ويتقدم الفزيغوت نحو الجنوب ويرسلون إلى إمبراطور بزنطة رسلا ليرجوا منه خاشعين أن يعطيهم أرضين على طول المجرى الأدنى من نهر الدانوب، ولم يكد الإمبراطور فالنس يمنحهم قسما من تراكية الخالية من السكان تقريبا حتى أخذ هؤلاء المولودون جنودا ينازعون موظفي الإمبراطور مخربين البلد الذي ظن أنهم يزرعونه قاهرين كتائب الإمبراطور في معركة أدرنة العظيمة (378)، ويجرح الإمبراطور بسهم وينقل إلى منزل، ويجهل أولئك الرحل الغالبون ذلك فيحرقون جذلين ذلك المنزل مع جميع المنازل الأخرى حارمين أنفسهم غنيمة ثمينة جدا. ولم يبق للأباطرة المنهوكين إزاء ذلك غير قبول هؤلاء الجيران الجدد في جيشهم، حتى إن ثيودوز الذي لا يعد من ضعاف الأباطرة رضي أن يكون له حلفاء من القبائل الجرمانية، وقد كان آخر إمبراطور أمسك الإمبراطورية الرومانية موحدة من إسكتلندة حتى الفرات، ولكن لوقت قصير، فلما احتضر جعل شبه وحشي وصيا على بنيه الصغار، وهكذا يكون تقسيم الإمبراطورية إلى قسمين من قبل حفدة ثيودوز قد أعده ثيودوز نفسه.
وشبه الهمجي ذلك هو ستيليكون، هو وندالي غير معروف، وقد كان جنديا بسيطا فارتقى في ميادين القتال، وقد قدر عليه أن يزج بكل من نصفي الإمبراطورية في صراع طويل ضد الآخر ناقلا الحرب بذلك من رومة إلى القسطنطينية. وهكذا يعاني ستيليكون نصيب كثير من ذوي الطبائع الصارمة المولدين الذين يرون لدى اليهود في الغالب، ومهما يكن أمر هؤلاء الناس فإنهم يعيرون من قبل كل من العرقين اللذين ينحدرون منهما، ومع ذلك فإن ستيليكون يبذل وسعه مخلصا في مقاتلة رئيس الفزيغوت ألاريك الذي حاصر القسطنطينية حوالي سنة 400، ويطرد ألاريك القوطي فيصبح منقذا لإيطالية.
ويغدو ذانك الجرمانيان سيدين حقيقيين في ذلك الدور، يغدوان فوق إمبراطوري القسطنطينية ورومة اللعبتين، وهذا إلى اتخاذ هذا الأخير رافين مقرا له.
ولم يلبث ذانك الأفاقان أن اتفقا على محاربة قبيلة ثالثة من الجرمان النهابين، على محاربة الأستروغوت، ويطلب ألاريك مليون دولار ذهبي من مجلس السنات القائم رسميا برومة، ويوافق ستيليكون على طلب الفدية هذا، وهنالك تبدو مقاومة للمرة الأولى. أجل، كان أعضاء السنات قد أغضوا عن إحراق كتب السيبلين التي هي من أوابد الرومان، غير أن هؤلاء السادة الذين ظلوا رقودا قرنين بدوا أيقاظا عندما بحث في مسألة دفع النقود، ويأمر وارث ثيودوز، هونوريوس الفاجر، بقتل قائده ووزيره الجرماني، ستيليكون، المدين له بعظمته، وتعقب ذلك مذبحة؛ أي ثورة الروح الرومانية ضد الجرمان مرة أخرى، ويلوح أن ثلاثة آلاف جرماني التجئوا إلى ألاريك.
وبجوليان يذكرنا الأمير ألاريك، الذي يصعب تبين وجهه على خاتمه، وذلك بعينيه اللتين تشابهان عين الصبي باتساعهما، وبسذاجة ملامحه وفمه الصغير، بيد أن الذكاء لا ينير أسارير وجهه كما يلوح (ومن أين يأتيه ذلك مع ذلك؟!) وقد تعلم جوليان الإغريقي قواعد الحكمة في أثينة حين فتائه، وقد جعل ألاريك، الذي هو من البرابرة والذي كان لا يعرف حتى كتابة اسمه على ما يحتمل، من بلاد الإغريق مسرحا لتخريباته، ويزعم أنه ينال رضاء رب النصارى بتخريبه آثار الوثنيين وإتلافه الألنب وإلوزيس ثم كورنث والأركادية صانعا مثل ذلك صنعا منتظما دقيقا في كل مكان محطما في طريقه مئات من التماثيل القديمة.
