Suami Saya Tharwat Abaza
زوجي ثروت أباظة
Genre-genre
قرأت يوما في الستينيات في مجلة المصور مقالا كتب صاحبه وهو شاعر غير معروف من شعراء الشعر الحديث أن أغراض الشعر المعروفة وهي الغزل والفخر والمدح قد عفى عليها الزمن، ويجب أن يكون أغراض الشعر هي معاناة الناس في الجمعيات الاستهلاكية، ومعاناتهم أمام طابور الجمعية؛ فشعرت بغصة في حلقي؛ فقد نشأت على الشعر الجميل ، وموسيقى الشعر الساحرة؛ فكيف يريدنا أن نسمع شعرا يتكلم عن طابور الجمعية! فكتبت للأستاذ الشاعر صالح جودت وكان رئيس تحرير مجلة المصور؛ رسالة، وقلت له فيها: «إذا كان الشاعر يريد أن يتكلم الشعر عن الجمعية والدجاج فلتدع ذلك للشعر الحديث وليتكلم الشعر العمودي الأصيل عن الحب والجمال والخيال.» فنشر صالح جودت هذه الرسالة وكانت بدون إمضاء. قدمت لزوجي مجلة المصور وقلت له ما كان، وعلى رغم أن رأيه من رأيي إلا أنه اعترض على تحمسي وعلى مسارعتي بالرد على الشاعر، وقال لي: «ليس هذا من شأن النساء!» ولا أذيع سرا إذا قلت إنه شبهني بمن يدس أنفسه في كل شيء، وكان لا يحب هذا الحماس ولا هذا التصرف من المرأة.
وكان يستطيع أن يفتح موضوعات للحديث، ولا يستعصي عليه أن يكلم شخصا قابله لأول مرة في شتى المواضيع، وله قدرة أن يثير مناقشات تشغل الحاضرين ويندمجون فيها. وحدث أن دعينا مرة عند عمي أحمد على العشاء، وكان من ضمن المدعوين أمير عربي، وظل هذا الأمير صامتا لا ينطق على رغم محاولة الجميع في فتح حوار معه، وأراد ثروت أن يشرك الأمير في الحديث؛ فأخذ يسأله ويحاوره إلى أن اضطر الأمير اضطرارا إلى أن يخرج عن صمته، بل أخذ يتحدث معه في مواضيع شتى. وجاء محمود ابن عمي أحمد وقال لي ضاحكا: «عمي ثروت يستطيع أن يكلم طوب الأرض.» وتذكرني هذه الواقعة بواقعة شبيهة على رغم اختلاف الشخصيات؛ فقد دعانا «حسن الطاهي» الذي يعمل عندنا؛ لحضور عقد قرانه في قريته في طنطا، فذهبنا بطبيعة الحال، وأخذنا معنا الشربات وصينية حلوى، تماما كما فعلنا يوم عقد قران ابننا دسوقي، وكان قد تزوج حديثا، ولما وصلنا دخلنا داره وهي مبنية من الطوب اللبن، واستقبلنا والده، وهو فلاح طبعا، وأخذ ثروت يحدثه، وأعتقد أن أحسن موضوع يتكلم فيه الفلاحون هو الزراعة، فسأله: كم قنطارا من القطن يرمي الفدان هنا؟ - لا أعرف. - كم إردبا من القمح يرمي الفدان؟ - لا أعرف.
كان هذا هو الرد دائما على أسئلة ثروت؛ فأسقط في يده! وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يفشل فيها في إجراء حوار مع شخص ما، ثم دعونا لتناول العشاء وأكرمونا ما وسعهم ذلك، ثم ودعونا بكل امتنان.
