وقد دعي الوندال إلى مساعدة رومة من قبل أرملة أحد الأباطرة، فكان جنسريك أول أجنبي نزل إلى أوستي، ويجد هنالك قوتين متنافستين؛ وذلك لأن الأباطرة كانوا يقيمون برافين عادة فأقاموا فيها بلاطا ثانيا في ذلك العصر. وقد استقبل البابا ليون الأول رئيس الوندال عند أبواب رومة فعرف كيف يعامله بمهارة فحرم جنسريك على كتائبه إحراق رومة، وهنالك وجه جنود الوندال همهم، وذلك بعد نهب رومة من قبل ألاريك بنصف قرن، إلى آجر معبد جوبيتر الذهبية وإلى آنية اليهود الذهبية التي كان تيطس قد سرقها من هيكل سليمان منذ أربعة قرون. إذن، نقلت هذه الشماعد والذخائر من رومة إلى قرطاجة حتى جلبها فاتح إلى بزنطة بعد حين، ثم عادت إلى أورشليم كما يلوح، وذلك لما كان يصيب حائزها غير الشرعي من لعنة.
وكان أربعة شعوب كبيرة من الشمال في طريق الفتح في ذلك الدور؛ أي حوالي سنة 450، فأوغل التشك الذين هم من الصقالبة في بوهيمية ومورافية، وانتقل الإنكليز والسكسون والجوت إلى الجزائر البريطانية، وفر البريتون السلتيون إلى بريتانية عند دنو أولئك، وأقام الوندال والألين ممالك في صقلية وأفريقية، وتقدم الهياطلة نحو الجنوب.
ومن جميع البرابرة تبصر أمر الهياطلة أطرف الأمور، وذلك لوضوح غزوهم وبعده من طلاء النصرانية، وإذا ما وصف الهياطلة وجدوا قوما من الوحوش، ومن البدويين الفرسان، ومن العرق التركي المغولي، ومن ذوي العيون المزمومة والقامات القصيرة السريعة كالريح، وقد كانوا فاتحين لقسم من الصين في زمن المسيح. وقد ظلوا قرونا كثيرة وفق ما يحاول أصحاب نظرية العروق إحداثه اليوم من الأمم المختارة المصنوعة، وقد تركوا الضعاف في السهب الواسع وراءهم، وذلك على حين يتقدم فرسانهم الأقوياء إلى الأمام أسبوعا بعد أسبوع مخربين البلاد بأكثر مما يفعل الفاتحون، وذلك كالنسناس. ومن قول زعيمهم المشهور: «يتألف منا - نحن الغزاة نحن الفرسان - أمة تلقي الفزع في قلوب جميع الأجانب، حتى إننا إذا متنا بقي جاهنا بعدنا وظل أبناؤنا وأبناء أبنائنا على رأس كثير من البلدان.»
وكانت لهم في القرن الخامس إمبراطورية بدوية غير متينة ممتدة من سيبرية إلى دانيماركة، وكانت الريح تحمل صيتهم من سهوب روسية إلى البحر المتوسط. وكان اسم الهياطلة مقرونا بالفوز في أثناء الحروب الأهلية التي لا حد لها بين القسطنطينية ورومة، وبين المذاهب النصرانية، وبين القبائل الجرمانية. ومن قول قسيس في مرسيلية: «ينضم أبناء وطننا، حتى الأشراف إلى العدو، فبما أن أبناء وطننا عادوا لا يطيقون بربرية الرومان فإنهم يأملون أن يجدوا مشاعر إنسانية لدى البرابرة.» وقال يوناني في معسكر ملك الهياطلة: «هنا يسود العدل، مع أن الفقراء في الإمبراطورية الرومانية وحدهم هم الذين يلاقون ضروب العقاب.» وكان لأتيلا؛ أي «للأب الصغير»، قصر من خشب على صفة الدانواب، وكان ينام على فراش خشن ويزهد في الطعام، وكان بين فرسانه في الهواء الطلق دوما، حتى حين يعقد مجلسا. وكانت فرائص إمبراطور بزنطة ترتعد فرقا أمام هذا الجار الضاري، فعينه مريشالا وأعطاه جزية سنوية. وبينما كان الرجال الذين يسكنون القصور الرخامية على شواطئ البسفور يعدون أتيلا حيوانا وحشيا يجب تسكينه، كان أتيلا يبدو رئيسا شاعرا بتبعاته أكثر من شعور أباطرة عصره، ومن ذلك ما رواه سفير عن جلوس أتيلا حول مائدة من خشب في أثناء وليمة مستمعا إلى إشادة الشعراء بمآثره كما في قصائد أوميرس، فلما أتموا الأغنية الأولى التي كانت مؤثرة إلى الغاية أنشدوا قصيدة مضحكة تدرجت إلى أمر وحشي كلما زاد شكرهم، فظل أتيلا وحده متزنا على حسب عادته.
