115

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

ولم يمكن قيام النظام الذي امتدح في تلك الجمل إلا بفضل أداة حكومية تصلح نموذجا لغيرها فتئول إلينا كما آل القانون الروماني إلى قوانيننا. وكان كل شيء قد نظم ورقم ووضع ضمن منهاج، حتى إن المذهب الرواقي الذي هو من الفلسفة اليونانية قد تحول إلى مذهب روماني، وقد وحدت النقود والأوزان والمقاييس والدراهم في جميع الإمبراطورية، وقد وزعت الحنطة والمواد الأولية بإنصاف. وإذا نظر إلى أن البحر المتوسط كان يعني الإمبراطورية الرومانية في ذلك الزمن وأن هذه الإمبراطورية كانت تمثل جميع العالم الغربي تقريبا، أمكننا أن نبصر إمكان تحقيق وحدة أوروبة كما نتمناه في هذه الأيام.

ولا بد من أن يؤدي ذلك إلى زيادة سلطان الولايات، وكان الأباطرة يتيحون لها إمكان الازدهار ضمن «السلم الروماني». وقد خلف تراجان، وهو الإمبراطور الأول الذي كان من الولايات فدخل رومة الحائرة، أباطرة آخرون من أمم كانت معادية فيما مضى، وبما أن الأباطرة كانوا لا يبالون بالوجه الذي يطاعون به فإنهم كانوا يضحون بالعنجهية الرومانية في سبيل سلامتهم الخاصة ومقتضيات خزينتهم. ولما منح كاليغولا جميع رعاياه صفة الروماني، مثلا، صنع ذلك فرضا لضريبة إمبراطورية خاصة؛ ولذا يكون الشعار القائل: «إن جميع الناس إخوة» قد دوى لأول مرة وصولا إلى إصلاح ميزانية الدولة. وكان الأباطرة محتاجين إلى مال كثير من أجل جنودهم، وهم قد تحول حبهم عن الجماهير إلى المرتزقة من الجنود بعد أن صاروا ينتخبون به من قبل الجيش لا من قبل الشعب.

وكانت الإمبراطورية الرومانية مؤلفة من اثنتين وعشرين ولاية منذ عهد أغسطس فتمتد، مع الدول التابعة، من اسكتلندة إلى جبال درن، ومن القفقاس إلى أسوان، ومع ذلك لم تكن هذه الولايات لتقضي ما تحتاج إليه رومة المترفة التي لا يروى لها غليل. وقد أحصى بليني الملايين التي أسرفها القوم ثمنا لما كانوا يدخلونه من حرير الصين وحلي الهند وأبازير العرب، ومع ذلك كان معظم الثروة القومية يبقى داخل الإمبراطورية، ولا سيما بعد أن فتح أغسطس مصر التي كانت من أغنى بلاد البحر المتوسط، ولم يكن الرومان ليدخلوا القمح فقط، بل كانوا أيضا يستوردون المصنوعات الزجاجية والنسائج والغرانيت والرخام الأبيض والبزلت والأدوات البرونزية والآلات الموسيقية، وذلك إلى ما كان من إرسال ولاية آسية، المشتملة على آسية الصغرى تقريبا، برا وصوفا ومحاصيل صناعية ما دام يسكن هذا البلد التجاري الكبير حفدة الفنيقيين والأغارقة الماهرون على الدوام. ومما حدث أن رجلا من أرباب الصناعة في أفروجية جعل من ينقش على حجر قبره أنه دار حول رأس متابان اثنتين وسبعين مرة، وذلك ليذهب إلى إيطالية، وذلك كتجار أوروبة الذين يتوجهون إلى ما وراء الأطلنطي مراهنين على أيهم قد قام بأسفار طويلة في البحر غالبا.

