نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
قال ابو الحسن علي بن إسماعيل النحوي المعروف بابن سيده: قال ابو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي رحمه الله تعالى:
) أبْلَى الْهَوَى أَسفًا يومَ الْنَّوى بَدَنىِ ... وَفَرَّف الْهجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ والوَسن (
يذهب الناس إلى أن أسف البعد هي الذي أبلاه على عادة البِلَى وإنما قصد المبالغة، أرد أن البِلَ يعمل في الجسام فحالا على الأيام. وقد عمل فيه ليوم واحد، وهو يوم النَّوى، عمله لسنين.
وقال:
) ظَلْت بهاَ تَنطَوِي عَلَى كَبدٍ ... نَضِيجةٍ فَوق خِلْبِها يَدُها (
ظلت: أقمت، والخِلبُ: غشاوة الكبد والبيت مضمَّن بالأول وهو أبعد بان عنك خرَّدُها.
فالعامل في أَبْعدَ، ظلت كأنه قال: ظلت بها بَعْدَ ما بان خُرَّدُها، والمعنى: بعدما بان خردها، ظلت منطويا على كبد قد أنضجها التوجع وأذابها التفجيع، و) عليها يدها (: إنما توضع اليد على الكبد خشية من ضعفها.
يريد بذلك، وكذلك يُفْعَل بالفؤاد، كقول الآخر:
وضعتُ كفِّى عَلَى فُؤادي مِنْ ... نار الهوى وانْطَويت فَوق يَدِي
وأكثر الناس على أن) نَضِيجَة (، صفة للكبد في اللفظ والمعنى، لا حظَّ لليد في النُّضج، وإنما يريد أن اليد موضوعة على خِلب الكبد فقط، ويُقَويه البيت الذي أنشدناه، وهو) وضعت كفى على فؤادي من......ناؤ الهوى..... (.
وقد يجوز أن يكون) نضيجة (صفة للكبد في اللفظ، ولليد في المعنى، أي على كبد قد نضجت يدها على خلبها من حرارتها، وهذا أبلغ لأنه إذا أنضجت اليد وهي موضوعة على الخلب من حر الكبد، فما الظن بالكبد؟ فإذا كان المعنى على هذا، جاز في) نضيجة (الجر والرفع. فالجر على الصفة للكبد في اللفظ، والرفع على أن يكون خبر مبتدأ، وذلك المبتدأ هو اليد، كأنه قال: يدها نضيجة فوق خلبها. وهذا كما تقول: مررت بامراة ظريفة أمتها، فالظرف في اللفظ للمرأة، وفي الحقيفة للأمة. وإن شئت قلت: ظريفةٌ أمُّها، أي أمُّها ظريفةٌ.
وأما إذا كانت النضيجة صفة للكبد في اللفظ والمعنى، فإنه لا يكون فيها الا الجرُّ. وكن) نضيجة (صفة لليد، أبلغ في المعنى، لأنها حينئذ نضيجة بما ليس في ذاتها. وإذا كانت نعتًا للكبد، فهي نضيجة بما في ذاتها. واحتراق الشيء بما ليس في ذاته، أبلغ من احتراقه بما في ذاته وإنما يريد أنه إذا وضع يده على كبده متألِّمًا نضجيت اليد بحر الكبد، كقوله:
هل الوجد إلا أن قلبي لودنا ... من الجمر قِيد الرمْحِ لاحترق الجمرُ
وهذا عندي أبلغ من قول المتنبي، لأن اليد إذا كانت على خلب الكبد، فهي اقرب إلى الحرّ من الفؤاد من الجمر، إذا كان بينه وبين الجمر قِيدُ رُمح، مع أنه جعل الجمر الناريّ محترقًا من حر فؤاده. فحر الفؤاد إذن أشد من حر الجمر.
) شابَ من الهجر فرْقُ لِمَّتِهِ ... فصار مثل الدِّمَقْسِ أسْودُها (
وفي هذا البيت ثَرْمَلَة صنعة، قال:) فَرقْ لمِته (فخص جزءًا من اللمة ثم قال: أسودُها، فعَمَّ، لكن قد يجوز أن يعود الضمير إلى الفرق، وإن كان الفرق مذكرأ، لأن المذكر إذا كان جزءًا من ذات المؤنث جاز تأنيثه.
أنشد سيبويه:
وَتَشْرَقٌ بالقول الذي قَدْ أذعْتَهُ ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ
وقد يجوز أن يريد بياض اللمة كلها، وخص الفَرْقَ، لأنه معظم الرأس، تم أعاد الضمير إلى اللِّمة. وإنما وجهُ استواء الصنعة لو اتزن له، وحسُن في القافية أن يقول:
شابتْ من الهَجْر لِمَّتُهُ ... فصارمثل الدمَقْسِ أسودُها
أو يقول:) أسودُه (بعد قوله) لِمتَّه (وأسودُها هنا: ليست مفاضلة، إذ لو كان ذلك، لكان أشد سوادًا.
وقد يجوز أن يكون أراد المفاضلة، فقد جاء ذلك شاذًا، فقوله أسودها بريد به مُسوَدها كما يقول: هو أسود القوم أي الأسود فيهم.
) كيف يحيك المَلامُ في هِمَمٍ ... أقربُها منك عَنْكَ أَبعْدُها
كيف يكون أقرُ شيء أبعدَ شيء! هذا خُلْفٌ إذا حُمل على ظاهره لكن لو قال: أقربها منك بعيد عنك، كان حسنًا، ولكن الذي أراده: أقربها عندك مثل أبعدُها. فالجملة في موضع الصفة لهمم. أي أقربها منك عندك أبعدُها منك على الحقيقة.
1 / 1
) أَحْيَيْتُهَا واّلدُّموعُ تُنْجِدُنى ... شُئُونُها والظَّلامُ يُنْجِدُها (
أحييتها: يعني الليالي. تنجدنى: تعيننن. والشؤن: مجارى الدموع، واحدها شأن. أي أحييت الليالي بالسهر والبكاء.
ومعنى ال بيت: إن شأن الدمع أن يخفف الحزن، كقول البحتري:
إن الدموع هي الصبابة فاطرحح ... بعض الصبابة واسترح بهمومها
وهذا مثير في أشعار العرب. وهو عندنا موجود بالمشلهدة، فكأن الدمع يعينه على طول الليل، وإعانة الدمع للمحزون على الحزن ليلًا، أحدى من إانته عليه إياه نهارًا، لأن المحزون يتسلى نهارًا بما يتأمله، وينظر إليه، والظلام يقصر الطرف عما يتشاغل به المحزون نهارًا، فيفرغ الحزين عند ذلك إلى الدمع، لا يجد مُعينًا غيره. قال:) والظلام ينجدها (أي أن الظلام إذا قَصَر الطرف عما يتشاغل به المحزون، زاد الليل بذلك طولًا. فكأن الظلام أنجد الليل عليه بقَصْره طرفه عن النظر إلى ما يتشاغل به. ولذلك قال الشاعر:
بلى إن للعينين في الصبح راحة ... لطرحيمها طَرْفيهما كل مَطرَحٍ
وقوله:) والدموع تنجدنى (جملة في موضع الحال من التاء في أحييت.
وقوله:) والظلام ينجدها (جملة في موضع الحجال من الهاء التي في أحييتها، أي أحييت الليالي وأنا تنجدنى دموعي بالتسلية، وهي ينجدها الظلام بالتطويل لها.
) لا نَاقَتي تَقبلُ الرَّديفَ ولا ... بالسَّوْط يَومَ الرِّهان أُجهِدُها (
حاجى بهذا البيت، إنما عنى نَعْلَه، فكنى عنها بهذا النوع من الحيوان لأن الماشي يعلو نعله كمل يعلوا الراكب ناقته، ونفى عنها مالا يكون لاحقًا لغير الحيوان المراكب، يخرجها بذلك من نوعه. ثم بين هذه الأُحجيَّة فقال:
) شِراكُها كُورُها ومِشْفَرُها ... زِمَاَمُها والشُسُوعُ مِقْوَدُها (
أي كل واحد من طوائف هذه النّعل يحل محل الأرداف من الناقة، فجعل شراكها كالكور على وسط الناقة. والزمام أمامها، كما أن مِشْفَر الناقة أمامها، والشُّسُوع مِقْودها، وذلك أنه يَفْضل عن ذات النعل، كما أن المِقْوَد يفضل عن المقود.
وكان ينبغي أن يقول: وشِسْعها مقودها فيفرد، كما قال: شراكها وزمامها، لكنه جمع عَلَى أن كل ظائفة من الشِّسْع شِسْعٌ، وكذك كان ينبغي أن يقول لو اتزن له:) وزمامُها: مِشْفرها (، كما قال:) شراكُها: كورُها، وشسوعها: مِقودها (، فبدأ بطوائف النعل قبل أداة الإبل، لكن حَسَّن عندي ابتداءه بالمِشْفر ذاتي، والكور والمقود من الأداة، لا من الذات.
) ياَ لَيتَ بي ضَربةً أُتيحَ لَها ... كما أُتِيحتْ له مُحمَّدُها (
معنى إتاحة الضربة له: حُلُوها به، ومعنى إتاحة محمد لها: نبوُّها عنه، واحتماله لها، وتأثيره فيها برغمه، وكذلك كل حال وذى حال كل واحد منهما مُتاح لصاحبه، وأراد أتيح محمدها كما أتيحت هي له. وأُتيح قٌدِّر.
ويجوز أن يكون أراد أن الضربة ندمت حيت وقعت به، لأنها لم تكن بحق، فكان ذلك الندم تأثيرًا فيها، وكذلك السيف ضربَ غيرَ مُسْتَحق. وكل ذلك مجاز واتساع. أي قدر محمد للضربة كما قُدرت له فكان هو المؤثر فيها، ألا ترى بعده:
) أَثر فيها وفي الحديدِ وَمَا ... أَثَّر في وجهه مُهنّدُها (
أثر في الشيء: غادر فيه أثرًا، ولا يكون إلا في الجواهر، كقولك: أثر المطر في الحائط والْخَسْف في الارض، وأثر المرض في الجسم ولا يكون ذلك في العَرَض، وقد اقتسم قوله:) اثر فيها وفي الحديد (جوهرًا وعرضًا، أما الجوهر فالحديد والتأثير فيه شائع، وأما الهاء في قوله:) فيها (فَعَرَضٌ، لأنها كناية الضربة التي في قوله:
يا ليت بي ضربه أتيح لها
وإنما لم يصح التاثير في العَرَض لأن التاثير أيضًا الأثرُ. والأثر عَيْنٌ، والعين لا يكون إلا في عين مثله، أعنى بالعين: الجوهر، إذ لا يحمل الجوهر إلا جوهر. وأما العَرَض فليس بعين، فيكون حاملا لعين آخر. فإذن قولهُ:) أثر فيها (استعارة ومجاز غريب. كأنه توهم الضربة عَيْنًا، بل هو عندي أبلغ، لأنه إذا أمكنه التأثير في العَرَض كان له في الجوهر أمكن، لكنه مع ذلك قول شعري. أعنى أنه ليس بحقيقة. وقوله:
وما أثر في جهه مهنَّدُها
1 / 2
المهند: السيف. وهو عندي من قولهم:) هَنَّدَتْهُ النساء (: أي تَّمته والميتم. . . نحيل، فكذلك السيف، ولم ينف تأثير المهند في وجهه نفيًا كليًا. وكيف ذلك وقد أثبت الضربة، وهي التاثير. وإنما أراد أن المهند لم يُؤثر في وجهه أثرًا قبيحًا، لأن وقوع الضربة على الوجه تَزين ولا تَشِين، لدلالتها على الشجاعة والإقدام، كما أن التاثير في الظهر دليل على الجيبن والفرار، كقوله:
فلسْنا على الأعقاب تَدْمَى كُلُومنا ... ولكن عَلَى أعقابنا تقطُر الدَّما
ويُروى) تقطر الدِّما (. جعل) الدِّما (اسمًا مقصورًا كغِنَى.
أنشد الفارسي:
كمَهاة فقدت بَرْغزها ... أعقبها الغُبْسُ منه ندما
غفلت ثم أَتت تطلبه ... فاذا هي بعظام ودِمَا
فهذا شيءُ عَرَض، ثم نعاود الغرض.
فكان المهند لما وقع على وجهه، فكان ذلك إشعار بلإقدام، ثم لم يؤثر فيه البتة، فلذلك نفى التاثير نفيًا عامًا. ونحوه ما حكاه سيبويه من قوله:) تكلم ولم يتكلم (أي أنك إذا لم تُجد ولا أصَبْتَ، كنت بمنزلة من لم يتكلم وإن كنت قد تكلمت.
