحو في كل صباح على صوت واحد، وتمتاز هذه الملايين القليلة من أهل الجزر بين الجميع، فيسهل عليهم أن يتعارفوا بين سيف
9
وسيف، ولو لم يغادروا اليابسة، أو لو تحولوا عن حياة الساحل، وهم يمتازون من مليارين من الآدميين الذين لا تتمثل لهم بيئة غير الأرض الصلد والخصيبة مع غابها وحقولها وجبالها وأنهارها ومدنها وبيوتها، والزلازل وحدها هي التي يشكون بها في صلابة سافاتهم
10
أحيانا.
ومن يعش على ساحل البحر وينظر دوما إلى الآفاق الواسعة البعيدة يكن لديه من البصر في دوافع الإنسان في الرب والحب والموسيقى، ما هو أعمق مما لدى غيره، وهو إذا ما تعب من طفاح الأرض الأبلق الصاخب الذي أحبه زمنا طويلا تحول عنه ذات يوم إلى الواسع الصامت منتقلا من المحسوس الخاص إلى غير الملموس العام. وهكذا كان جميع الفلاسفة من أهل الجزر، ولو عاشوا في داخل البلاد، وهكذا نشد البحر رسل جميع الأديان، وعن الإليات
11
ناپیژندل شوی مخ
كان القدماء يقولون إن الروح التي ساقتهم إلى البحر الغربي قادتهم أيضا إلى أقيانوس
12
الفكر الخالص.
وما يوحي به البحر المحيط من وجل وجمال مناوبة فيعد شاهدا على عظمة العنصر البحري واتساعه وعطله من الشكل بحيواناته المستورة ونباتاته الغارقة وجباله المغمورة، وهو يهيمن على الحياة التي تكثر في الجزر ويسيطر على ما وراء الشواطئ، ويمتد سلطانه إلى قلب القارات.
ويمكن قياس البحر بالموت الذي يستقبل الجميع ويساوي بينهم، ويمكن اتخاذ الأنهار التي تجري فلكهم عليها مثلا للناس حينما تصب وتمتزج بهذا الجامع الأكبر، بالبحر، ويركم المزار الواسع الجاثم، غير مرتاد، في قعر البحار المحيطة والمزداد دوما بغنائم جديدة، ما عند الجزريين المقاديم من نشاط حيوي، ويعد المدفن الذي لم يعين بأثر، ولم يدرك من يقذفون أزهارا في مكان غرق من البحر عظمة هذا العنصر، والغواص وحده، وهو المشابه للعالم الذي يكتشف غير المرئي بمجهره، هو الذي يستطيع قولا عنه، ولكن من العادة أن يلزم جانب الصمت.
ومع ذلك لم يكن الحكماء، ولا القانطون، هم الذين فتحوا البحر، وهؤلاء لم يفعلوا غير تأمله زاهدين، وأول من خاضوا غماره، ومن لا يزالون يلبون نداءه هم ذوو الجرأة والإقدام والفضول ومحبو مسرات الحياة، وهم على الشاطئ، وحين يضعون أيديهم على حواجز موضوعة أمام أعينهم وقاية لأنفسهم من الشمس، ينعمون النظر في الجزيرة المجاورة، ثم يذهبون لفحص السفينة في الميناء متسائلين عن إمكان مقاومتها للعاصفة والأمواج. والرجل في بدء الأمر قد أراد أن ينتقل من جزيرة إلى أقرب جزيرة راجيا اصطياد أسماك أخرى ورؤية أشراك أخرى، ومشاهدة مختلف الزوارق التي رددت الأسطورة صداها إليه، ولا غرو، فهو جزري يبحث عن جزيرة ثانية.
وذات يوم يرى مع الحيرة ملاح أسفرت مائة قذفة مجداف وريح ملائمة عن حمله إلى الخضم،
13
ويدرك هذا الملاح كيف أن كل شاطئ، مهما ضؤل، يمس البحر العام كما يشترك أوضع الناس في مصير البشرية، ويبعد شيء من الفضول، لا الطمع، ذلك الملاح من الساحل كثيرا، وهو لما اتفق له من اكتشاف جزر جديدة وسواحل جديدة، يطلع على ممكنات جديدة، وينشئ سفنا ضخمة، ويجهزها بالأسلحة ما حاول الجزريون الأجانب أن يحولوا دون نزوله إلى البر، وهو، لعدم انتسابه إلى شخص، يعد ملك الجميع، فيجتذب من هو مقدام ومفكر، وهو لا يعتم أن يجمع بين مصايرهم.