وكانت المدينة الكبيرة الزاهية، أنطاكية، الواقعة في مكان ممتاز حول إسكندرونة، ترسل أنواع السلع الثمينة إلى رومة، وكانت تغتني مقدارا فمقدارا فتجتذب إليها حتى نقد الدولة وتغدو ألمع مدينة في الإمبراطورية حينا من الزمن. وكانت أروقة شارعها الرئيس تمتد ثلاثة فراسخ حفظا للمتنزهين من الشمس والمطر، وكانت تشتمل من الحمامات الرخامية الساخنة ما يضمن ضروب المتع. وكانت حدائقها العامة تحتوي من المياه الفوارة مثل ما في فرساي، وكانت شوارعها المهمة تنار ليلا مثل رومة، وما كان فيها من تشخيص مضحك ورقص إيمائي وخليلات سوريات كن يسمين عازفات المزهر يجعل منها بخارست القرون القديمة. ثم يؤدي طيشها إلى خرابها، وذلك أن ملك الفرس وصل إليها في القرن السادس ليفاوض أهلها فيتسور هؤلاء المتاريس ويسخرون منه، ويغضب الملك ويحاصر المصر ويستولي عليه ويبيع جميع سكانه عبيدا، ويجمد المقطع الأخير من الأغنية التي سخروا بها من الملك على شفاههم.

وكانت أنطاكية قد أشرفت على شفا الخطر من جميع الوجوه، وذلك لسوء مينائها ولكون مهندسيها أقل صلاحا من المشخصين فيها.

وكانت الإسكندرية تزدهر في طرف البحر المتوسط الجنوبي الشرقي في الوقت نفسه، ولكن على شكل آخر، وكانت كأنطاكية مركزا تجاريا يطفح بالمال، وكانت كأنطاكية تقوم بخدمة رومة النهامة، وكان أهلها من الساخرين الأراجين،

12

وكانت الثقافة اليونانية تتجمع فيها بأشد مما في أثينة التي غدت مدينة من الولايات. وكانت عوامل مجد الإسكندرية؛ أي الأكاديمية والمكتبة والمتحف، قد أنشئت في عهد البطالمة الأولين الذين هم من قواد الإسكندر الشبه المتبربرين. وقد بلغ علم التاريخ والجغرافية في الإسكندرية مستوى لا ريب في سموه، وقد أنجبت الإسكندرية بأكابر الأطباء لما كان من السماح بتشريح الأبدان. وفي الإسكندرية كان يدرس أقليدس، وفيها حسب إراتوستين أبعاد الأرض فانتهى إلى نتائج لا نزال نقول بها في أيامنا تقريبا، وفيها أنشأ هارون أول آلة بخارية، وفيها جمعت مجلدات من صحف البردي، وفيها صنفت آثار أوميرس تصنيفا انتقاديا للمرة الأولى، وهنالك، على جزيرة قريبة من الإسكندرية، ترجم العلماء الاثنا عشر الأسطوريون كتاب التوراة إلى لغة أوميرس التي هي لغة نصف الإمبراطورية الرومانية.

ولم يكن العرفان أمرا جديدا على التجار الأغنياء، وكانت تلك المدينة تعين أعضاء مجمعها العلمي، وذلك لعلمها أن الفلكيين ينقلون اكتشافاتهم إلى الملاحين، وهكذا نال ربابنة الإسكندرية شهرة عالمية ووفق المهندسون لتنظيم فروع النيل تنظيما جديدا. وقد أدت تجارب المجمع الفنية إلى نماذج جديدة للسفن، ومن ذلك أن كان لأعظم سفن القرون القديمة؛ أي لسفينة «إيزس» ذات الصواري الثلاث، من الطول ستة وخمسون مترا ومن العرض اثنا عشر مترا، وإذا عدوت باريس، على ما يحتمل، لم تجد مدينة اتفق لها في أوج ازدهارها من اجتماع الروح والغنى والفن والصنعة معا في مستوى عال كما اتفق للإسكندرية.

وتجد سبب ذلك في كون الإسكندرية أكثر يونانية من جميع المدن الأخرى وفي بقائها كذلك زمنا طويلا، أجل، كان خلفاء الإسكندر الأولون يودون تمثيل دور الفراعنة، غير أن دستور الدولة ولسانها لم يكونا مصريين ولا لاتينيين، بل كانا يونانيين، وكان أول البطالمة مؤسسا لهذا المركز الثقافي، ولا ريب في أنه أدام فيه من التقاليد ما كان أرسطو قد سنه في البلاط المقدوني من أجل الإسكندر.

ناپیژندل شوی مخ