ومع ذلك لم يزل المعتقد والجمال والحكمة أمورا حية في الإمبراطورية الرومانية في ذلك الحين، وذلك أن هذه الأمور كانت تشع من شفق العصر اليوناني الذي لا حد له في نور العالم الروماني البارد. وكان كل ما يضفي لونا على إمبراطورية عالم البحر المتوسط الموحدة لا يزال يصدر، بعد ستة قرون أو ثمانية قرون، عن تلك الأمة الصغيرة الجزرية المقسمة التي نقلت الفن والأدب إلى سادة العالم الجدد. وكان كل من الرومان والنصارى الذين ترانا مدينين لهم بكثير من الأشكال والأفكار وارثين للأغارقة. أجل، إن كل ما نحوزه من جمال وخير يأتي من البحر المتوسط الأزرق لا من شهبة
10
الشمال، غير أن البحر المتوسط اقتبس هذا التراث من اليونان.
وكانت الإمبراطورية الرومانية بناء باردا ثقيلا، وكان يعيش ضمن حدودها ستون مليونا، وقيل ثمانون مليونا، من الآدميين، فيسودها نظام جليل، ويشعر كل واحد فيها بأنه مستعمر ثم وطني روماني، وكنت في كل مكان تجد أبناء رومة، تجدهم على الرين والدانوب وعلى شواطئ الدردنيل. وكان عدد سكان كل من أفسوس وإزمير وفرغامس يزيد على مائة ألف شخص، وكان يسكن الإسكندرية مليون إنسان، وكان يسكن رومة مليونا إنسان. وكان أكثر البقاع كثافة سكان هو القسم الساحلي الذي مال إلى الانحطاط منذ زمن طويل، هو شمال أفريقية، وهنالك، بين تركية والأطلنطي، بلغ عدد الرومان عشرين مليونا.
وكان كل شيء يصور ويرسم بروح قومية رومانية؛ وذلك لأن أغسطس هجر مشاريع سلفه العالمية وفتح باب سياسة قومية بدلا من خطط الإسكندر وقيصر الشاملة. وقد خلد بناءون من الرومان عبقرية أمتهم في قناطر قنواتهم الفخمة التي تنقل ماء الجبال البعيدة إلى المدن، ومما يثير عجبنا تلك القناطر المهمة التي تقطع الأرياف لعدة كيلومترات في نيم ومرسيلية وشقوبية وأماكن أخرى من شواطئ البحر المتوسط. وكان يصل رومة بجبال الألب وبزنطة وأثينة طرق لم يعرفها غير عالم القرون القديمة، فكانت تمكن من التجارة مع الهند والصين وإن عبدت لمقاصد عسكرية. وكان جميع هذه الطرق ذا صوى
11
رمادية اللون دالة على حدود كيلومترية رومانية صغيرة. وكان يوجد على طول هذه الطرق فنادق قذرة لا ريب؛ وذلك لأن الأغنياء كانوا لا ينزلون بها، وإنما كانوا يجلبون في عربتهم خيمة ليقضوا الليلة فيها كما يصنع ذلك مسافرونا في «عطلة آخر الأسبوع»، وما كان الفقير الشريف ليستطيع السياحة، فقد وصف المؤرخون تلك الفنادق بأنها كانت آهلة باللصوص والقوادين ومروضي الحيوانات؛ أي بزبن أكثر لفتا من زبن فنادقنا.
وقد نظم البريد الروماني على مثال البريد الفارسي فأصبح نظاما نموذجيا في نهاية الأمر، وكان كل شيء لدى الأغارقة يسير سريعا غير منظم كما لدى فرنسي زماننا، ويذكر هيرودوتس بردا بالغة السرعة، ولكنك لا تجد أحدا يذكر انتظام وسائل النقل. وقيصر هو أول من أدخل نظام منازل الجند ومرابط الخيل على مسافات منتظمة، ولم تلبث أن صرت تبصر مرور عربات ذات أربع عجل في أيام معينة، وصارت الخيل تغير في كل خمسة وعشرين كيلومترا، وأصبح من الواجب على الفلاحين أن يعيروا خيلهم في دور الحصاد ليمكن البريد السريع ورسائل الإمبراطور ديوكليسيان أن ينقلا إلى الولايات الرومانية، ومن العبيد من كان يجب عليهم أن يقطعوا في اليوم الواحد أربعين ميلا، أو ستين ميلا عقوبة، فينجم عن هذا وهنهم أو موتهم في الطريق فلا تصل الرسائل إلى محالها.
وكانت الرسائل السرية تخبأ في هيكل أرنب مبقور، ومما كان يحدث أن يكتب شيء على رأس عبد بعد أن يحلق، ثم ينبت الشعر، فما على المرسل إليه إلا أن يحلقه ثانية، وكانت هذه وسيلة أمينة ولكنها بطيئة.
وما كانت تنطوي عليه تلك الإمبراطورية العالمية من حركة دائمة بادية للمتأمل أعرب عنه العالم الكنسي ترتوليان في عبارات تستحق أن تكتب سنة 1939 بعد الميلاد، لا سنة 200 بعد الميلاد، فقد قال: «يصبح العالم أكثر ثراء وثقافة يوما بعد يوم، وتفتح الطرق للتجارة، وتغدو الصحارى خصيبة، وتحول الغابات إلى حقول بذر، وتجفف المناقع، ولا تخشى المواشي ضواري الحيوان، ولا توحي جزيرة ولا صخرة بالهول، ففي كل مكان ترى بيوتا وشعوبا، وفي كل مكان ترى حياة.»
ناپیژندل شوی مخ