وذلك لأن ذوي الشجاعة والطموح يتخلصون من حقولهم ومنازلهم وأرضيهم فيتكسبون بسفنهم القصفة من سواحل مجهولة، ويتجلى حب السلطان فيمن لم يستطيعوا في البر أن يتوسعوا بسبب جيرانهم، وفي البحر، حيث لا يسيطر أحد، يمكن الاتجار مع جزر أجنبية، وما السلب، وما الكبس، ما وجد كسب كثير! ذلك عنصر لا يقهره أحد، ذلك عنصر يغضي على كل شيء، وهو لا يثور إلا نادرا، إلا حين يعصف ضد المقاحيم الذين يحاولون إخضاعه، وهنالك، على الخصوص، تبصر الشواطئ الأجنبية التي تتيح نيل كل شيء ويسهل ذلك كلما بعدت، ومن الملاحين الأذكياء من انطلقوا من جزيرة ففتحوا بقاعا واسعة، ومن الملاحين من أتوا من موانئ صغيرة واقعة في مداخل ضيقة كأثينة والبندقية ولوبك فأقاموا سلطانهم البحري من غير أن ينالوا حماية بلد قوي، من غير أن يظفروا بمساعدة جيرانهم الذين ظلوا في البر، والبحر من هذه الناحية كان حرا دائما لتعذر رسم حدوده ولتعذر احتكاره باستمرار، فلما حظرت قرطاجة على اللاتين كل ملاحة في غرب الرأس اللاكوني اغترت ثم غلبت، ومن العبث أن حاولت جنوة إبعاد البروفنسيين من صقلية بمراسيم، وعن رغبة في احتكار الملاحة والصيد أراد البندقيون أن يحتفظوا بالبحر الأدرياتي وأراد الترك أن يحتفظوا بالبحر الأسود وأرادت الولايات المتحدة أن تحتفظ ببحر برنغ، ولكن على غير جدوى، وسواء أبالعمل أم بالحرب لا يمكن البحر أن يشرى أو يوزع أو يقسم إلى مناطق كما استطاعت الشعوب أن تصنعه في اليابسة.
ناپیژندل شوی مخ
وكل هنا دوار أو غير موجود، ولم تسطع دولة أن تسيطر على البر زمنا طويلا، وفي البحر كانت الصدارة للرومان بعد قرطاجة ثم غدت لإنكلترة بعد سقوط نابليون، وفي البر لا بد من توكيد كل معركة في جميع الجبهات حتى تكون حاسمة، ولكن مما يحدث في بعض الأحيان أن انتصار الأسطول يعين مستقبل دول عالمية، وقد وفقت رومة، الدولة البرية، لتكون دولة بحرية، وهذا الذي لم يتفق لفرنسة، وفي حرب وراثة العرش الإسباني تجاذبت إنكلترة رغبة المحافظين في الركون إلى أموالهم وطموح أصحاب السفن من أبناء الطبقة الوسطى، وطموح التجار، إلى البحار، ولم يحدث في غير وقت متأخر نزوع جميع الأمة إلى إقامة دولة بحرية.
أولا ينال في البحر دوما ما يحال في البر دونه بسبب كثرة الحواجز والأنهار والجبال والترع والقلاع؟ أولم تغلب أثينة الصغيرة دولة الفرس؟ أولم تقض إنكلترة، كما قضت هولندة الصغيرة، على الحلف القوي بين إسبانية والبرتغال وفرنسة؟ أولم تخز فينيسية الهيفاء الجبار التركي؟ وفي هذه الأحوال بلغت أعظم المقاصد فوق البحر، وفي نطاق ضيق على العموم، وأحسن من ذلك صدور عظمة جديدة عن كل دولة بحرية، وذلك لما توجبه من إثارة حب الاطلاع والتعطش إلى المجد، وذلك لما تتضمنه من تحد لمهارة أمم ما وراء البحار التي تتحرق لبلوغه، ولما قهرت صقلية رومة كان همها الوحيد أن تصبح دولة بحرية، وكان لا بد للفرس من السيطرة على البحر حتى يقهروا دول اليونان البحرية، ولم يتعلم مرفأ سرقوسة القوي أمر الملاحة الحقيقية إلا بعد تحاك بينهم وبين الكورنثيين، وإنما كان لدى الصقليين من كثرة الأرضين ما يصيرون به أصحاب دولة بحرية كبيرة.