) تَنْقدِحُ النَّارُ مِنْ مَضَارِبها ... وصَبُّ ماءٍ الرِّقابِ يُخْمِدُها (
قدحه فانقدح: أوقد فاتقد، أي أن السيوف تقطع ما تحتها وتهوى في التراب، فلا يردها إلا حَجَر يقدح النار بملاقاته جرْم السيف، كقوله:
تَقُدُّ السَّلُوقىَّ المضاعَف نسجُهُ ... وتوقد بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ
) وصبٌّ ماء الرقاب يُخمدُها (أي أن الدم الذي يطفئ تلك النار يجرى على السيف والجمر، وسَمَّى الدم ماء استعارة ومجازًا، وإنما ذلك لأن ماهَتَه سيلانه، وعلى هذا قالوا ماء العناقد. وسَمُّوا الدمع ماء، كل ذلك اتساع وتجوز، لا حقيقة.
) إذ أَضلَّ الهُمامُ مُهجَتَهُ ... يَوماَ فأَطرافهنَّ تَنْشُدُها (
نَشَدْت الضالَّة: طلبتُها، وأنشدتها: عَرَّفتهان ونَشَدْتها في التعريف لغة أيضًا. وقوله: ويصيخُ أحيانا كما استمع المضلُّ لصوت ناشد قيل: يعنى بالناشد هنا المعرِّف وهو الصحيح، لأن المضِلَّ يضغى إلى كلام المعرف ليدُّلّه على ضالته. هذا قول الأصمعي.
وقيل: الناشد هنا: الطالب، لأن المُضشل يحب أن بجد مُضِلًاّ مثله ليتعزى به. وهذا القول الآخر مستقل عن تغالي الأول. ويصحح القول الأول:
يُصيخ للّنبأةِ أسماعَهُ ... إصاخة المُنْشِدِ للناشِدِ
أي إصاخة الطالب للمعرِّف. أي أن الهُمام إذا فقد مهجته فإنه يسأل عنها أطراف هذه السيوف، لأنها عارفة بمسالك الأرواح، بها تُقْبض وعليها تَرِد، لا مظنةَّ لها إلا هي. فأطرافهن على هذا مفعول ثان أي تَنْشُدُها أطرافهن.
) أَقَرَّ جِلْدِى بها علىَّ فَلاَ ... أقْدِرُ حنى المماتِ أجْحدُها (
أي نضرة العيش بادية على بَشَرتي، كقول العرب: بَشَرٌ ما أخاك مشفر. فإذا جحدتُ نعمتك، شهد بها جلدى فلم يمكنه إنكارها، إذا أثرها عليه بادٍ جحدتها وأقرَّ جلدى بها افتضحت. ونظيره قوله تعالى:) تَعرِفُ في وُجُوههم نَضْرَةَ النعيم (قوله:) فلا أقدِر حتى الممات أجحدُها (أراد: على أن أحجدَها فحذف على وأن، ورفع الفعل لعدم العامل الذي كان ينصبه وهو) أن (. ونظيرة قوله تعالى:) قُلْ أفغيرَ اللهِ تأْمُرُونِّى أعبُدُ (أي تأمروني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل. ولو كانت القطعة مفتوحة الروى لقال:) أجحدها (فأعمل أن مضمرة إعمالها مظهرة. وقد رُوى هذا البيت بالوجهين جميعًا.
وقال المتنبي:
) أحْيا وأيْسَرُ ما قاسَيْتُ ماقَتَلاَ ... والبيْن جاَرَ عَلَى ضَعْفِي وما عَدَلا (
يجوز أن يكون أراد: أحْيَا وأيسرُ ما قتلني، أوما من شأنه أن يقتل، وإذا كان أيسر ما قاسيته قاتلا، فما بأكثره وأشدّه. وهذا على وجهين: إما أن يكون تعجب من ذلك فقال: أنا في حال حياة، وأقل مالاقيته قاتلٌ، وإما أن يكون طمع بالحياة فأنكر ذلك، فقال: كيف أحيا مع هذه) الحال (. فهذان وَجْها إرادةِ الاستفهام. وقد يكون أحيا خبرًا، أي أنا أحيا. وهذه حالي، أي تجلدى. يتعجب من صبره. وقد يكون) أحيا (اسمًا يدل على المفاضلة، أي: أثبتُ ما قاسيته لحياتي ما قتل، وهذا غُلوٌّ ولإفراط، لأنه إذا كان ما قلته أثبت شيء لحياته، لم يبق له ما يوجب الموت.
1 / 3
) وَضَاقَتِ الأَرضُ حتى كان هارِبُهم ... إذا رأى غيرَ شيء ظَنَّه رَجُلا (
أما الرؤية فلا تقع على غير شيء، لأن غير شيء ليس بمحسوس إحساس الجوهر، ولا إحساس العَرَض، لأن غير شيء خارج عن الجور والعَرَض، لأن كل واحد من الجوهر والعرض شيء، وإنما أراد هذا الشاعر: إذا رأى غير شيء يُحفَل به في قوة قولك: إذا رأى شيئًا لا يحفل به ظنّه رجلا كقول العرب: إنك ولا شيءَ سواءٌ، ومحال أن يسوى بين الموجود والمعدوم، لأنهما في طريق التضاد، ولكنهم يريدون إنك ولا شيءُ يُعْبأ به سواءٌ ولكنهم قالوا: إنك ولا شيء، واكتفَوا به من قولهم وشيئًا لايعبأَ به، لأن مالا يعبأ به كالمعدوم، ولذلك ألْزَمَناَ سيبويه الْنصب في قوله: إنما سرت حتى أدخلها، إذا كنت مُحتقرًا للسَّير، قال الْفارسي: إنما ذلك لأنه لا شيء أقرب إلى طبيعة النفي من الاحتقار، والنفي عدم فجعل الاحتقار كالعدم.
) فَبَعْدَهُ وإلى ذّا اليومِ لَوْ رَكَضتْ ... بالخَيلِ في لَهَوات الطِّفْل ما سَعَلاَ (
أي أن هذه القبيلة قَلَّتْ وذَلًّت، حتى لو ركضوا الخيل، على قوة الركض، في لَهَوات الطفل، على ضعفه، ما شعر بهم فيسعُل، بالغ بذلك كقوله:
ولَوْ قَلَمٌ ألْقِتُ في شِقِّ رأسِه ... من السُّقم ما غيرتُ من خط كاتب
فأما قول رؤبة في صفة الصائد:
فباَت والنفسُ من الحِرْص الفَشَثْ ... في الغاب لو يمضغ شَرْيًا ما بَصَق
فإنما أراد أن هذا القانص من النَّهَم على صيد الوحش، وخشية أن يسمع له حِسَّا فينفر، لو مَضَغَ الحنظل، لم يبصُق خشية أن يُنَفِّرها بَصْقهُ، وقال الأصمعي: إن تهمّه عَلَى التَّصُّيد قد شغله حتى لو مضغ الحنظل لم يشعر بمرارته فيبصُق.
وخص المتنبي لهوات الطفل لأنها مظنة السُّعال.
وقوله: ركضت بالخيل، إنما وجهه: لو رَكَضتْ الخيل، يقال: ركضت الدابةَ، ولا يقال ركضتُ بها. هذا هو المعروف في اللغة، لكن قد يجوز أن يكون ركض بالدابة لغة، فيكون من باب طَوَّحْته وطوَّحْتُ به. وقد يجوز أن تكون الباء زائدة كقوله) سُودُ المحَجرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ (
) كَمْ مَهْمَهٍ قَذَف قَلْبُ الدليل ... قَلبُ المحبِّ قَضَانني بعدَ ما مَطَلا (
قال) المحِبّ (فجاء به على لفظ الفاعل، ولم يقل الحبيب وهو يريده، لأنه عَنَى شدة إشفاقه في المَهْمَه، وذلك أن المعشوق إذا أحب عاشقه، فإنما يهجرهُ لخوف واش أو رقيب، فاذا رآه خَفَق قلبُه لإشفاقه. ولو كان المحِب غير مُحِبّ لم يتجشم الزيارة على شدتها. وهذا كقول علي بن جَبَلة:
يأبى من زارني مُكْتتمًِا ... حَذِرَا من كل حِسٍّ فَزِعاَ
فقضاني بعد ما مَطَلا على هذا القول، جملة في موضع الحال. ويجوز وضع الفعل الماضي موضع الحال، لأنه قد يوضع موضع المستقبل في قوله: إن فَعَل فَعَلْت. وفيما حكاه سيبويه من قولهم: والله لافعلتُ، يريدون لا أفعل.
وقد ذهب بعضهم في قوله تعالى:) أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ (إلى أن) حَصِرت (في موضع الحال، وقد فيه منوَّه. ويشهد عندي أن حصِرت في موضع الحال قراْة من قرأ:) أو جاَءُوكم حَصِرَةً صُدُورُهم (.
وأما قوله:) قلب الدليل به قلب المحب (الذي هذه صفته فمعناه: أن فؤاد الدليل وَجِل كقلب المحب الزائر المتوقع للفضيحة.
وقد يجوز أن يكون) قضاني بعد مامطلا (خبرًا عن المَهْمَه، أي: كم من مَهْمه قد قضاني بعد مامطلا، قلب الدليل به قلبُ المحب.
وأما) قضاني بعد ما ماطلا (وهو يعنى المهمه، فمعناه: أن المهمه طال عليه، فمطله بالنجاة منه، ثم قضاه بعد حين، وكلاهما مستعار.
وأما قوله:) قلبُ الدليل به قلبُ المُحِبّ (فمعناه: أن قلب المحب يرجو ويخاف. وكذلك قلب الدليل يرجو الهداية ويخشى الضلالة.
) مُحِبِّي قِيامِي مَا لِذَلِكُم النَّصْلِ ... سليمًا من الْجرحى بريئا من القتلِ (
1 / 4
أي: يامحبي ثورتي وقيامي بدْولتي، وتركي للأسفار، كيف أفعل ذلك ولم أكسر سيفي، ولا ثَلَمْته بضربي أعدائي به، فكَىَ عن الكسر بالقتل، وعن الثَّلم باُلجرح، إذ الجرح والقتل إنما يلحقان الحيوان، والسيف جماد لا حياة به. وأراد سليمًا من الجرح، فوضع الجَرْحى موضع الجُرْح. وإن شئت قلت كأنه على حذف المضاف، أي سليمًا من ألم الجَرْحى، أو من هيئة جُرح الجْرحى، وبريئًا وسليمًا منصوبان على الحال من قوله:) ما لِذَلِكُم (: أي استفهم عنه وهو في هاتين الحالين، كقوله تعالى:) فَما لَهم عن التّذْكِرَة مُعْرِضين (.
) أَمِطْ عنك تَشْيِيهى بما وكأننَّه ... فما أحدٌ فوقي وَلاَ أحدٌ مِثْلي (
اما) كأن (فلفظة تشبيه، فالكلام بها هنا على وجهه، كانه يقول: لاتقل في: الأسدُ ولا كأنه السيف، ولا كأنه الموتُ أو السيلُ، فكل ذلك إنما هو دوني، ولا ينبغي أن تشبه الشيء بدونه، إنما المعتادُعكس ذلك.
وأما) ما (فليست بلفظة تشبيه بمنزلة كأن، إنما استجازها في التشبيه، لأنه وضع الأمر على أن قائلًا قال: ما يُشبه؟ فقال له المسئول: كأنهَّ الأسدُ، كانه السيف. فكأن هذه التي للمسئول، إنما سببها) ما (التي للسائل. فجاء هو السبب والمسبب جميعًا؛ وذلك لاصطحابهما. ومثل هذا كثيرا.
وقد يجوز أن تكون) ما (هنا بمعنى الجحد، فجعلها اسما، وأدخل الحرف عليها، كأنه سمع قائلًا يقول: ماهو) إلا (الأسد. وفي هذا معنى التشبيه أي مثل الأسد، فأبى هو ذلك. ثم رجع إلى النوع الأشرف فقال) فما أحدٌ فوي ولا أحدُمثلي (مفضلًا نفسه عليهم.
وله أيضًا:
) هَديَّةٌ ما رأيتُ مُهْدِيَها ... إلاَّ رأيتُ العِبادَ في رَجُلِ (
أي هذه هدية، ويجوز هدية على البدل من قوله:) بما بعثت به (. وقوله: ما رايتُ مهديَها إلا رايت الأنام في رجل: أي أن فضائل الأنام مجموعة في شخص واحد منه، فلا مُعْتَبر بالعدد، اذاحاز معانيم أجمعين وحده، كقوله أيضا:
غدا الناس مِثْلَيْهم له لا عَدِمْتُهُ ... وأصبح دهرى في ذَراهُ دُهور
ونحو قول بعض الحكماء وقد رَضِىَ تلميذًا له من بعض تلاميذه، يقال إن ذلك التلميذ) رسْطَا لِيس (فقال: واحد كألف، وليس ألف كواحد، وليس ألف كواحد وقال ابو نوأس:
ليس عَلَى الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالمَ في واحد
وله:
) ولا وَقَفْتُ بجسمٍ مُسْىَ ثالثةٍ ... ذِى أرْسُمٍ دُرُسٍ في الأرْسمِ الدُرُسِ (
المسُىْ، والمِسَا، والمَسَاءُ، كالصُبح، والصِّبح، الصَّباح. أي لولا هه الظبية الإنسانية، لم أقف على رسوم هه الدار ثلاثا بين يوم وليلة أسألها. ولم يُرد أنهّ وقف عليها بعد ثلاث من إقفارها، لأن الدار لا تدرس بعد ثلاث.
