ونظير الألحاظ قولهم) الاسماع (إنما سمي موضع السمع بالمصدر، ثم كُسر. ولو قيل إنه اعتمد اللحظ الذي هو المصدر مختلف الأنواع ثم كسره، كما كسرت الحلوم والأشغال، لكان وجها، إن كان ثبت عنده له سماع، يثبت أن المصدر الذي هو) اللحظ (يُجمع.
ولو قال) عظيم الملك (بالكسر، لكان أشبه بمالك، كما أنه لو قال) ملكهُ (لا تزن ذلك؛ فكان ضم الميم في) المٌلك (أشبه بملك، لأن المعروف مالكٌ بين الملك، ومَلِكٌ بين الملك. ولكنه لما قال عظيم وكان) المُلك (أخم من) المِلك () اختار المُلك (. وحسُن ذلك، لأن البيت يشتمل بذلك على الملك الذي هو أعم من المُلك بقوله:) مالكةٌ، وعلى المُلك الذي هو أشرف من الملك (.
) تشبه الخفراتُ الآنساتُ بِها ... في مشيها فينلن الحسن بالحيلِ (
الخفرةُ: الحييةُ. والآنسة: المتحببة. اي كل امراة حَسنة مقصرة عن حُسنها، تشبهُ بها في مشيتها، فيغيبُ حسنُ المشي حسنها. فتنال الحُسن بالتحيل. وحَسُن التشبه بها في المشي، لأن غير ذلك من أنواع حسنها لا يُقدر على محاكاته.
) وقد أراني الشبابُ الرُّوح في بدني ... وقد أراني المشيبُ الروح في بَدَليِ (
اي قد كنت فتى يُريني شبابي رُوحي في بَدَني لا أوذن بثُقلته، ولا استشعر قرب رحلته، فلما شبثُ أيقنت إلى الموت وإإلى فراق اللدنيا، ليعمرُها بَدَلي؛ اي غيري. فكأن) روحه (قد فارقه حين تيقن بإنذار المشيب أنه مُفارقٌ. وقد قال هو في هذا المعنى يصف الدنيا:
تملكها الآتي تَمَلُكَ سالبٍ ... وفارقها الماضي فِراقَ سَليبٍ
اي كأن الآتي سَلَبَ الفاني روُحه.
وذُكر أن الحسن البصري مر بمكتب، فبكى فقيل له ما يُبيكيك فقال: اعتباري من هؤلاء الصبيان، كأنهم يقولون: انصرفوا قد بُعثنا أبدالكُم. إلا أن المتنبي تصور روحه في غيره والحَسَن لم يفعل ذلك.
) وَقَْ طرقْتُ فَتَاَة الحي مُرتديًا ... بصاحِبٍ غيرَ عَزْهَاةٍ ولا غَزِلِ (
الفتاة: أنثى الفتى، كقولهم: غلامٌ وغُلامة، ورجل وَرَجلة. الطُّرُوق: الإتيان ليلاٌ. وأضاف الفتاة إلى الحي، تفخيمًا لشأنها، وإشادة بمكانها، كقوله:
ولكن قلبِي يابْنَةَ القومِ قُلبُ
وأراد بالصاحب: السيف لأن الصعلوك لا يفارق سيفه، فأشعر أنه مُتصعلكٌ بقوله: إن السيف صاحب له. والعزهاةُ: الماقت لحديث لنساء ومجالستهن. والغزلُ: ضدُّه. يقول: طرقت هذه الفتاة مُرتديًا لسيفي. وجعله لا عِزْهاةً ولا غَزِلا، لأن الغزل في طريق القسمة. والعزاهةُ في طريق العدم. فيقول: سيفي صاحب لا يوصف بعزاهة ولا بغزلٍ. والجمادُ لا يقبل قسمة ولا عدَمًا. فتفهمه فإنه معنى لطيف، وهو باب من المنطق حسن. ولولا أنه ليس من غرض هذا الكتاب لزدته بيانًا. وقد يجب أن أعذر في قولي) الَزَاهةَ (، لانه إنما قلته لمكان الغزل، وإن لم تستعمل العربُ) العَزَاهةَ (. وأقل من هذا العُذر يغنيني مع من عَلَمَ طريقة المنطق.
) والمدحُ لابن أبى الهيجاء تُنْجِدُهُ ... بالجاهليةِ عينُ العي والخَطَلِ (
كان بعض الشعراء يمدح سيف الدولة، بذكر أسلافه من أهل الجاهلية، فعابه اوب الطيب بذلك، وقال: إن فيما يشاهدون من أفعاله وفضائله ما يغني عن ذكر قدمائه من جدوده وآبائه.
وإعراب البيت يتوجه عندي على وجهين: أوضحُهما أن يكون) المدحُ (مرتفعًا بالابتداء، و) عين العي والخَطَل (: خبره، اي: مدحه إذا أنجده بذكر الجاهلية عيٌّ وخَطَل. وبالجاهلية، متعلق) بتنجدهُ (اي تُقويه بها، ولا يجوز أن يكون متعلقًا بالمدح، لانه إذا كان كذلك صار في صلة المصدر وقد حُلت بينهما بتنجده، فلذلك لا يتعلق به.
ويجوز أن يكون المدح مرتفعًا بالابتداء كما قدمنا، والخبر تنجده. وعين فاعلة بتنجده. اي مدح هذا الملك بأخبار الجاهلية إنما يَمدح المادحُ بها للعيه وخَطله.
) والعُربُ منه مع الكُدري طائرهٌ ... والُّرومُ طائرةٌ منهُ معَ الحجَلِ (
1 / 63