ووجب على فرنسة أن تصنع مثل ذلك أخيرا، ومع ذلك، وعلى الرغم من المعارك والانتصارات التي تفرق بين الأمم الراغبة في الفتح، ترى البحر الصامت العقيم خط وصل بين الشعوب البعيدة، وناشرا للحضارات التي تذيع في البر بأبطأ من ذلك، والبحر، بأعماقه ومجاريه وأجوائه المختلط بعضها ببعض، يلوح أنه وجد لينقل حتى نهاية العالم سلعا في قعر السفن وأفكارا في أدمغة الملاحين وقلوبهم. وإذا كان الملاح يحب الغصب والسيطرة فإنه يريد التجارة والمبادلة ومحادثة الأجانب وملاعبتهم النرد أيضا، وهو يرغب قبل كل شيء في معرفة النساء الأجنبيات، ذوات العيون والشعور الغريبة واللابسات المزينات بأبدع طراز، وجلبهن لا عن قوة دائما.
والأحرار، لا المرتزقة، هم الذين جاوزوا البحار للحرب فيما مضى، وكما أن الصليبيين انتهوا إلى مواثيق غريبة بين الأمم البعيدة يرى أن الملاحة أسفرت عن وجود اتفاق دولي لا يقاوم، وقد قام بين رجال البحر من الصلات والصداقات ما يحول ضيق الأفكار والزهو والحذر دون وقوع مثله داخل القارات، وإن ريح البحر التي حملت بذور نباتات مصر إلى إيطالية هي التي نفخت ملايين الأشرعة، فمن تحت الأشرعة جلب الرجال في كل زمن أفكارا ومنتجات إلى أقصى السواحل.
3
تولي البشرية وجهها شطر الغرب، ونبحث عن النور ورسالته الصباحية عن إيمان وعزم، ومع ذلك نبتعد عنه مقدارا فمقدارا، وليست رمزا تلك السرعة التي نحلق بها فوق المحيط الهادئ ونلقى بها الشرق، فالحضارة لا تطير، وضياعها في طيرانها، وأصح من ذلك انتقال البشرية من البحر الأصغر إلى البحر الأكبر؛ أي من البحر المتوسط الشرقي إلى البحر المتوسط الغربي، ثم إلى المحيط الأطلنطي فإلى المحيط الباسفي، ولا عجب فالأغارقة كانوا لا يعدون بحرا لهم غير بحر إيجه الواقع شرق البحر المتوسط، وللملاح فيما مضى تحذير في المثل القديم القائل: «إذا ما جاوزت رأس إسبارطة فانس مسقط رأسك»، وما كاد أوليس يعرف البحر الأدرياتي ما كان هذا البحر عالما معاديا ممتدا غرب صقلية مملوءا بالرياح والمجاري الغريبة، وذلك مع استثناء قليل من القرطاجيين والأغارقة كانوا من الجرأة ما ابتعدوا به عن الشاطئ فاكتشفوا ساحل المحيط الأطلنطي. بيد أن مدلول هذا الساحل ووجود بحر هنالك أعظم من البحر المتوسط بمراحل من الأمور التي ظلت مجهولة لدى الجميع، حتى لدى النورمان الذين طافوا في أجزاء منه قبل كولونبس بخمسة قرون. وقد سهل على البحر المتوسط أن يعير نفسه من الملاحين الأولين في أسفارهم لما يشتمل عليه من مداخل كثيرة إلى داخل القارة. وإذا كنت لا تجد من البحار ما هو أغنى من البحر المتوسط بجزره، فإنك لا تجد ما هو أكثر منه فرضا وخلجانا، ويؤدي مضيق خليج بتراس إلى بلاد اليونان الوسطى وإلى البسفور وإلى أوروبة الشرقية. ونرى شبها عجيبا بين بحرنا المتوسط، هذا البحر الداخلي، وبحرين آخرين، فكما أن البحر المتوسط يصل بين أوروبة وأفريقية يصل بحر الصين الجنوبي بين آسية وأسترالية، ويتشابه كلا البحرين بجزره الكثيرة وشواطئه المعقدة، ويكاد بحر الأنتيل يقطع أمريكة من وسطها فلا يترك لها غير عصابة دقيقة هنالك. ولكن البحر المتوسط الذي هو بطل هذا الكتاب ذو صفة جوهرية يختلف بها عن ذينك البحرين، فهو بحيرة تغذيها ثلاثة مضايق كما لو كان غديرا.