وإنما عنى أنه وقف عليها ثلاثا، وصفته الجسِم بأنه ذو أرسم دُرُس، ذهب فيها إلى وامحِّائه. واستعار له أرْسمًا حين شبهه بهذا الربع الدارس والأرسم، كقوله في صفة الدار:
ما زَالَ كلُّ هَزيم الوَدْقِ يُنْحِلها ... والشوقُ يُنحلنى حتى حَكَت جَسدي
وهذا البيت أبلغ في نحول جسمه، لأنه جعل الدار يحكى جسمه في النحول، فإذا جسمة أنحل منها.
وفي هذا البيت أعنى) ولا وقفت بجسم. . . (لم يجعل لجسمه فضلًا على الدار في النحول.
ودُرس: يجوز أن يكون جمع دَريس وأن يكون جمع دَرُوس، كصبور وصُبُر، وان يكون جمع دارس كَبَازل وبُزُل.
) ما ضَاقَ قَبْلَك خَلْخالٌ عَلَى رَشَأٍ ... ولا سَمِعت بِديباجِ عَلَى كُنُسِ (
يقول أنت كالرشأ في الحسن، وساقُ الرشأ دقيقة، فكيف خالقت أنت الشرأ، بأن ضاق خلخالك عن ساقك. ولو ألبست ساق الرشأ خلخالًا، جال عليها ولم يثبت.
) ولا سمعتُ بديباج على كُنس (: أي على هودَجك سُتُور ديباج. ولم نسمع قبلُ بديباج على كِن اس. إنما الكِناس غُصون أو أسؤق شجر أو مَحَافِر أرض. وأنت قد خَرَقت المعتاد. بكون الديباج على كناسك. ومن رواه على كَنِس، أراد على ذى كناس. وهذا عَلَى النسب، إذ لا فعل له. ونظيره ما حكاه سيبويه: جَرِحٌ، وَسَتِهٌ، وطَعِمٌ وَنَهِرٌ، وأنشد:) لستُ بليليِّ ولكني نَهِره (أي: ذو نهار.
فأما قراءة من قرأ) في أيام نَحِسَاتٍ (، فذهب الفارسي إلى أنه من باب فَرق ونرِق، توهموه على الفعل وإن لم يكن له فعل، لم يقولوا نَحِس النهار.
1 / 5
وها الي قاله الفارسي غيرُ قوى عندى، أحسن منه أن يُحمل على النسب، لأن نظيره كثير، كما قد حكينا عن سيبويه، وتوهم الفعل في مثل نَحِس قليل في كلامهم.
وله أيضًا:
) فَجَعلْت ما تُهدِى إِلىَ هدَّيةً ... مِنىِّ إليكَ وظَرفَها التأْميلا (
يحتمل وجهين. أحدهما: أنه أراد: لما جلَّ قدرك عما تناله يدي ولم تبلغه إلا هبة يدك التي هي كفاؤه، جعلتُ ما تهديه إلى، هدية منى إليك، فما بعدل جلالة قدرك إلا جلالة جودك، وجعلتُ ظرفها تأميلي أن تقبلها منى.
والآخر: أن يكون استحقه فقال: ما علمت أن) ما (تتحفنى به أو تزَوِّدُنِتهِ لرحلتي، سيبلُك أن تمسكه عنى ولا تُطْلِقه، وأن تَعُدَّه هدية مني إليك، وبإمساكك عن إهدائكه إلي.
وله أيضا:
) أمْطِرْ علىَّ سَحَابَ جُودِكَ ثَرَّةً ... وانظر إلىَّ برحمةِ لا أغْرَقُ (
أي إن عطاءك جاوز المقدار، فكاد يقتل المُعطَى فرحًا، فَتَلاف عُفَاتك منه، لئلا يبلغ بهم الْحَسَد المهلك، فيكون كالماء المُغْرق، كقول أبى تمام:
تَستثيرُ الْقلبَ لولا اتصالُها ... بحسنِ دِفاع الله وسوسَ سائلهُ
وقد يجوز أن يكون قوله:) انظر إلى بِرَحمة (أي لا تكلفني من الشكر قدر الواجب فيهلكني ذلك، فكنى عن ضعفه عن الواجب عليه من الشكر بالغَرَق. وقال ثَرَّة وهو يعنى السحاب لأن السحاب جمع سحابة، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، فلك وتذكيره، وجمعه وإفراده.
وله أيضًا:
) وقَلبُكَ في الدُّنياَ وَلَو دَخَلتْ بِناَ ... وبالْجِنِّ فيه مادَرَتْ كَيف تَرْجِعُ (
يتعجب من ذلك. أي قلبك في الدنيا، وهو من السعة بحيث لو دخلت الدنيا فيه بنا وبالجن، أعجزنا الرجوع، وتُهْنا في سعته، فكيف وسِعَتِ الدنيا قلبك؟ وهلًاَّ ضاقت عن حمله، اصغرها عن عِظمه. يبيِّنُه ما قبله، وهو قوله:
ألَيْسَ عَجيبًا أنَّ وَصفَك مُعجزى ... وَأَنَّ ظُنُوني في معاليك تَظلَعُ
وَأَنَّك في ثوبٍ وصدُرك فِيكُماَ ... عَلَى أنه من ساحة الأرض أَوسعُ
وله أيضًا:
) طويل النجادِ طويل العمادِ ... طويل الْقَناة طويل الْسِّنانِ (
النجاد: حِمالةُ السيف، فطوله كناية عن طول القامة، وذلك مما يُمْدَح به كقوله هو:
قُلُوبُهُمْ في مضاء ما امْتَشَقُوا ... أبدانُهم في تمام ما اعْتَقَلُوا
وكقوله:
وَغَالَ فضُولُ الدِّرع من جَنَباَتِها ... عَلَى بَدَنٍ قَدُّ الْقناةِ لِه قَدُّ
وطولُ العماد: كنيةٌ عن السُّؤْدُد، وأصل العماد: ما عُمد به البيت، أي أقيم. ويقال: عَمَدت البيت وعَمَّدْته، وعماد سيد الحلة: مَرْمُوقٌ يُقْصَد، فكأن عماده، وإن سارى عُمُدَ أهل الحِلّة، أطول بكثير الشائمين له، والقاصدين نحوه. وطول القناة والسِّنان: كناية عن الحِذْف بالطعان. ولهذا وصفت العرب أرماحَها بالطول، يريدون جودة العمل بها، والقوة على تصريفها، لا أنها طوال في ذاتها، لأن طولها مُبْعدٌ عن القِرن، ولا يَحْمدُ ذلك إلا الجبان. ولو كان طول القناة في ذاتها محمودًا، لكان السيف لكونه أقصر منها. . . مذمومًا. وإنما صفة القناة بالطول، كصفة السيف بالطول. لا يؤريدون في كل ذلك إلا الحِذْقَ بالضِّراب والطِّعان.
ومما يدلك على أن طول القناة غير محمود، أن طول القناة قد يُوْؤثها الخَطل قال الأصمعي: طول القناة: أربع عشرة وأقصرًها سبع والممدوح بينهما، وهو ما كان طوله إحدى عشرة كقول الشاعر:
وأسَمْرَ خَطِّياٍّ كأن كُعُوبَه ... ثوى الْقَسْب قد أَربَى ذِراعا عَلَى الْعشْر
وكذلك قال البحتري:
كالرمحِ أذرعُه عَشْر وواحدة ... فما استبدَّ به طولٌ ولا قِصَرُ
) يَرَى حدُّهُ غامضاتِ الْقُلُوبِ ... إذا كنتُ في هَبْوةٍ لا أراني (
1 / 6
أي أنه ماضٍ يقطع كل عضو يلقاه، حتى ينتهي إلى القلب، فكانه إنما قطع مادون القلب من الأعضاء حين رأى القلب، فَهَتَكَ اليه الحُجُب التي دونه، إذ لم يمكنه الوصول اليه إلا باختراقها الهَبْوة، وأراني هنا: من رُؤيْة العين، لأنها غير متعدية، فكان يجب أن يقول: لا أرى نفسي، لأن فعلَ الفاعل إذا كان حِسِّيًّ، لم يتعد إلى ذاته بكناية المتكلم. لايجوز ضربتُنى، وإنما يتعدى فعل الفاعل إذا كان حِسيَّا إلى ذاته بلفظ النفس. ويقولون: ضربت نفسي وفي التنزيل) رَبناَّ ظَلَمنا أنفسنا (إلا أنه جاؤ عنهم فَقَدْتُني وعَدْمتُني، وهذا نادرا غي معمول به.
لكن لما كانت ارى التي هي للعين مطابقة اللفظ لآرى التي هي للقلب، تتعدى على هذه الصورة، لأنها غير حِسَّية، كقولهم: أراني ذاهبًا. اسجاز أن يُجرِىَ) أرى (التي للعين مجراها.
وعلى هذا أوَجّه أنا ما خكاه سيبويه من قول العرب: أما تَرىَ أي برق هاهنا؟ فعُلقِّت فيه أرى. ورؤية العين لاتُعلَّث وإنما تعلق رؤية القلب، ورؤية القلب بَصَرية لا نفسانية. لكنها لما طابقت في اللفظ) ترى (التي هي للقلب، وكانت هذه تعلق استجازوا تعليق التي للعين. على أن الفارسي قد ذهب في هذا الذي حكاه سيبويه إلى أنها رؤية قَلْب.
وله أيضًا:
) رَمَاني خِسَاسُ النَّاس مِنْ صَائِب اسْتِهِ ... وآخر قطنٌ من يديه الْجَنَادِلُ (
يذهب إلى أن عدوه ضدٌ له. هُوجَمُّ الفضائل، وعدوه جَمُّ النقائص والرذائل، ولذلك وقع بينهما التنافر، لأن الذِّد مُحارب لضده، والشكل مُسالُم لِشَكله فهو يقول: لايعاديني إلا ناقصٌ لجرى العادة بمعاداة ذى النقص لذى الفضل. فإذا عاَبنَى - والإجماعُ قد وقع على فَضلى - فهو لا محالة ناقص وقد صرح عن ذلك بقوله في الأخرى:
وغاذ أتتكَ مَذَمَّتى من ناقٍ ... فهي الشهادةُ لي بأنى كَملُ
أي أنه لو كان فاضلا مِثلي، ما ذَمنَّي لِتَشَا كلُنا في الفضل، ولأنه لو كان فاضلًا لنَقَص وفَضَلت. فأوجب ذلك تَضَادًا وتعاديًا كقول أبى تمام:
لقد آسفَ الأعداءَ مجدُ ابن يوسُفٍ ... وذُو النقص في الدنيا بذى الفضل مُولعُ
وقوله:) مِن صائب استِهِ، وآخر قُطن (ك أراد من بين صائب يرميه وآخر هذه صفته، أي أنه ضعيف يُعدِى ضعفُه الجَنْدل فيضعف، حتى لايُؤثِّر كما لا يؤثر القطن إذا رُمِىَ به.
وصائب استه: أي مُصيبها. يقال: صاب الشيء وأصابه.
وخص ذكر استه من بين سائر الأعضاء لوجهين: أحدهما: قصدُ الاستخفاف به في ذكر ذلك منه، والآخر أن هذا الناقص المتنقِّص لي مغلوب مهزوم. والمهزوم لا يقع سلاحه إلا على مايلي ظهره، فخص هذا العضو للأمرين جميعًا.
والأجودُ عندى أنه إنما قصد الاستخفاف، والشّتْم، والسَّب بلك كثير. ولذلك سميت الاست السَّبَّو والسَّبَ.
وأصل الناس: الأناس، حذفوا الهمزة لكثرة استعمالهم إياه، وذلك مع اللام، وقد جاء محذوفًا ولا لام فيها، كما جاءت الهمزة فيه مع اللام فيما أنشده أبو عثمان من قول الشاعر: إنَّ المنَايا يَطَّلِعْن على الأناس الآمنينا ولما ذكر سيبويه اسم الله تعالى، وكون الألف واللام فيه خَلفًا من الهمزة قال: ومثل ذلك. أناس: فإذا أدخلت الألف واللام قلت الناس. إلا أن الناس قد تفارقهُ: الألف واللام ويكون نكرة. والله تعالى لا يكون فيه ذلك، وهو فصل معروف في باب ما ينتصب على المدح والنعظيم والشيم في باب النداء.