وحاول سفراء من بزنطة أن يقتلوا أتيلا، فتركهم أتيلا ينصرفون بعد اكتشافه ائتمارهم به، حتى إنه أعطاهم هدايا وخيلا، ولكن مع إرساله كتابا إلى الإمبراطور ثيودوز، الذي كان يلوح أنه المحرض على ذلك الائتمار، يلومه فيه على سلوكه الشائن، وتعد هذه الوثيقة رائعة لما تنطوي من بساطة الشعر الشعبي، وما كان مارك أوريل نفسه ليستطيع كتابة مثلها، ولا تأليف ما هو أكمل منها، وتكفي هذه الوثيقة وحدها لرفع أتيلا فوق ملوك عصره المتمدنين على الرغم من جميع أعماله الوحشية.
ومن الأقاصيص العاطفية ما يرتبط في اسمه، ومن ذلك أن إمبراطور بزنطة اختطب ذات مرة إحدى أخواته لرجل في البلاط على الرغم منها نتيجة لمغامرة غرامية، وتضطرب الفتاة وتطلب العون من صديق الإمبراطورية وصاحب المقام الرفيع فيها أتيلا، وترسل إليه خاتما رمزا إلى عقد خطبتها معه، ومما لا ريب فيه أن صيت النبيل النهاب أتيلا هو الذي حفز الفتاة إلى اتخاذ تلك الخطوة المحيرة. وقد أدرك ملك الهياطلة، الذي كان عنده عدة أزواج، من فوره، ماذا يمكنه أن ينال بذلك من شرف ونفع، فأرسل إلى الإمبراطور سفراء خاطبا أخته ومطالبا بنصف الإمبراطورية مهرا، ويرد هذا الطلب، ويؤدي الرفض إلى الحرب، ويغادر أتيلا بلاد البلقان مع كتائبه وينتقل معها إلى بلاد الغول، ويقهر في المعركة الكبرى التي وقعت في حقول كاتالونيك بشنبانية، وليس من الصحيح ادعاء بعضهم أن الحضارة الأوروبية أنقذت من المغول في تلك المعركة، كما هي الحال أمام فينة بعد أربعة عشر قرنا، وكان يحارب جنود من الفرنج والسكسون والفزيغوت بجانب الرومان على حين كان يحارب جنود من الأستروغوت بجانب الهياطلة، ومع ذلك لم تكن تلك المعركة نصرا رومانيا وإن كانت أول حبوط مني به الهياطلة الذين عد قهرهم متعذرا حتى ذلك الحين. أجل، طعن أتيلا في عزته، ولكنه ظل من القوة ما ترتعد معه رومة خوفا منه في السنة القادمة بإيغاله من لنباردية، وهنالك يظهر البابا ليون في معسكر الهياطلة ويثني ذلك الهمجي عن عزمه كما استطاع أن يثني جنسريك في الدور نفسه، ويمضي وقت قصير، فيموت أتيلا بغتة في إحدى عربداته الخمرية الليلية الكثيرة مقتولا، لا ريب، من قبل المرأة الجرمانية التي ستظهر في نيبلنجنليد بعد حين، وهو لم ينفك يتكلم، حتى آخر عمره، عن الأميرة التي أرسلت إليه الخاتم على أنها خطيبته، ومما لا مراء فيه أن عوامل القسوة والانتقام كانت تمتزج بمشاعر الشرف والنبل في نفس هذا الفارس الوحشي امتزاجا يثير العجب، ولا شك في أنه لم يكن مصابا بالخنزوانة،
25
وقد انحلت بموته حالا إمبراطوريته التي كانت ممتدة بين الرين وسفوح القفقاس، وقد قتل وارثوه.
14
كان غرب البحر المتوسط وجنوبه بحيرة جرمانية ونصرانية حوالي سنة 500، وكان الزعيم الجرماني، أدواكر، على رأس جيش مختلط فصفى الإمبراطورية الرومانية بالعنف في سنة 476. وكان من عادة الكتائب أن تأخذ ثلث البلاد التي تزعم أنها محررة لها، فطالبت هذه الكتائب بثلث إيطالية التي لم تزل تعد ولاية، وكان المغامر الحامل لاسم أوريستي اليوناني قد نادى بابنه القاصر إمبراطورا، فلما أيد مزاعمه تجاه الجرمان قتله جنوده، وهنالك اختص الجرماني بالبلد الذي كان قبضته واستعد لقتل آخر وارث للتاج. وكان هذا الوارث يرمز باسمه رومولوس أوغستول إلى اسمي أول الرومان وأقواهم، وما كان عليه من ملاحة صبيانية أثر في الهمجي فأبقى له هذا الهمجي حياته، وبذلك يكون ذلك الوجه الغريب قد ختم سلسلة أباطرة الرومان، وتغدو إيطالية مستعمرة جرمانية.
ناپیژندل شوی مخ