وتعين الصفة الأساسية للبحر المتوسط، الذي يشابه بحيرة داخلية، تاريخه وحضارة الإنسانية وأخلاق أمم الساحل، وهي تبلغ في تعيينها ذلك درجة يسأل معها عن الناحية التي يكون مدينا لها بشكله الغريب. وهنا يتجلى لهو علماء الأرض الذين ألقوا بأنفسهم على رأس مجلدات تامة من اللعنة والوعيد، وتعدل هذه المناقشات أقاصيص التاريخ لغوا لخلوها من أساس ثابت يستند إليه، وما قبل التاريخ هذا هو افتراضي كما قبل تاريخ الأمم، وعلى العكس ينشر أثر الحوادث التي وقعت منذ خمسة وعشرين قرنا حول البحر المتوسط وفوقه معارف هي من القيمة ما لا نرى معه أن نتأخر في ظلام ما قبل التاريخ. وعندنا أن أقل معبد إغريقي أغنى معنى من حجارة دوردونية الشهيرة التي يجادل في أمرها ليعرف هل كانت مصقولة منذ خمسة عشر ألف سنة أو عشرين ألف سنة، وندع فخم الكلام جانبا فنعرض طبيعة البحر المتوسط على غير المتخصصين بأحسن إيضاح.
يرى أنه كان يوجد في العصر الجليدي سهل في محل البحر المتوسط مع وجود بحيرتين كبيرتين كثيرتي العمق كالبحر الميت واقعتين في الغرب والشرق، ولكن مع اتساع كبير، فلما ذاب الجليد فاضت تانك البحيرتان لتجتمعا ولتؤلفا بحيرة داخلية واسعة واحدة، وهل الأرض هي التي ارتفعت أو إن البحر هو الذي هبط في ألوف السنين؟ ومهما يكن من أمر فإن الأسداد، التي تؤلف آخر الحواجز فتفصل البحر عن البحار الأخرى، كنست إلى الدردنيل وجبل طارق، ويترك هذا الفيضان العظيم، الذي يذكر في جميع كتب الأساطير باسم «الطوفان»، بعض أجزاء جبلية قائمة فتبدو جزرا، ويغدو أرخبيل بحر إيجه ممثلا لذرى سلسلة جبال تنتهي في أقريطش، ومما حدث قبل ذلك الطوفان أو بعده ظهور ثغر وغضون في القشرة الأرضية ووقوع زلازل بركانية وخسف في قعر البحر الجديد، وفي الشمال يلوح سير شعبة عظيمة من البحر المتوسط مع المساند الخارجية لجبال الألب والكربات وبلوغها فينة وهنغارية، والقفقاس أيضا. وتعد الوهدة «السورية » التي تمتد إلى أواسط أفريقية الشرقية دليلا على ثورانات لاحقة كالوهدة الإغريقية وعدد غير قليل من الوهاد الوعرة التي يوجد في البحر اليوناني منها واحدة من أعمق ما في الكرة الأرضية من الهوى الواقعة تحت البحار.
ومن مستحاثات الحيوان التي لا تستطيع أية نظرية أن تبتدعها أو تبطلها، ما يتخذ أحسن برهان على ما بين أفريقية وبلاد البحر الراهن وجزائره من صلة قديمة. ومما وجد على جزائر بحر إيجه، التي كانت متصلة بالقارة فيما مضى، مستحاثات تدل على نزول دببة وذئاب من جبالها نحو الجنوب وعلى صعود وعاوع
14
ناپیژندل شوی مخ
وأنمار نحو الشمال، وتوجد هياكل عظمية لأسود بالقرب من فلورنسة، ولفيول في مالطة، ولبقر ماء في أقريطش، ونحن، الذين يربطون اسم أقريطش واسم مالطة بسلك أريانة الأحمر وبجبال السفن الإنكليزية، ننعم النظر، مع دهش ساخر، في سيطرة أبناء السودان أولئك على الميدان الممتد أمام بلازو فيشيو، وفي اغتسال بنات النيل أمام مسرح كنوسه العظيم، وفي فيل يرفع أثقالا هادئا فهده طيار طلياني في ميناء مالطة.