وقوله:) وآخَرَ قُطن (الجدي في قُطن الرفعُ، لأنه جوهرٌ والجواهر لا يوصف به. إلا أن الجر في مثل هذا قد يَسُوغ، وذلك على توهُّم الصفة، يُقدر الجوهر صفة بقدر ما يحتمله وضعه، نحو ما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: مَررتُ بسرجٍ خَزٍّ صُفّتُه، لأن الخز وإن كان جوهرًا فهو في معنى لَيِّن، صفة قال: الفارسي: كأنهم يقولون:) مررت بقاع عَرْفَج كله (. فيجعلونه كأنه وصف. قال الفارسيّ: كأنهم يقولون: مررت بقاع خشنٍ كله. وإنما قَدَّره بخَشِن، لأن العَرفج شاك، والشوكُ خَشِنُ المس. فاذا جَرَّ فقال:) وآخر قُطنٍ من يديه الجنادل (فكأنه قال: وآخر لين أو ضعيف من يديه الجنادل.
) ومن جاَهِلٍ بِى وَهْوَ يَجْهلُ جَهْلَه ... وَيَجْهلُ عِلْمي أَنَّهُ بِىَ جَاهِلُ (
1 / 7
) وَيَجْهَلُ أبى مالك الأرْضِ مُعْسِرٌ ... وَأنِّى على ظهر السِّماكين رَاجلُ (
ومن جاهل: معطوف على) صائب استه (. أي أنه قد اشتمل بالجهل وَلاَ يَعَلمُ أنه جاهل، بالغ في استجهاله، فلم يُبق له أثرًا من العلم، إذ لم علم أنه جاهلٌ لكاَن له جزٌ من العلم.
وكذلك أيضا بالغ في استجهاله بقوله:
ويَجلهُ على أنه بى جاهلُ
يقول: لا علم له البتة، وكذلك يجهل قدري عند نفسي، فلا يعلم أني إذا ملكت الرض، كنتُ مُعِدمًِا عند نفسي، لقصر ذلك عن قدري، وأني إذا علوتُ السماكين، كنت عند نفسي راجلًا، لأنَّ ذاتي أعظم قدرًا وأكرم خظرًا. و) مالكَ الأرض (: حال، والنية فيه الانفصال، أي مالكًا للأرض. والظرف في قوله:) على ظهر السِّماكين (متعلق بمحذوف أي مستقرًا على ظهر السماكين، وهو حال، فالمجرور في موضوع الحال، وأراد على) ظهور السماكين (، أو) ظَهْرَى السِّماكين (فوضع الواحد موضع ذلك. ومثله كثير، وحسَّن ذلك أن السِّماكين يذكران كثيرًا معًا، فصار كالواحد.
) فما وَرَدَتْ رُوحَ امرىءِ رُوحُه لَهُ ... ولا صَدَرتْ عن بَاخِلٍ وَهُوَ باخِلُ (
أي لم تَرِدْ سُيوفُنا روحَ امرىء إلا صار لغيره، إما بكونه إلى العنصر فَقَدر أن يبخل عليها بهما، أو بواحدة منهما.
) يُخَيَّلُ لي أنَّ الْبِلاد مَسَامِعِي ... وَأَنِّيَ فيها ما تَقُول الْعَواذِلُ (
خُيِّل له السيء وخيل إليه: أي شُبِّه حتى حسبه كائِنًا، ويقول: قولُ العواذل لاَ يْثبُتُ في سَمْعي، كما لا أثْبُت أنا في بلدٍ. أراد: وأني فيها ما يقول لي العواذال، من النهى لي عن التغَّرب وضُروب التَّصرُّف، كقوله:
أوانًا في بيوتِ البدْوِ رَحْلِى ... وآوِنةً عَلَى قَتد البعير
ومثلُ هذا كثير في شعره.
وله أيضًا:
) ابْعَدْ بَعِدْتَ بياضًا لا بياضَ لَهُ ... لأنت أَسْودُ في عَينِي من اّلْظُّلَمِ (
ابعْدَ: أي اهلك. بَعِدَ الشيءُ بعدًا: هَلَك، وبعُدَ بُعدًا: ضد قَرُب. ودعاؤه عليه بالبَعَد: أبلغ من دعائه عليه بالبُعد، لنه إذا هَلَك فقد صار إلى العَدَم، وإذا) بَعُد (كان في الوجود وإن لم يُقْرب. والبعَد أمْحى له من البُعد. وقوله) بَياضًا لا بياضَ لَه (: أي لا بياض له في الحقيقة، ولا يحدث عنه بشر ولا فَرَح.
والعربُ تَصِفُ الحُزنَ بالسَّواد، والسرورَ بالبياض. وهو معنى وله تعالى:) يَوْمَ تَبْيضُّ وجوهٌ وَتَسْودُّ وجوهٌ (. قال:) وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنْثى ظلَّ وجهُهُ نُسْودًا (وأراد:) ابْعَد بَعِدت ذَا بياضٍ (، لأنه إنما يخاطب الشَّعْر الأبيض، ولا العَرَض الذي هو البياض.) لأنت أسود في عيني من الظلم أيها الشيب.
فأما قوله:) أسْوَدُ في عيني من الظلم الُّظلمَ (، فخطأه فيه قوم. قالوا: إن) فِعْل () أَفْعَلِ (هذا على أكثر من ثلاثة أحرف، وهو) اسْوَدَّ (فلا تقع المفاضله فيه إلا بأشَدّ وأبْيَنَ وغيرهما من الأفعال الثلاثية، التي تصاغ نُيوَصَلَ بها إلى التعجب من الأفعال التي على أكثر من ثلاثة.
وهذا منهم غلط. ليست) أفعْل (هنا للمفاضلة، ولا) مِن (متعلِّق بأسود، على حد تعلّق) مِنْ (بأفضل في قولك: زيد أفضل من عمرو. وإنما هو كقولك لأنت أسود، ومعدود من الظَلمِ في عيني.) فَمِن (غير متعلقة بأسْود، كتعلُّق) مِن (بأفعل التي للمفاضلة، وإنما هي في موضع رفع، حالَّةً محل الظرف، بمنزلتها في قول الأعشى:
فلست بالأكثر منهم حَصىً ... وإنما العزَّةُ لِلْكاثِرِ
فلا يجوزُ أن تكون) مِنْ (متعلقةً بالأكثر، لأن اللام تُعاقِبُ مِنْ وإنما هي هنا بمنزلة الظَّرف. وذلك جعل الفارسيّ) مِنْ (هنا بمنزلة ساعة في قول أوس بن حجر:
فإنا رأينا الْعرضَ أحْوَج ساعةً ... إلى الْصَّوْنِ من ريطٍ يمانٍ مُسَهَّم
) بحُبِّ قاَتِلَتى والشيبُ تَغْذِيَتَى ... هَواى طِفْلًا وشَيبى باَلُغَ اْلُحُبم (
1 / 8
أي عَذَبتُ نفسي بحب هذه التي قتلني حبها بالشيب. فأما تغذيتي نفسي بالحب ففي حال طفولتي، وأما في الشيب، ففي حال بلوغي الحُلُم، أي هَويت وأنا طفل، وشِبْت من ذلك الحب وأنا مُتِلمٌ، فجَعلَ الحُبَّ والشيب لنفسه غذاءين وهما مُهلكان لا مُتَمّنيان. والياء في تغذيتي تكون في موضع الفاعل، فيكون المفعول حينذ محذوفًا، أي تغذيتي نفسي، كما تقول: عجبت من ضرب زيدٍ عمرًا. ويجوز أن تكون في موضع المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، أي غُذِّيت. وهَواى: يجوز أن يكون مبتدا وخبره الحال الذي هو طفلٌ كقولك: أكْثَر شُربي السَّويق ملتُويا، والقول في يبي وبالغَ الحلم، كالقول في هَوَاىَ طِفلا. وكأنه قال: بالغًا الحُلُم.
ويجوز أن يكون هَوَاى في موضع جر البَدَل من حُبيِّ، وشَيْبي حينئذ في موضع جرِّ معطوفٍ على هَواى. والأول أقوى.
) شَيخٌ يرى الُصلوتِ الخمسَ نافِلةً ... ويَستَحِلُّ دَمَ الحُجّاج فب الحَرمِ (
يعني بالشيخ هنا: المجَرب إذ لا تكون التجربة لغير ذوى السِّن والحنْكَة، كقول الرياحيّ:
أخو خمسين مُجْتَمِعٌ أشُدِّى ... ونَجَّذَنِى مُداوَرَةُ اُلْشُّئُونِ
وفي كلامهم: ابن خمسين: ليث عِفرِّين، وقد قال هو في موضع آخر:
) سأطلب حَقىِّ بالْفتاَ وَمَشاريخ ... كأنهمُ من طول ما الْتَثَمُوا مُردُ (
مشايخ: جمعَ مشيخة ومَشْيُوخاء على حذف الزائد.) يرى الصلوات الخمس نافلة (: أي أنه لا يعني بمفروضات الدين، ولا تمنهُه مما يشاء إذا أمكنه ما طلبه. ويستحيل دم الحُجاج في الحرام: أي أنه مبالغ في المضاء والنفاذ، حتى لا يردهّ التحرُّج الذي يوجبه الدين فضلًا عما سواه. ويرى هاهنا: من رؤية القلب، لأن الصلاة فعل عَرضي ليس بجوهر محسوس، فتكون حاسّة البصر واقعة عليه. وفي الحَرَم تتميم بديع.
) وَرَبَّ مال فقيرًا من مُروَّته ... لم يُثْرِ منها كما أثْرى من الْعَدمِ (
أي أن اللئيم الغنىَّ يمنع نفسه خظَّها، والفقير السَّمْح إذا وجد أعطاها حظَّها، فالفقر مع السماحة أجدى على صاحبه من الغنى مع اللؤم، كقول حسان بن حنظلة:
إنا لَعَمْر أبيك يَحْمد ضيفُنا ... وَيَسودُ مُغْتَرِبًا عَلَى الإقلال
وتقدير البيت: ليم يثر هذا اللئيمُ الغنىُّ من غناه، كما أثرى هذا الفقير السَّمْح من العَدم.
وقد يجوز أن يَعْنَىِ أن ثرثرة هذا اللئيم الغنىِّ من الفقر، وأكثر من ثروته من الغنى، أي أن حالة المُعدِم أظهر من حالة الغَنِىِّ.
فأما قوله:
) يَجْنِى الْغِنَى لِلِّئَام لو عَقَلوا ... ما ليس يَجْنى عليهمُ العَدَمُ (
فمعناه المبالغة. أي أنهم يمنعون أنفسهم حظَّها في حال الغنى، فلا يُقَدَّرُون بل يُذمُّون بظهور حال الفقر عليهم، وإن كانوا أغنياء. وأما إذا ظهرت عليهم حال العُدْم وهو مُعدمون، فلا ذُمَّ عليهم، بل عذرهم في ذلك بَيِّن.
وله أيضًا:
) حَاشَى الرَّقيبَ فخانْته ضمائرُهُ ... وغَيَّض الدَّمعَ فانهلَّت بَوادِرُهُ (
يُريد: استَثْنىَ الرقيبَ، وأخرجه مما كان يعرف سَّه، لأنه كان في أول أمره يبوح بسره إلى بعض إخوانه، ويخفى ذلك عن الرقيب. فلما تمادى ذلك به أفرط عليه، إلى أن بخل وبكى، وذل وشكا، فعلم الرقيب ذلك منه.
) غاَب الامير فغابَ اّلخيرُ عن بَلدٍ ... كادَتْ لفَقْدِ أسمِه تبكى مَنابُره (
كان الأمير المجهول مخطوبًا له بحمص أيام ولايته إياها، فأزيل عنها فانقطع الاختطاب باسمه على منابر هذه المدينة، فحنت المنابر وبكت لذلك.
) قد اشْتَكَتْ وَحْشَةَ الأَحْياء أَربُعُةُ ... وخَبَّرتْ عن أَسىَ الْمَوتَى مَقاَبِرُهُ (
الهاء في مقابره: للبلد ذاك، كما كانت في المنابر له. أي تَوحَّش إليه الأحياء، وهذا ممكن، والأموات، وهذا غير ممكن، لكنه بالغ بالموتى، وأفرط بقوله: إنَّ المقابر مُخْبرة عن أسىَ الموتى، فالنصف الثاني أغلى من الأول، لأن الأحياء يتوحَّشون، وإن كان فيه غثلُوٌّ أيضًا لإسناده الشكوى إلى الأربُع فيه. وكأن الأربُع إنما اشتكت رقَّةً لما تراه من توحُّش أهلها، وبُعدًا بذلك.
وإن شئت قلت: خُلِّيت الأربع بعد المير من سكانها، فتشكت توحُّشها إلى الأحياء) وهذا (أولى. لتطابق إسناد الأسى إلى الموتى.