ووصلنا للكهولة وذهبت الخلافات الصبيانية، والواقع أن الحب كان دائما سبب الخلاف، وكان دائما هو سبب الصلح، وهدأت العصبية وحل محلها الهدوء، وأصبح كل منا يرعى الآخر ويسانده بكل ما أوتي من قوة، واطمأن زوجي إلى أنه ليس الزوج المنقاد لزوجته، وأصبح أكثر ليونة، وأصبح لا يجد حرجا في أن يكشف لي بكلمات رقيقة حلوة عما يختلج في نفسه دون أن يخشى أن أتسلط عليه وإن استغل حبه لي، وكان هذا الخوف يقلقه ويلازمه منذ بداية زواجنا، وتصرفاته العصبية أغلبها نتيجة لهذا الخوف. ولكنه طوال حياته كان يحب بيته ويحترمه ويقدر زوجته ويتفانى في إسعاد أولاده، وفي الكهولة أيضا تحتاج الزوجة بعد طول المسئولية أن تستشير طبيبا كبيرا في أحوال صحتها؛ فذهبت إلى الدكتور العظيم محسن إبراهيم، وبعد خروجي من عيادته وقبل وصولي إلى المنزل كان ثروت يطلبه في التليفون ليستفسر عن صحتي وليطمئن علي، ولم يكن يعرف بعد الدكتور محسن إبراهيم وإنما كان كل منهما يسمع عن الآخر ولكن بدون معرفة شخصية.
وفي يوم جاء الدكتور محسن إبراهيم إلى منزلنا للكشف على ثروت، وكان قد أصبح الطبيب المعالج له بعد وفاة الدكتور عبد العزيز الشريف، جاء إلى منزلنا وحضر مناقشة حادة بيني وبين زوجي؛ فهو من شدة تفاؤله يخفف من وصف حالته للطبيب وأنا أريد أن أصف الحالة كما هي. فقال لي الدكتور محسن لا تناقشيه ولا تغضبيه فإنه الزوج الوحيد الذي يسألني عن صحة زوجته بعد الكشف عليها، وأنا طبيب منذ عشرات السنين ولم أسمع صوت زوج واحد يسألني عن صحة زوجته بعد الكشف عليها.
وكان صريحا ليس عنده ميل أو مواربة، وأكبر دليل على صراحته الزائدة ووطنيته المتعصبة هذه الواقعة، فقد دعانا سمو الأمير تركي بن عبد العزيز وسمو الأميرة هند إلى السعودية لأداء العمرة، وأقمنا في فنادق فاخرة، وأحاطنا كالعادة برعايته واهتمامه، وحدث أن دعانا ناشر سعودي يطبع لثروت كتابا؛ على العشاء في منزله، وبينما نحن على المائدة بدأ الداعي يقطع الخروف الذي هو علامة من علامات الحفاوة هناك، وسأل ثروت: هل رأيت كورنيش جدة؟ - نعم؟ - أليس أجمل من كورنيش القاهرة؟
فهب ثروت وارتفع صوته وقال له: إن مصر ليس عندها أول كورنيش فقط، وإنما عندها أول حضارة في العالم عمرها 7000 سنة فلا تقارن بينها وبين غيرها.
فبهت الداعي ولكنه أمن على هذا الكلام باللفظ والإشارة.
ودعي مرة أخرى إلى مسقط لإلقاء محاضرة عن القصة في الأدب العربي، وذهبنا إلى هناك وقوبل بحفاوة كبيرة، ودعاه السفير المصري للتعرف على أدباء مسقط وعلى المصريين المقيمين هناك، وجاء موعد المحاضرة وتكلم ثروت عن القصة في الأدب العربي بادئا برواية زينب للكاتب الكبير حسين هيكل باشا، والحب الضائع ثم شجرة البؤس لعميد الأدب العربي طه حسين باشا، ثم تكلم عن محمود تيمور، وتوفيق الحكيم، والأديب العالمي نجيب محفوظ. وبينما هو منهمك في الحديث قام أحد الأدباء العمانيين وقال بانفعال شديد: «ألا يوجد أدب إلا في مصر؟!»
وقبل أن يكمل المقاطع المحتج كلامه رد عليه ثروت على الفور: ألأنكم دعوتموني إلى بلدكم وأكرمتموني اعتقدتم أنكم اشتريتموني؟! نعم، مصر هي منارة الأدب والشعر والفن، ومن إشعاعها وصل إلى كل البلاد العربية النور بعد طول الظلام الدامس.
Halaman tidak diketahui