وما صانه ألاريك كسره باسمه رهبان متعصبون، وقد خرب معبد أفسوس المشهور في ذلك الحين، ولم يجد ألاريك على الأكروبول تمثال أتينة الذي نحته فيدياس لنقل رجال بزنطة إياه منذ بضع سنين. وهكذا عادت بلاد الإغريق غير موجودة بصنع ذلك الجرماني، وأثينة وحدها هي التي أنقذت مصادفة، وما اتفق لأثينة من ازدهار روحي بعد نصف قرن مدين لابنة أحد الأساتذة في أثينة، ثيودورا، التي صارت إمبراطورة بعد حياة ذات صروف.
وانتهب قوم الأريك الرحل مدينة رومة في صيف سنة 410، وكان هذا أول سلب أصيبت به رومة، فسيعقب هذا السلب انتهاب ثان حوالي سنة 1500 من قبل قوم من الجرمان (الذين لم تكف عشرة قرون لإصلاحهم قط). وهكذا يوفق الجرماني الصغير حيث أخفق القرطاجي العظيم هنيبال، ولكن ألاريك مات فجأة حينما كاد ينطلق إلى أفريقية، ويشابه موت هذا الرجل الشاب موت كثير من رؤساء العصابات الذين كانوا يعيشون بلا هدف ولا خطة معينة، ويدفن بدنه من قبل جيشه في مجرى نهر جاف حتى يرقد في طراء السيل بعدئذ، أو لكي يتفلت رفاته من انتقام أعدائه، فمن شأن الروح الجرمانية أن تؤوي أقسى الاندفاعات وأكثرها غموضا مع ارتباك ضيق.
وتزوج خلف ألاريك، أدولف، بابنة من بيت رومة الإمبراطوري، غير أنه لم يعتم أن خان أنسباءه الجدد مع الإمبراطور المنافس، وقد اشتهر بأنه من أعظم المخربين في عصره، وقد مات مقتولا في أثناء حملات انتهاب ظافرة. وقد انطلق الوندال إلى الغزو على أثر الفزيغوت فنالوا ضربا من الخلود، وذلك أن أوحش التخريبات وأكثرها بعدا من نطاق الخيال صارت تدعى بالأعمال الوندالية. ومن الواقع أن اسم الأندلس قد حفظ لنا أيضا، ومن حسن الحظ أن السائح لا يجد أثرا لتلك القبيلة النهابة في أثناء مروره من هذه البقعة التي هي من أروع بقاع البحر المتوسط الساحلية.
ومن شواطئ البحر البلطي أتى الوندال وعبروا نهر الرين ووصلوا إلى جبال البرانس مارين من بلاد الغول، وقد ساروا منحرفين نحو الجنوب اجتنابا للقوط فبلغوا سواحل أفريقية، ولم يكن عندهم مثل قومي عال، ولم يكن لديهم ما ينعمون به على الرومان المغلوبين أو على البربر الأهلين، فكانوا يثيرون حقد عالم البحر المتوسط بالجرائم التي يكلل بها اسمهم، ومع ذلك ظلوا ظافرين بفضل علمهم بالملاحة الذي اكتسبوه في بلادهم الشمالية.
ودام سلطان جنسريك نحو نصف قرن فكان أول ملوك الوندال وآخر ملوكهم في الحقيقة، وهذا إلى أنه كان من ملوك البرابرة الوحيد الذي بقي قابضا على زمام السلطة إلى سن متقدمة، وقد وصفه أحد معاصريه بأنه «معتدل القامة، أعرج نتيجة لسقوطه من فوق حصان، صموت، عنيف، كاسر، مزدر لكل فجور، ماهر في إيقاد الفتن وإلقاء بذور الحقد والفساد»، وقد انتحل لقب ملك البر والبحر وأرهب جميع البحر المتوسط بأسطوله. وكان الوندال يصلون في مغازي النهب حتى مصر، حتى بلاد اليونان، وكان الوندال قراصين الشمال الأولين في الجنوب، وكانت الجزر الثلاثة الكبرى مع جزائر البليار جزءا من إمبراطوريتهم، وما هو غير ذلك كان ميدانا لمغامراتهم.
ناپیژندل شوی مخ