1 / 9
) تَحْمَى الْسُّيوفُ عَلَى أَعْدَائِه مَعَهُ ... كأَنَّهنَّ بَنُوه أَو عَشائِرُهُ (
أي إن السيوف تحَمَى على أعدائه معه، تعصبًا له وحبًا، حتى كأنَّ السيوف من مظاهرتها ونصرها له، وتبليغها إياه ما شاء من عدوه، بَنُون له أو عشائر قال أبو الفتح: وهذا أبلغ من قول أبى تمام:
كأنما هي في الأوداج والغةٌ ... وَفي الْكُلَى تجدُ الْغيظ الذي تجدُ
لأن أبا الطيب قد جعل السيوف بنين له وعشائر. وإذا كانت المناسبة استحكمت العصيبة، وازدادت الأنفس حمية، وأبو تمام لم ينُطْ بيتَه بشيء من معنى المناسبة.
) إذا انْتَضاَهاَ لِحَرْبٍ لم تَدْع جَسَدًا ... إلاَّ وباطِنُه للعين ظاهِرُهُ (
انتضاها: جرَّدها. أي إن الدن الذي هو باطن الجسد يَفيض فيصير ظاهرًا. وقيل تَقْطع الأشلاء وتَقُدّ الجلد، فيظهر من الجسم ما كان باطنا.
وله أيضًا:
) وَمِن جَسَدى لم يَتْرك الْسُّقمُ شَعْرةً ... فَما فَوقها إلاَّ وفيها له فِعْلُ (
أي أن السُّم نال طائفة من طوائف جَسَدي: اللَّحم والعَصب والعَظم، فأنحاَه وبراه، حتى الشَّعْر الذي هو أرقٌّ الطوائف جسمي، فإنه أثر فيه بالشيب. والشيبُ سُقْمٌ، لأنه مُشْعِر بفناء، كما أن السُّقْم كذلك ولذلك قال بعض الشعراء في صفة الشيب:
هو الْسُّقم إلاَّ أنه غيرُ مؤلم ... ولَمْ أَر مثل الشيب سُقما بلا ألَمْ
وقد يجوز أن يَعْنِى أنه قَذَف في اصغر طوائف جمسي، هو الشَّعرُ، بهذه النازلة العظيمة الشنيعة، وهو الشيب فقس على سائر الجسم بمثل هذا القياس، كما يُستدل بالأصغر على الأعظم، وبالأقل على الأكثر، أدى إذا كان فعله في الشعر هذا، فما ظنك باللحم، وما يحمله من العصب والعظم؟
) هُمامٌ إذا ما فَارَق الْغمدَ سَيْفهُ ... وعايَنْتَه لم تَدْرِ أيهُّما النَّصْلُ (
أي أن مضاءه كمضاء السيف، وبشره وبشاشته كفر نده وصقالته، فأنت تشكُّ فيهما حتى لا تميز أحدهما من صاحبه. وهذا كقول ابى تمام:
مُنْصَلِتًا كالسيف عند سَلِّهِ
وقال رؤبة:
كأنني سيف بها إصْلِيتُ
ونحوه عندي قوله هو أيضا:
كَفرنْدِى فِرنْدُ سيفي الُجْرَازِ
أي كبسرى عند القتال وبشاشيتي وفرحي بتاثيري في اقراني، فرند سيفي هذا الجُرازُ: القاَطِع، وذهب قوم إلى أنه عنى بفرنده نفسهَ: سُهُومه وتغيره من السفر والجد والتعب. فكنى عن ذلك السُّهام بالفرند، لدلالته على شرف الهمة ورفعة النفس، وإنما الصحيح الول كقوله في موضع آخر: أَرى من فِرنْدِى قطعةً من فرنْدِه وَجُودَةُ ضَرْبِ الْهام في جُودةِ الصَّقْلِ
إذا قيل حلمًا قال للحلمِ موضع ... وحَلْم الفتى في غير موضِعه جْهلُ
أي طلبُ الرفق في موصع النزال خديعة لا يخلد إليها أريب، كقوله:
يناشدني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وإنما يروم بذلك قرنهُ منه التماس نهزةٍ أو حذبًا إلى كشف شدة عن نفسه.
) ولولا تَولِّى نَفْسه حَمْلَ حِلْمه ... عن الأرض لا نهدَّت وَنَاءَ بها الْحِملُ (
الحمَلُ: المصدر، والجملُ: الاسم. وناء بها: أثقلها، وفي التنزيل) ما إنَّ مَفَاتحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ (. ولا يقال) ناء (إلا في حد الإتباع لساء، يقال:) له عندي ما ساء وناء (، وقد يكون مع الإتباع صيغ لا توجد في حد الإفراد، كقولهم هَنأءُ ومرأه، فإذا أفردوه قالوا أمرأه. وقالوا: إني لآتيه بالغدايا، والعشايا، والغداة لاتجمع على غدايا، لأن) فَلة (لا تُكسر على فعايل. لكنهم تجوزوه لما قرنوه بالعشايا، ولا عليك أتبع الثاني الأول، أم صيغ الأول على حكم الثاني، لأن مذهب العرب في ذلك، أن تصوغ الكلام من جه واحد طلبًا للمشاكلة.
ومعنى البيت: أن حلمه رَزِين فلو لم يتولَّ حَمْله نفسه بنفسه، ووكل الارض بحمله، أثقلها فانهدت. وإنما يوصف الحلم بالزراعة لما يتبعه من الوقار، كقول الآخر:
أحلامُنا تزن الجبالَ رزانةً ... وتزيد جاهلنا على الجهال
وقد قال هو أيضا:
وبقيات حلمه عافت النا ... س فصارت ركانةُ فب الجبال
) وَحالتْ عَطاياَ كفِّه دُون وَعدِه ... فليسَ له إنجازُ وعد ولا مَطلُ (
1 / 10
أي أن عطايا بلا عدة. والإنجاز والمطل: عرضان أو خاصتان للوعد. فوجودهما بوجوده، فإذا ارتفع الوعد ارتفعت خاصتاه اللتان هما الإنجاز والمطل، وكذلك كل خاص ومخوص، إذا انتفى الخاصة، كالضحك وقبول العلم والأدب اللذين هما خاصتا نو الانسان. فاذا انتفى الانسان انتفت هاتان الخاصتان.
وإنما مثلتً الوعد بالانسان، وان كان الوعد عرضا، والانسان جوهرا تقريبًا وتثبيتًا. فلا تظن بنا غير ذلك، ولو وثقنابفهم بنى الزمان، لغنينا عن إطالة البيان.
) كفى ثُعلًا فخْرًا بأنك منهمُ ... ودَهْرٌ لأن أمْسَيْتَ من أهله أهْلُ (
أي ودهرٌ بكونك من أهله. أي دهر مستحق لذلك. وَرَفَعَه بفعل مُضمر أي وليفخر دَهْرٌ، وحسن هذا الإضمار، لأن قوله:) كفى فخرًا بأنك منهمُ (في قوة قوله: لتفتخر ثُعلٌ، فحمل الثاني على المعنى، فكأنه قال: لتفخر ثُعل وليفخر دهر، والحمل على المعنى كثير، فأهل: صفة لدهر، وأراد كفى الفخرُ ثُعلًا فخرًا بكونك منهم.
وله أيضًا:
) أبرحْتَ يامَرَضَ الجُفُون بِمُمْرضٍ ... مَرضَ الطبيبُ له وعيدَ العُوَّدُ (
أبْرحْتَ: بالغت في تعذيبه، وتجاوزت النهاية، ومنه قولهم: أبرحْتَ فارسا: أي بلغت الغاية، وتجاوزت النهاية. ومرض الجفون: فتورها. والممرض: يعنى نفسه لأن مرض الجفن أمرضه، فيقول: بالغت يامرض الجفن بإمراض مريض، مَرِض الطبيب له: إما عجزا عن شفائه. ومرض العُوَّدُ لشدة ما رأوا به فِعيدوا.
ولابن جنى في هذا البيت كلام أجله عن أن أغزوه إليه.
وقوله:) مرض الطبيب له (، فله: في موضع الصفة للمُمرض، ومعنى له: أي) من (أجله. وقد يكون في موضع المفعول كقولك: أنا عليم بك ووكيل عليك.
) فله بنُو عبد العزيز بنِ الرِّضا ... ولكلِّ رَكبٍ عِيْسُهم والفَدْفَدُ (
يريد أنه قصد بنى عبد العزيز ليشفوه مما به، ولم يأخذ سيرة الذين يأخذون بقولة امرئ القيس:
وإنك لم تقطع لُبانة عاشق
لأنهم يرون البعُد من المحبوب مما يُريح، فترك هو هذا، ونحا إلى بني عبد العزيز، يذهب إلى أن شُغل بني عبد العزيز هؤلاء أن يُريحوا من هذا المُمرض، وشُغْل كل ركب أن يركبوا العيِيْس، ويمشوا في القفار.
وبعض الناس يقول: إن العِيْس لبني عبد العزيز، والأحسن ما بدأْنا به.
) نِقَمٌ عَلَى نِقَمِ الزَّمانِ يَصُبُّها ... نَعِم عَلَى النِّعَمِ التي لا تُجحَدُ (
أي نعمه البوادي العود: تدفع نقم الزمان، فتغنى من فقر، وتفُك من أسرأ والأسر من نقم الزمان، فهو يصب هذه النعم فينتقم بها من نِقم الزمان، لن جوده وغياثه إذا أزالا الفقر والأسر ونحوهما من النقم، فقد انتقما منها، فهن إذن نقم على الزمانية، ونعم على الأسير والفقير ونحوهما ممن أصابه الدهر ينقمه.
) مَن في الأنامِ من الكرام ولا تقُل ... من فيكَ شَأمُ سوى شُجاعِ يُقصدُ (
الشأم، مذكر، وتقدير البيت: من في الأنام من الكرام سوى شجاع يُقصد يادنيا، ولا تقل) من فيك ياشأمُ (، فخص بذلك الشأم وحده، فإنه أوحدُ الدنيا جميعًا. لا أوحد الشأم وحده.
) أرضٌ لها شرفٌ سواهَا مِثْلُها ... لو كان غيُرك في سواها يُوجدُ (
أي منبجُ هذه ارض شريفةٌ، وغيرها مثلها، لولا كونك بها، فإنما شرفت على البلاد بك لابذاتها.
) بَقِيتْ جُموعُهُم كأنك كُلها ... وبقيتَ بَينَهُم كأنك مُفْرَدُ (
أي أغنيت غناء الكُل، فكأنك كلهم كقوله:) إلا رأيتُ العباد في رجل (.
وبقيت بينهم كأنك مُفرد، أي لم يكن فيهم من يجوز أن يُعد ثانيًا لك، وإن كان حولك منهم جماعة.
) ما شَارَكَتْه مَنِيةٌ في مُهجةٍ ... إلا لِشفْرَته عَلَى يدها يَدُ (
العرب تقول: لك على فلان اليدُ البيضاء؛ أي المزية الظاهرة.
فمعنى البيت: إن لشفرته الأثر الأظهر، فإما أن يكون؛ لأن تأثير السيف أظهر من تأثير المنية، لن تاثير السيف جُسماني عليه يقع الحسر، وتأثير المنية نفساني، لا يقع عليه حس.
وقديجوز أن تكون للشفرة اليد على المنية، من جهة أن المنية معلولة للسيف، والسيف علة لها. والعلة أشرف من المعلول، فوجبت المزية للسيف بذلك.
1 / 11
وقد يتوجه البيت على أن كل شريكين، فمن المعتاد الأغلب أن يكون أحدهما أقوم بالأمور، فتعلو يدهُ يد صاحبه، فاذا شاركت المنية سيفه فحكمه أمضى، والأول عندي أقوى.
) قَطَّعتهُم حسدًا أراهُم ما بِهمَ ... فَتَقَطعوا حسدًا لمن لا يَحْسُدُ (
أراهم مابهم: أي كشف لهم عن تقصريهم عنك، ولو أن اتزن له أراهم ما هو به كان أدخل في الصناعة المنطقية، فتقطعوا حسدًا لمن لا يحسُدُ: أي هم يحسدونك لنقصهم عنك، وأنت لا تحسد احدًا، لن الفضائل كلها متجمعةٌ لك، فلم يبق لك ما تحسد عليه غيرك.
وقوله: أراهم مابهم، جملة في موضع الصفة.
) أنى يكونُ أبا البَريةِ آدمٌ ... وأبُوكَ والثِّقلانِ أَنت مُحمَّدُ (
هذا محال من القول وسفه، أي انك انت الإنس والجن، وأبوك محمد، هذا يعني أبا الممدوح، لفما لهذه البرة وادعائها آدم أباها، وهذا من قبيح الضعف، وطريق السخف، وقد دخل به العقابُ في أنه لم يُحسن تأليف البيت ولم يُوفق لإقامة إعرابه. ألا تراه فصل بين المبتدأ والخبر بجملة أجنبية في قوله:) وأبوك والثقلان أنت محمد (. وموضع الكلام: أبوك محمد، والثقلان أنت. وهذا لا يكاد يُسيغه لنفسه الذي يقول: ضحِك الناس وقالُوا شِعْر وَضّاح الْيَمانِ إنما شعرى قيد عُقِدْ بخُلَّجانِ وقال ايضا:
) طلبتُ جسِيمَ ما طَلَبِى وإنَّا ... نُخاطرُ فيه بالمُهَجِ العِظامِ (
اراد جسيم طلبي، و) ما (: زائدة. والعظام هانا: كناية عن العز والشرف.
