113

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

ومن يود إدراك اتحاد الفكر والعمل في مارك أوريل فليتمثل ذوي المناحي الفلسفية من الأمراء، فليتمثل فردريك الكبير مثلا، ليرى أن هذا العاهل كان يفرق بين عالم الفيلسوف وعالم رئيس الدولة، فيخصص ساعة فراغ لدراسة الحكمة كما يخصص ساعة للموسيقى من غير أن يدع هذا ينفذ في غرفة عمل الملك. وعلى العكس، كان الروماني كالبروتستاني راغبا كل يوم في نيل عفو من السماء عن كل عمل يأتيه، وهو لم يكن تعبا أو فاقد الصبر قط، ومن المحتمل أنه لم يكن ملتهبا غيظا قط. ويلوح أن القدر كان يريد ابتلاءه؛ وذلك لأن عهده فتح بالحرائق والطاعون والفيضانات والزلازل والاغتيالات؛ ولأن عهده دام مع الحروب الطويلة، ومن ذلك أن قبائل جرمانية أتت من منابع نهر الدانوب وتقدمت مرة أخرى فاضطر الإمبراطور إلى القتال عدة سنين في كارنسية والتيرول وصربية، ومن ذلك ما كان عليه أن يكافحه من فتن اليهود والمصريين والفرطانيين ثم الغوليين، وقد نصر في معظم معاركه.

وكل شيء يصبح مصدر تأمل له، ولم يقتصد في أمر اقتصاده في وقته، فكان، إذا ما اضطر إلى حضور الألعاب في الميدان الإمبراطوري، يجعل من يقرأ له بصوت خافت أو يقيد أمورا بنفسه. وليس لدينا من الوثائق ما يركن إليه عن حياته الزوجية مع فوستين التي كانت دونه سنا بدرجات، ومن الصعب تفريق ما بين لغط البلاط والأحاديث الصحيحة تاريخا، ويظهر أن الزوجة كانت على نقيض زوجها، الذي أنجبت له بأحد عشر ولدا، بوجهها المختال الطريف العصري، ومن المحتمل أن كانت مغامراتها الغرامية نتيجة اختلافات كاذبة، وأما زوجها الإمبراطور فلم تعرف له مغامرة.

وظهر مارك أوريل خصما للنصرانية لأسباب كثيرة، وأهمها شعوره بأنه روماني تماما، وكان رومانيا أكثر من جميع الأباطرة بعد قيصر على ما يحتمل. وكان يجهل الانتقام كقيصر، ومن ذلك أن أحد القواد رفع راية العصيان ونادى بنفسه إمبراطورا معارضا مارك أوريل بذلك، فلما مات التمس من مجلس السنات أن يلاطف زوجه وأولاده، ولما أحضرت إليه رسائل القائد المغلوب ألقاها في النار من غير أن يقرأها.

ومع ذلك فقد مات مارك أوريل ابنا للثامنة والخمسين من سنيه، وذلك في المعركة بفينة على ما يحتمل، وذلك بعدما أبدى ضعفا غريبا، وذلك أنه رجع إلى مبادئ العرش الوراثي مع أنه أبصر وقوع التبني الحر مرتين. وعلى الرغم من كونه فيلسوفا ورجل واجب مغضيا عن أخلاق ابنه كومود، وتقطع بهذا الأخير تلك السلسلة التي أحكم صنعها عظماء الأباطرة.

وكان كومود صورة مصغرة عن نيرون، فأمر بنقش صورته في الرخام على نمط هركول فنال بها مظهر برجوازي ذاهب إلى حفلة رقص مقنعة، وكان يحب المصارعة كالمسايف ويحب ذبح بقر الماء في الملعب، وأخيرا خنق في حمامه من قبل سائس خيله. ثم يلعن مجلس السنات ابن الرجل الذي كان يؤلهه والذي وضع أهل رومة تمثاله النصفي بالقرب من آلهتهم المنزلية، وتعود المنازعات الهوج بين مرشحي مختلف الفرق والأحزاب، ويختار أباطرة القرن الثالث والقرن الرابع من صغار الضباط ومن القتلة ومن ذوي الخنزوانة

9

الذين شادوا مباني فخمة أو أدخلوا عبادات آلهة أجنبية مع خمريات جنسية، ويموت كل واحد منهم مقتولا من قبل الآخر، ولم يمت أي واحد منهم على فراشه! وعاد لا يبحث في مسألة التبني، وعاد لا يذكر احتمال تمرد مجلس السنات، وعلى العكس بلغ جنون العرش الوراثي من الشدة في مائتي سنة ما صار يختار معه أبناء الأخ والأخت وأبناء الإمبراطورات الذين ولدوا من أول فراش بدلا من انتخاب رجال مقتدرين.

ولم يكن أفول الأباطرة غير رمز للوضع العام، ومن يدرس منطقة البحر المتوسط؛ أي الإمبراطورية الرومانية، في ذلك الزمن الذي كانت تبدو فيه علامات العيش البالغ الغنى؛ أي الانحطاط، يقض العجب من تعاقب الجبابرة الذين عانت الإمبراطورية خنزوانتهم أقل مما يقضيه من اختيار أربعة أباطرة لقيمتهم في القرن الثاني؛ أي في أثناء تلك الفترة، وأدعى من ذلك إلى العجب قوة سجية مارك أوريل، وذلك عند النظر إلى ما كان يقدمه المجتمع الروماني من المغريات في ذلك العصر.

8

يمكن تشبيه الإمبراطورية الرومانية في ذلك الدور بتلك الكنائس المبنية على طراز غريب غير منتظم حيث يؤدي الجلال الفاتر والخارج الزاهر إلى إعجاب الزائر بما حققه الإنسان أكثر من إعمال باله بالله. وكان هذا البناء العظيم الذي أقامه أكابر مهندسي الدولة، وإن شئت فقل مهندسي المجتمع البشري، مركزا ساطعا يمكن ألوف الناس أن يجتمعوا تحت قبته، كما تحت قبة كنيسة القديس بطرس، وأن يتمتعوا بالحماية المعروضة الناشئة عن تنفيذ تصميم المهندس الرائع. وكان من يود العيش في الإمبراطورية الرومانية يجد فيها كل شيء، يجد السلام والنظام والأمن والكرامة، وذلك من دون الرب الذي كان يتوارى، كما في كنيسة القديس بطرس، تحت الكتل القوية التي رفعت تمجيدا له، والرب قد ترك الأفئدة ومناظر الروح الهادئة وتحجر في الذهب والرخام، ولم يبق منه شيء سوى طبع متجبر وصورة عدل.

ناپیژندل شوی مخ