أليس من المنعش أن يشعر بحلقة سلسلة لا نهاية لها؟ وإننا حينما نجد على منحدرات إتنة، وعلى سبعمائة متر، صدفا شاهدا على وجود بحر في هذا المكان قديما، وإننا حينما نجد اليوم آثارا إغريقية قديمة تحت الماء، نرى الحق بجانب رئيس بلدية مدينة واقعة على ساحل تسالية لمنعه حديثا، كما يروى، شيد بناء للبلدية على الشاطئ زاعما غمر البحر هنالك في ألف سنة.
وفي كل مكان، وعلى الشواطئ وبين الجزر، تدل آثار انفتاق على الطوفان الذي أسفر عن شاطئ البحر وجزائره، ولم تنقطع هذه الانقلابات تماما، وهي ما انفكت تشكل تلك البقعة، وما حدث من استبار خليج قابس (سرت الأصغر) أظهر استدارات القارة التي غابت في هذا المكان من البحر في دور من أدوار التاريخ على الأرجح، وترتفع جزيرة بنتلرية من عمق ألف متر فوق مستوى البحر لتبلغ من الارتفاع 800 متر، وكان هذا من عمل بركان استيقظ بغتة سنة 1891 فرفع ساحل تلك الجزيرة الشمالي في أقل من ساعة على ما يحتمل، وكان النيل يصب في البحر من ناحية الشرق مصلحا أرض فلسطين، واليوم لا تزال ترى في جنوب الكرمل من التماسيح ما صار نادرا في النيل الأدنى، وبالأمس قطع في غرب قلورية
15
ما تحت سطح البحر من أسلاك الهاتف بقوى غير منظورة.
ولا يزال صوت البراكين يسمع مرهوبا في البر، ويمكننا أن نتمثل ما حصل من تخريب في الماضي عند مقابلته بما وقع من فورانات في الزمن الحاضر، ومع ذلك كان لهذه الفورانات نتائج نافعة، وذلك لأن الينابيع الحارة والأرضين الخصيبة التي تزدهر عليها أشجار الزيتون والكرمة في عالم البحر المتوسط بركانية المصدر، فالثمار تخرج من الرماد كما تخرج الأفكار الجديدة من الثورات، ولدينا وثائق ومواقيت منذ بدء أقدم التواريخ.
وفي سنة 425 قبل الميلاد حدثت أول «زلزلة» في قناة جزيرة أوبه، وفي سنة 1894 بعد الميلاد حدثت آخر زلزلة فيها، ولشد ما يذكرنا هذا العود الجديد بعود ما نشاهده اليوم في ذلك البلد من الفتن! وكذلك نقرب بأفكارنا فناء البشرية من فناء العناصر، فيكون لنا بذلك شيء من الصحو، وذلك عندما تحدث البراكين جزرا بأسرها وترفعها من البحر لتعود فتبتلعها مجددا كما أسفر عنه ثوران وقع سنة 1831 في جنوب صقلة.
وظل بعض العناصر مشابها لبعض في غضون ألوف السنين، وقد تضحك الآلهة حين اطلاعها على إيضاحات عن غابر الأزمان في كتب لأعضاء المجمع العلمي، فيقررون تصحيح هذه النظريات في الغد على ما يحتمل. وفي الوثائق القديمة ذكر لكثير من الفيضانات، ووصف لغرق مدينة إليس، القريبة من كورنث، مع سكانها، كما حدث لساحل ليمني
16
الشرقي، وبيان لسترنبولي الذي هو بركان يدوي بلا انقطاع ولا يخبو أبدا، وما فتئ هذا البركان يزيد حجما منذ القرون القديمة، وهو شيخ البراكين لهذا السبب، وهو يشابه بدخانه الثابت على شكل المظلة وهدره الدائم شائبا راغبا في إلقاء خطبة من غير أن يجد ما تقتضيه من الكلمات. وقد عانت الأندلس وقلورية زلازل عنيفة كما عانى المنحدر الجنوبي من جبل برناس، غير أن جمال أثينة ظل سليما تقريبا، والرجال هنالك هم الذين قوضوا حتى ما صانته العناصر.
ناپیژندل شوی مخ