أي يقول: أنت إنما نُخاطر في طلب بالمهج العزيزة التي لا خلف منها إذا فقدت.
) وَلو بَرَز الزمانُ إلى شخصًا ... لأدْمَى رأس مفْرقِهِ حُسامِي (
أي لو شخص الدهرُ لأثرت فيه بسيفي، والدهر ليس بشخص لن وجود النور وعدمه، لاختلاف حركة الفلك، فتمناه هو شخصا ليوقع به، غُلُوا منه غلُوًا، وعليه دائرة السوء.
) إذا امتلأتْ عُيونُ الُخيلِ منِّي ... فَويلُ للتَّيقُّظِ والمناَم (
أي أروعهم ببأسي متقيظين، ويحملون بي، وذلك بما بقى في نفوسهم من الروع، كقوله هو:
يرى في النومِ رُمحك في كُلاُه ... وَيخْشَى أن يراهُ في السُّهادُ (
ومادة كل ذلك قول الشاعر:
وعَلَى عُدوًَّك بابن عمِّ محمد ... رَصَدان ضوء الشمي والإظلامُ
فإذا تنبَّه رُعتهُ وإذَا هدا ... سَلّت عليه سيوفَك الأحلامُ
وأراد المتنبي: إذا امتلآت عيونُ فرسان الخيل، فخذف المضاف، واراد فويلٌ لها في التيقظ والمنام، فأسند الويل إليهما مجازًا لا حقيقة، لن التيقظ والمنام عرضان لا يلحقهما ويل.
وقد يجوز أن بعض المصدر موضع الاسم، كأنه قال: فويل للمُتيقظ والنائم، كقولهم: ماء غَوْرٌ: أي غأر؛ ومثله كثير.
وله ايضا:
) أذا الغُصنُ أم ذَا الدِّعصُ أَم أَنت فتنةٌ ... وذَيَّا الذي قَبَّلتُه البرقُ أم ثَغْرُ (
أي: اقدكُ غصنٌ؟ أم ردفُك دعصٌ؟ و) ذيا (، تصغير) ذا (. وإنما صغره، لنه اشار إلى الثغر؛ والثغر يوصف بالصغر، ألا ترى إلى قول النظام يصف عجبه من امراة طرحت خاتمها في فيها فقال:
مِنْ رَمْيها الْخاتمَ في الْخَاتَم
شبه فاها بالخاتم لصغره و) أم أنت فتنةٌ (: يكون فيه) أم (العديلة لألف الاستفهام، وتكون منقطعة كَهَلْ، وقد اعترض السؤال عن الجملة، أعنى قوله:) أم أنت فتنتة (بين اثناء الكلام عن الأجزاء، لأن القَدَّ، والرَّدف، والثغر، كلها طوائف، وأنت جملة. وإنما كان ينبغي، لو استقام له، أن يقرع بالسؤوال عن الطوائف، ثم يجُما، أو يجُمل مبتدئا فيقول: أنت فتنة، ثم يأتي بالطوائف.
واما هذا الفصل عندي بين النظائر بالغريب، فقلق غير متمكن، وهذا إنما) يحكيه (أهل المنطقية. وكذلك قوله:) وذيا الذي قبلته البقُ أم ثغرُ (كان أصنع أن يقول:) بَرْقٌ (، لمكان) ثَغْر (، لأنهما نكرتان.
) فَتى كلَّ يوم يحتوي نَفْسَ مالهِ ... رماحُ المعالي لا الرُّدَيْنِيةُ السُّمرُ (
تُغير على ماله رماحُ المعالي، يعنى المدائح. أي رماح المدائح التي تُبنى بها المعالي، تُغير، كقول أبى تمام:
وآمله غادٍ عليه فسالُبه
وقال: رماحُ المعالي، ولم يقل سيوف المعالي، توطئة للردينية السُّمر.
1 / 12
وقوله:) نَفْس ماله (، ليس للمال نفس في الحقيقة، إنما تجوز بذلك، كما تجوز بأن جعل للمعالي رماحا، وليس هناك رمح ولا نفس، وعلى هذا أوجه أنا قوله:
ألستُ من القوم الألى مِنْ رماحِهم ... نداهُم ومن قتلاهُمُ مُهجةُ الْبُخلِ
لما استعار ما ذهب إليه أكثر مفسري هذا الشعر، من أنه عنى بقوله:) من رماحهم نداهم (: أنهم يجودون، وإنما يجودون بما تُفئ عليهم رماحهم من النهب. وما أدرى ما أعماهم عن هذا على وضوحه.
وله ايضا:
) ولا الدِّيارُ التي كان الجبيبُ بها ... تشكوُ إلي ولا أشكُو إلى أحدٍ (
شكوى الديار إنما هي باعتبار النظار من سوء آثار الزمان عليها. كقول علي ﵁ مخاطبًا القبور: لم تُجبك جهارًا، أجابتك اعتبارا.
يقول الشاعر:
وَعظتكَ أجداثٌ صُمُتْ ... وَنَعَتك ألسنةٌ خُفُتْ
وَتكلمتْ عن أوْجُهٍ ... تَبْلَى وَعن صُوَرٍ سُبُتْ
فيقول: إن دمعي حال دون تأملي آثار البلاد في الديار، فيقوم مقام شكواها إلي: لولا مَنعُ الدمع إياي من التأمل، لرأيت سُوء صُنع الدهر بها، لكن الدمع كَفَاني وحماني النظر، كقول الآخر:
فعيناي طورًا تغرقان من الُبكا ... فأعشى وطورًا تحسران فأبصرُ
ولهذا العلة سقول الشاعر منهم لرفيقه: تبصر وانظُر، كقوا امرئ القيس:
تَبصِّر خَلِيلي هل ترى من ظَعائنٍ ... سَوالكَ نَقْبًا بين حَزْمَيْ شَعَيْعبِ
وقال آخر:
بل تَبصَّر، فأنتَ أبصرُ مِنِّي
أي أن الدمع قد حال بيني أنا وبين التأمل، بإغراقه ناظري؛ وقد بكيت حتى اكل الدمعُ بصرى.) ولا أشكو إلى أحد (، أي أنها قفر لا أحد فيها فأشكو إليه، أي ليس بها احد يُشكى اليه، فأنا أدع الشكوى لذلك، ونفيه العام هنا كقول النابغة:
) عَيتْ جوابا وما بالربْع من أحدِ (
وقد يتوجه البيت على أنه لم يبق في الدار فضل للشكوى بما هدمها وأبادها من البلى، ولا في أنا للشكوى. أي قد ضعفت عن ذلك، والأول أوجه.
) أيُّ الأ كف تُبارى الغَيْثَ ما اتَّفقا ... حتى إذا افترقاَ عادتْ وَلم يعُدِ (
الأ كف: جمع كف، قال سيبويه: ولا يكسر على غير ذلك أي كفٍّ سوى كف هذا الممدوح تعارض الغيث؛ أو تباريه؟ حتى إذا أقلع الغيث عادت الكف للندى. وهي تلك الكف بعينها، ولم يعُد الغيث، لأن ذلك الغيث بعينه لا يعود أبدا. وفي قوله:) عادت (، إشعار بأنها أقلعت وإنما قاله توطئة لقوله:) ولم يَعُد (، ومثل هذا كثير في كلامهم، كقوله تعالى:) فمن اعْتَدَى عليكم فاعْتَدُوا عَلْيه (، وانتصار المؤمنين من الكفار، ليس باعتداء ولا ظُلم، ولكنه ذكر الاعتداء هنا لتقدم) فمن اعتدى (. ومثله قول الشاعر:
ألا لا بَجْهلَنْ احدٌ علينا ... فنجهل فوقَ جَهْلِ الجاهِليناَ
وقوله:
أي الأكف تُباري الغيث ما اتفقا ... حتى إذا افترقا عادت ولم يعدُ
يسمى ترجيحا، فقد وقعت المساواة بين الكف والغيث بلا فضل لأحدهما على صاحبه. فإذا أقلع الغيثُ ودامت الكف تجود، فقد فَضَلت الغيث الكفُ ورجعت عليه.
وله ايضا:
) وفشت سرَ اثرنا إليكَ وَشَفَّنا ... تَعْريضُنا فبدا لَكَ التَّصْرِيحُ (
أي لما جهدنا التعريض، استروحنا إلى التصريح، فانتهك الستر. وإن شئت: لما عرضنا؛ ظهرت دلائل الحُب علينا كفيض الدمع، وتغير اللون، فعاد التعويض تصريحًا، بهذه الأدلة التي أعربت عن الحب، وصرحت به، وإن كنا نحن لم نُرد التصريح فتقديره. فبدا لك التصريحُ من تعريضنا. ومعنى شفنا على هذا القول: نقص تصبُّرنا، وغير تجلدنا، وقد يكون وشفنا: أي شف قوتنا على التكتم فبكينا، فحصل العريض تصريحا.
) شِمناَ وما حَجبَ السَّماءُ بروقَه ... وَحرى يجُود وما مرَتْهُ الريحُ (
نشيم بروق المزن أين مصابُهُ ... ولا شيء منك يابنة عفزرا
وقال ابن مقبل في النار:
ولو تُتري منه لباع ثيابه ... بنبحة كلب أو بنارٍ تشِيمُها
1 / 13
أي شمنا الببروق، ولم يُحجب السماء. أي لا غيم هنالك، فيُحجب أديم السماء، وإنما عنى مخايل يديه، وإن شئت قلت: إن الجو يبسِم بالبرق بعد تعبُّسه بالغيم، وهو يبقى أبدًا، فبرقه في صحو، ولا يلحقه عبوس، فيكون ذلك العبوس كالغيم. فجوده هنئ، وليس الغيث كذلك، لأنه وإن حلى الأفق بالبرق، فإنه يحجب حسن السماء، وجمال سِمتها، ويحجبها بالغيم وهذا قريب من قوله هو:
فَترى الفضلة لا تَرُدُّ فضيلةً ... الشمس تُشرق والسحاب كنهورا
عنى بالسحاب الكنهور: نداه، وبالشمس: بشره، وحسن وجهه الوضئ، وسنشبع شرح ذلك في القصيدة التي هو فيها إن شاء الله تعالى.
) وحرى يجودُ وما مرته الريح (. أي حرى نان يجود من غير أن تَمْرِ به الريح.
يذهب إلى تخليص جود هذا المدوح من الكدر، وتفضيله على المطر، لأن ماء المطر وإن كان طهورًا نافعًا، فإن هناك ما يُكدره، وهو الغيم الذي يطمس نور الشمس، فيولد الكُرْبة في النفس والريح التي يتوقع منها الآفات وأنواع الجوائح. وإن شئت قلت: إن الريح هنا مستعارة، وإنما كنى بها عن السؤال، لأن السؤال يستخرج النوال، كما أن الريح تمرى الماء. فيقول: جُوده متبرع يُغنى عن السؤال: كقوله هو:
وإذا عنُوا بعطائه عن هَزِّه ... وإلى فأغنى أن يقولوا وَالهِ
لذلك قال هو أيضا:
والجراحاتُ عنده نَغَماتٌ ... سَبَقَتْ قَبلَ نَيْلهِ بسؤال
وسيأتي شرحه في موضعه: ونظيره قوله:
وَحرَّى يجود وما مرته اليحُ
وعلى هذا القول الأخير قول البحتري:
مواهبا ما تجشمنا السؤال لها ... إن الغمام قليبٌ ليس يحتفرُ
ويجوز) وحرى يجود (بإضمار) أن (، أي وحرى أن يجود.) ما مرته الريح (. جملة في موضع الحال.
وله ايضا:
) لمَ يَلق قبلكَ من إذا اشْتجر القَنا ... جَعَل الطَّعان مِن الطِّعان مَلاذَا (
إن شئت قٌلت معناه: أنك تلقي فسك للطعان محتقرًا لها، لتهابك الأقران. وإن شئت قلت معناه: إنك تلوذ من الطعن بطعنك لعدوك، علما أنك إن تهيبته ولم تطعنه طعنك فإما تدفعه باإقدام، لا بالإحجام،) لأنه (تمكين للعدو.
ولهذا قالت العرب: إن الحديد بالحديد يُلف: أي إن الشر إنما يدفع بمثله. كقول قطري:
تأخرتُ أستبقى الحياة لم أجِد ... لنِفْسي حياة مثل أن أتَقدَّما
وقال المتنبي في نحوه أيضا:
فإن تكُن الدولاتُ قسماَ فإنها ... لمنَ ورد الموتَ الزؤام تدُولُ
لمنْ هوَّن الدنيا على النفس ساعةٌ ... وللِبيض في هامِ الكماة صليل
) لمَّا رَأوك رَأوا أباك مُحمدًا ... في جوشنٍ وأخاَ أبيكَ مُعَاذَا (
أي) ذكروا (برؤيتهم إباك عمل وأباك. يذهب إلى قوة شبهه بهما كقولهم ابو يرسف ابو حنيفة، أي مثله، وقد قال المتنبي في هذا المعنى:
لو تنكَّرت في المكَرِّ بقومٍ ... حَلَفُوا أنك ابنُهُ بالطِّلاقِ
وله ايضا:
) وكأنما عيسَى بن مريمَ ذكرُه ... وكأنَّ عزر شخصُه المقبورُ (
عازرُ هذا: أخياء عيسى، وإقامه من قبره، فكذلك ذكر هذا البيت يحييه، كما أحيا المسيُ عازر. وترك صرف عازر لأنه أعجمي.
وله ايضا:
) تُشَقَّق منهُنَّ الجُيوب إذا بَدَتْ ... وتُخْضَبُ منهُنَّ اللَّحَى والمفارِقُ (
) تشقق منهن الجيوب (. أي إن البعولة والبنين يقتلون بها، إذا جُردت من أغمادها، فيشقق الثكإلى جيوبهن. و) وتُخضَب منهن اللحى والمفارق (أي يُخضبن بالدم، حتى يُشكل الشابُ والكهل والشيخ، فلا تعرف الثكلى بعلها من ابنها.
) يحُاجى به: مَا ناطقٌ وهو ساكتٌ؟ ... يُرى ساكتًا والسيفُ عَن فيه ناطقُ (
الصمت والنطف: ضدان، والضدان لا يجتمعان في محل واحد، في وقت واحد، لكن هذا الملك ينطق السيفُ عنه وفمه ساكت، فالأحجية من البيت في الشطر الأول وتحليلها في الثاني، ونُطق السيف عنه؛ عمله في عًصاته وعُداته، إذ السيف جمادُ، والجماد لا نطف له. وإنما هو كقوله:
وقالت الأنساعُ للبطن الحقِ
ولو تقصيت هذا لطال الكلام، لن في مثله يطولُ المثال.
وله ايضا:
) وتُنكرُ مَوْتَهُم وأنا سُهيلٌ ... طَلعتُ بموت أولادِ الزِّناء (
أكثر الموت الواقع في البهائم، إنما هو عند الرعاء بطلُوع سُهيل، فعد أضداده من جهلهم. بهائم يمُيتهم سُهيل. قال:
1 / 14
وكان أضر فيهمْ من سُهيلٍ ... إذا أوفى وأشأم من قُدارِ
وقال المنجمون: طُلوع سُهيل طلوع ضُرٍّ وويل. فيقول هو: طلوعي ضرر على أولاد الزنا. ولم يعن بذلك أنهم لزنية في أنسابهم، إنما أراد أنهم يعتزون إلى الفضل وليسوا منه، كما ينتسب بنُو الزنا إلى غير آبائهم. وسُهيل: اسم جاء على بناء التصغير وله ايضا:
) مَلامُ النَّوى في ظُلمِها غايةُ الظُّلم ... لَعلَّ بها مِثلَ الذي بي مِنْ سُقْم (
أي أن ملامى للنوى في ظلمها لي، واسئثارها بمحبوتي غاية الظلم، لأن في الإمكان، وطبيعة تأثير الزمام أن تكون النوى عاشقةُ لهذا المحبوب كعشقى، فيورثها ذلك سُقما كَسُقمى، فالحكم ألا ألومها، لأن من لم يُؤثر عليك إلا نفسه فليس بمؤثر عليك أحدا.
وبالغ بقوله: غاية الظلم، مُدرا أن بالنوى من الوجد مثل ما به. وذكر السُّقم ولم يذكر العشق استغناء بذكر المسُبب عن السبب. واراد ملامى للنوى، فأضاف المصدر إلى المفعول، كقوله تعالى:) لايَسْأمُ الإْنسانُ من دُعاءِ الَخْيْر (.
) طِوال الرُّدَينَّيات يَقْصفُها دَمِى ... وبِيضُ الْسُّريْجِيّات يقطُعها لحْمِى (
إن شئت قلت: إن دمه يقصف الرمح بحدته وقوته، أي أنه أقوى من الرمح.) وبيض السُّريجيات يقطعها لحمى (: أي أنه احدُّ من السيف، فهويؤثر في السيف تأثير السيوف في غيره.
وقد يكون أن الرماح والسيوف تنبو عنه، ولا تؤثر فيه البته. فكأن دمه كَسر الرمح، وكان لحمه قطع السيف. وقد يجوز أن يهنى أنه من نفسه وعشريته في منعة. فإذا أصابه طعن أو ضرب، أكثر الطعن في طلب ثأره، حتى تتقصف الرماح، وتتقطع السيوف.
) مُذلُّ الاعِزَّاء المُعزُّ وإن يئن ... به يُتمُهم فالمُوتمُ الجابر اليتم (
أي مذل مخالفيه المعادين له، معز محالفيه المعاضدين له. وإن يئن: أي يقرب به يُتمهُم، أي يُتم أبنائهم بقتله أباءهم، فإنه يجبر يتمهم بعوده عليهم؛ واكتفاله إياهم بعد الآباء.
وقد يجوز أن يوتم قوما ويجبر يتم آخرين، لم يكن هو الذي أيتمهم.
) إذا بَيَّت الأعداء كان اسْتماعُهم ... صرير العوالي قَبل قَعقعةِ اللجم (
أي يطوى سره؛ ويخفى حسه، حتى يكاد يُخرس اللجام فلا يخرس. وهذه مبالغة في طي الخبر.
) وقد الحزم حتى لو تعمد تركه ... لألحقهُ تضييعه الحزم بالحزْم (
أي أن حرمه طبيعي؛ فلو تعمد تركه لا نعكس تضييعه الحزم حزمًا، إذ ليس قوته غير ذلك.
) وفي الحرب حتى لو اراد تأخرا ... لأخره الطبعُ الكريمُ إلى القُدْم (
أي أن طبعه إتيان الفضائل، وتنكب الذائل، فلو رام التأخر ممتحنًا لطبيعته تلك، لتأبى عليه الطبع، فرده إلى التقدم.
وقد اطرد هذا المعنى في غير هذا الموضع من هذا الشعر، كقوله:
) لَهُ رحمةٌ تحيى العظام وغضْبةٌ ... بها فضلَةٌ للجُرم عن صاحِبِ الْجُرمِ (
يُحيى العظام: مبالغة في قوتها على الإحياء. وغضبةٌ: أي إذا إغضبه المجرم الجاني تجاوز له غضبه قدر جُرمه، فاما تجاوز به قدر جرمه فإهلكه، وإما تهاون به فتركه.
) دُعيتُ بِتقريظيك في كل مجلسٍ ... فظَن الذي يدعُو ثَنَائي عليكَ اسْمِي (
أي أن لزمتُ مدحك، وخصصت حمدك، حتى عُرفت بذلك، وغلب على اسمي العلم وكُنيتي ونسبي، وظن الذي يدعو ثنائي عليك اسمي: أي قيل لي: با مادح ابن إسحاق، ذهابًا إلى أن ذلك اسمي لا اسم لي غيره، وأراد يدعوني، فحذ المفعول. ثنائي واسمي: مفعولا ظن. وإنما أراد الصفة المشتقة من ثنائي عليك، كقوله: يا حامد، ويا مادح. ولم يرد المدح ولا الحمد، لأنهما عرضان، والمسمىجوهر، فلا يُدعي الجوهر بالعَرَضِ.
) وَثقناَ بأن تُعطى فلو لم تَجُدْ لَنا ... لَخِلْنَاك قد أعطيتَ من قوَّةِ الوهمِ (
يذهب إلى أنه لو عدم فضيلة في وقت، لُظن فيه أنها موجودة أو تُيقنت وذلك لما يُعتاد من وجود الفضائل فيه، وهذا كالصادق يَكْذب فيُتوهم كِذْبه صدقًا، لما جرت به العادة من صدقه.
وقد عظم إعياء أبى الطيب في هذه القصيدة جداُ.
فمن ذلك أنه عكس المر بين الفاعل في بيته الذي هو) طوال الرُدينيات. . . (.
ومنه: أنه جعل الضِّد ينقلبُ إلى ضده كقوله:) لألحقَه تضييعه الحزم بالحزم (. وليس من شأن تضييع الحزم أن ينتج الحزم.
وكذلك قوله
1 / 15
وفي الحرب حتى لو أراد تأخرًا ... لأخره الطبعُ الكريم إلى الْقُدو
فجعل التأخير ينعكس إلى التقدم.
ومنه: أنه جعل العدم يُظن به الوجود، كقوله:
) . . . فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيتَ. . . (
) فكم قائل لو كان ذا الشخُ نفسهُ ... لكانَقراهُ مكمنْ العسكر الدهمِ (
النفس روحانية: فاما تعظم عظما روحانيا كعظم العالم العلوي. والجسم جوهرٌ متكائف، فلو تجسمت هذه النفوس لعظم جرمُها، وكانت ذات طوائف جسمانية عظيمة. فكأن ظهر هذا الجسم يستُروراءه عسكرًا عظيمًا فيحجبه، وإن شئت قلت: لو كان شخصهُ على قدر نفسه في العظم، لكان ظهره مكمن عسكر كبير. وخص الظهر، لأنه لا غُصون فيه، فالكمون فيه أصعب.
) عظُمت فَلَماَّ لم تُكَلَّمْ مهابةً ... تواضعت وهو العُظْم عُظمًا عن العُظْمِ (
فأرحت ما بالناس من تهيُّبهم لك، تواضعت عظما عن التعظيم، وهو العُظم في الحقيقة، لأن العظمة والكبرياء إنما يليقان بالأعظم وهو البارئ سبحانه.
و) عَن (في قوله:) عن العُظم (، متعل بقوله عُظمًا: بمعنى تعاظم وهو نصب على الحال أو المصدر. وتقدير تالبي: تواضعت عُظمًا عن العُظم وهو العُظم أي ذلك التواضع هو العُظم الحقيقي.
وله ايضا:
) أحادٌ أم سداسٌ في أحَادِ ... لُيَيْلَتُنا المُنوضَةُ بالتَّنادي (
أي أواحدة لُييلتنا هذه أم ستٌ في واحدة. لُييلتنا: صغرها تصغير التعظيم، كقول أوس:
فُويق جُبيلٍ شاهِق الرأسِ لم يكن ... ليبلُغهُ حتى يَكَلَّ ويعملا
فقال جُبيل. والجبلُ الذي هذه حاله ليس بجبيل، إنما هو جَبَل.
وأنما وجه تصغير التعظيم، أن الشيء قد يعظم، في نفوسهم، حتى ينتهي إلى الغاية، فاذا انتهى إليها، عكس إلى ضده، لعدم الزيادة في تلك الغاية، وها مشهور من رأى القدماء الفلاسفة الحكماء: أن الشيء إذا انتهى انعكس إلى ضده، ولذلك جعل سيبويه الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، وهي نهاية التعدي بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى إلى مفعول. قال: لأنه لما انتهى فلم يتعد صار بمنزلة ما لا يتعدى. وهذا منه ظريف جدًا.
والتنادي: القيامة، لما جعل الليلة ستا استطالها بعد ذلك، فجعلها هو أكثر مدة، فقال: إنها منوطة بالبعث.
وأحاد: خبر مبتدأ مقدم، ولا يكون مبتدأ لنه نكرة، ولُييلتنا معرفة، فهو أولى بالابتداء، وصغر الليلة على القياس.
) مَتى لَحظتُ بياض الشَّيبِ عَيْنيِ ... فقد لَحَظتْه مِنْها في السوادِ (
أي حزنى على بياض شيبي كحزنى عليه لو رأته عيني في سواد ناظرها. كقول أبى دلف:
في كل يوم أرى بيضاء قد طلعت ... كأنما طلعت في ناظر البصر
) مَتى ما ازْددتُ من بعد التَّناهي ... فقد وَقَع انتْقِاصِي في ازْديادي (
أي إذا ازددتُ عمرًا بعد تناهي الأشُد، فتلك الزيادة في سني نقصان مني، لنه قد بلغ غاية النماء ببلوغ الأشُد، فهو آخذ بعد ذلك في التحلل إلى بسيط العنصر، كقوله هو وقد مدح بعض الأمراء بشعر عدد أبياته أربعون:
فبعثنا بأربعين مهارًا ... مُهرٍ ميدانه إنشادُه
عَدَدٌ عشته يرى الجسمُ فيه ... أربًا لا يراه فيما يُزادُه
أي عدد عشته أيها الممدوح، لأن سن الممدوح حينئذ، كانت اربعين فسوى عدة الأبيات بعدة سنيه، وقال:) يرى الجسمُ فيه أربًا لا يراه فيما بُزاده (يعنى بالأرب: النماء، ولا يكون إلا إلى الأربعين. فاذا زيد عليها عمرا لم ير الجسم في ذاته تماءً، إنما هو راجٌ عن التركب إلى التحلُّل.
) وأبعَدُ بُعْدنا بعد التدانى ... وأقربُ قُرْبنا قُرب البعادِ (
يقول: كنت منه بعيدًا، فكان البُعد مني حينئذ قريبًا، والقربُ بعيدًا.
فلما جئتهُ وقربت منه، انعكست الحال، فعاد البعد بعيدًا وكان قريباُ وعاد القرب قريبًا وكان بعيدًا.
ونسب الإبعاد والتقريب إلى هذا الممدوح، لأن انعكاس الحال، إنما كان بسببه. فلولا هو لم يَبْعُد البعُد الذي كان قريبًا، ولا قرب القرب الذي كان بعيدًا. وإخراجه مصدر أبعد وقرب على بُعد وقُرب، أنما مصدراهما إبعاد وتقريب. على قوله تعالى:) واللهُ أنْبتكُمْ مِن الأرْضِ نباتًا (أي: نبتُّم نباتا. وكذلك ابعد وقرب، مطاوعهما بَعُد وقرُب، فأخرج المصدر عليهما، مثله كثير.
1 / 16
) وأنك لا تَجودُ على جوادٍ ... هباتُك أن يُلقب بالجوادِ (
أي لم تترك هباتُك أحدا غيرك يستحق أن يٌلقب بالجواد إذا قيس بك وتلخص ذلك: أي لا تجود هباتك على أحدٍ بهذا الاسم، وإن كانت لاتمكنع غيره من ضروب العطايا،) فأن (على هذا القول نصب بإسقاط الحرف أي بأن يُلقب. وهباتُك فاعل بتجود. ولا تكون التاء في تجود للمخاطبة ويكون) هباتك (بدلًا من الضمير الذي في تجود، ولا يجوز ذلك البتة، لأن المخاطب لا يُبدل من البته. ومن هنا منع سيبويه البدل في قولك: بكَ المسكين مررت، إنما تنصبه على الترحم، أو على نية إسقاط الألف واللام في قول يونس، فيكون منصوبًا على الحال. وقد كره هو أيضا قول يونس وقال: ولو جاز هذا لقلت: مررت بعبد الله الظيف تريد ظريفًا.
وله ايضا:
) إذا ماَسَتْ رأيت لها ارْتجاجًا ... لَهُ لولا سواعدُها تَزُوعا (
أي إنها مُنعمة تهتز في مشيتها: فلولا سواعدها لبزها اهتزازها ثوبها.
) تُرَفِّعُ ثَوبها الأردفُ عَنْها ... فَيبقى من وشاحيْها شَسُوعا (
أي يرفع ردفُها ثوبها عن جسمها. والوشاح عن الخصر، فيُبعد بينهما وبين الثوب، كقوله:
أبت الروادفُ والثديُّ لقُمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورًا
) ذرَاعاَهاَ عَدُوا دُمُلجيها ... يخُال ضجيعُها الزّند الضَّجيعًا (
إن شئت قلت: إن الدُّم ُحين يلزمان الذراعين لأنهما عبلتان كقوله:
تجول خلاخيلُ النساء ولا أرى ... لرملة خلخالًا يجول ولا قلبا
إن شئت قلت: إن الذراعين عدوا دُملجيهما، لأنهما يُصيلن الدملجين، ويشيحانهما، حتى يكادا يكسرانهما. وهو عندي كقول جرير:
لها قصب ريان قد شجيت به ... خلاخيلًُ سلمى الصمتاتُ وسُورُها
سُور: جمع سوار. وكقول القُطامي في صفة امرأة:
إذا يميلُ على خلخاها انفصماَ
ويروى:) انقصنا (وبقويه:) ذراعاها عدُوا دُمْلُجَيْها (ولو اراد الألو لقال: سوارها عدُوا ساعديها.
على انى لا أحجر ذلك، لأن العدو من باب المضاف في غالب الأمر إعنى أنك إذا كنت عدوا لشيء كان لك عدوا. فقوله: ذراعاها عدوا دُمْلُجيها كقوله: دملجاها عدوا ذراعيها.
) يخال ضجيعها الزند الضجيعا (: أي زندها عبل يظنه الضخيع من عبالته جسما.
) أحبُّك أو يقُولوا جَرَّ نملٌ ... ثَبِيرًا وابنُ إبراهيم ريعْا (
معنى هذا البيت الأبدية؛ أي أنى أحبك حتى يجر النمل ثبيرًا. وهذا لا يكون عند أحد أبدًا. وحتى يقال: ربع ابن إبراهيم، وابن إبراهيم على هذا المنزع لا يُراع عنده.
وقد احسن هذا الستطراد وإن كان قرنه إمكانيا، أعنى بقوله:) وابنُ ابراهيم (فتناهى وهو قوله:) أو يقولوا جر نمل ثبيرا (، لكن الثاني عنده في الامتناع كالأول، وإن كان في تحصيل الحقيقة ليس مثله، وكذلك حبُّه إياها إلى أن يجر النمل ثبيرًا شعر كذب.
) وليس مُؤدبًا إلا بنصلٍ ... كفى الصَّمْصامةُ التَّعَبَ القَطيعا (
أي أرهب سيفه الناس، حتى ليس تفعل في أيامه ما تستحق عليه السوط فضلا عن غير ذلك فقد كفى سيفُه السوط التعب. وإن شئت قلت: إنه لاُينزل عقوبة بجبان إلا القتل، لا يضربه بسوط، فقد استغنى بالسيف عن السوط. وكفى التعب لذلك.
) فلا عزلٌ وأنت بلا سلاحٍ ... لحاظُكَ ما تكُون به مَنِيعا (
العزلُ: عدم السلام عامة. واللحاظ: جمع لحظة، وقد يكون مصدر) لاحظ (، أي ملكت هيبتُك القلوب، فنظرتك تثغنى عن السلاح، فان هيبتك إذا نظرت قاتلة، لإقدامك وإن كنت بلا سلاح.
فقوله:) بلا سلاح (جملة في موضع الحال، أي فلا عزل بك، وإن كنت غير متسلح. وقوله:) لحاظك (ما تكون به منيعا (يجوز أن تكون فيه) ما (بمعنى الذي، فيكون على هذا ما بعدها صلة لها. ويجوز أن تكون نكرة بمنزلة شيء، فما بعدها في موضع الصفة، لأنها إذا كانت نكرة لزمتها الصفة، كما أنها إذا كانت معرفة لزمتها الصلة. ونظيره في الوجهين قوله تعالى:) هذا ما لَدىّ عَتِيدٌ (.
ويجوز أن تكون) ما (زائدة كأنه قال: لحاظُك تكون به منيعا. ومنيع. يجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول، أي ممنوعًا محمياّ، وأن يكون فاعل ككريم. يقال: منُع مناعة فهو مَنِع كرفُع رفاعةً فهو رفيع.
) وجاودَنيِ بأن يُعطى وأحوى ... فأغْرق نَيلهُ أخذى سريعا (
1 / 17
أي نازعنى الجود: بان يعطى هو، وآخذ أنا، ولم يكون للمتنبي هنالك جُود، لكن الآخذ لما كان: يجودُ هذا الجود، صار كأنه جُود. وهو أحسن عندي ممن قال: إن جود المتنبي إنما كان بالأخذ.
ونظير هذا القول الذي أنا اليه قول تعالى:) فَمن اعتْدَى عَليكُم فاعتدوا عليه (وليس قتل هؤلاء المأمورين للمعتدين عليهم اعتداء. ولكنها مكافأة اعتداء، فسُمي باسم السبب الذي هو الاعتداء. وكقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يَجْهَلْنَ أحدٌ عليناَ ... فَنجهل فوقَ جهلِ الجاهليناَ
) فأغرق تيله أخذى سريعا (: أي مللتُ الأخذ ولو يمل هو العطاء.
وله ايضا:
) أحَقُ عافٍ بِدَمْعك الهممُ ... أحدث شيء عهدًا بها القِدمُ (
العافي: الدارس. والهمم: جمع هِمّة وقد قيل هَمة بالفتح. ولا يمتنع أن يكون هِمم جمع همة أيضا، فقد جاءت فعله مكسورة على) فِعَل (كَبدْرة وبِدَر وهضْبة وهضَب. ومن المعتل، ضَيْعَة وضِيعَ، وخَيْمة وخِيمَ.
ومعنى البيت؛ أنه يسفه الناس في بكائهم الديار والأطلال إذا عفت، ويقول لهم: أولى عافٍ بدموعكم هممُ الرؤساء في هذا الزمان، فقد عفت حتى صار أحدث عهد بها قديما، فما تفضل هممهم عن ملاذ بطونهم وفروجهم، فاياها فابكوا لا الديار، فهن أولى بالبكاء عليها منها، لأن الهمة المعدومة أعزفقدًا من الدار. واذا كان أحدث عهد بها قديمًا، فما ظنك بغير الحداث.
) مِلْتُ إلى من يكادُ بينكما ... إنْ كُنتما السائلين يَنْقَسِمُ (
يخاطب صاحبه؛ أي آثرت بقصدي وتأمبلي من لو سألمتاه ولا شيء لديه إلا شخصه لا نقسم بينكما شقين، اعتيادا للنوال وألا يردُ ذوى السؤال.
) يُريكَ من خَلْقه غرائبه ... في مَجْدِه كيفُ يخْلَقُ الَّنسَمُ (
إن شئت قلت: إن الله لطف خلقه للنسم كما شاء، حتى دق على الوهم تصور كيفيته، ولهذا الممدوح غرائبُ من خلقه تُوصله إلى اقتناء المكارم، تغرُب وتلطُف؛ فمن تأملها، فكأنه قد تأمل خلق الله للنسم. وذلك تعظيم لقدر ما يأتيه، لشبهه بخلق الله، تعالى عن ذلك! وإن شئت قلت: إنه بحسن أفعاله ويُمنها تحيا النفوسُ، فكأنه بذلك يُحيها وينشئها وليس الخلق عنده في قوله) يريك في خلقه غرائبه (الخلق الذي هو إيجاد المعدوم، وإخراجه إلى التكون، لأن ذلك لا يستطيع عليه إلا بارئنا جل وعز، وإنما الخلق ها هنا: كناية عن الصُّنع، وكنى عنه بلفظ الخلق ذهابًا إلى ابتداع هذه الغرائب، وهذا من شديد المبالغة. وربما كنى بالخلق عن الصنع. وبين الخالق والصانع فرقٌ، لا يليق إيضاحه بهذا الكتاب. والنسم: جمع نشمة، اشتقت من النسيم، كما اشتق الروح من الريح، والنفس من النَّفس.
) تُشرقُ أعراضُهم وأوجُهُهُم ... كأنها في نُفوسهم شِيمُ (
لا شيء أصغى ولا أبسط من النور، فلذلك توصف الجواهر الصافية به. وأولى شيء بذلك الأمور النفسانية، لأنها أذهب في البقاء وعدم السراب من الجسمانية. والشِّيمة نفسانية، والوجه جسماني. والعِرض: يجزو أن يكون بالجسم، فلم يخلُص إلى النفسانية كخلوض الشيمة، فشبه ابو الطيب الأعراض والأوجه بالشيم في الشروق والصفاء، وتناهى البقاء. وإن شئت قلت: موضع هذا الكلام على أنه قد علم أنه شِيمة مُشرقة علمًا عامًا، وقدم ذلك لمزية الشيمة، وهي الطبيعة، على الوجه والعرض، فحمل الوجه والعرض بعد ذلك عليها، تشبهًا لهما بها. والأوجْه ما قدمناه من أن الشيمة نفسانية، فهي أملك بالصفاء، والوجه والعرض جسمانيان، فحملهما عليها.
) كأنها في نهارها قمرٌ ... حف بها من جنانها ظُلمُ (
شبه البحيرة في استدارتها بالقمر كقول ابن الرومي يصف رغيفًا:
ما بين رؤيتها في كفهِ كُرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
وشبه الجنان علىى حافاتها، وبالظُّلم من شدة خضرتها، وذلك لأن النبات إذا اشتدت خضرته ادهام، كقوله ﷾ في وصف الجنتين) مُدْهامَّتان (وقال الراجز يصف سائمة عدت على كلأ ناجم مُخضر:
فصَبَّحتْ أرْعَلَ كالَنَبال ... ومظلما ليس على الدغال
1 / 18
وقال:) في نهارها (لستغرب وجود الظُّلم نهارا، واختار ذلك لمكان القمر، اذ القمر في غالب أمره، لا يكون إلا مع الليل، وهذه البحيرة بالشام وليست البحيرة تصغير بحر، لأن البحر مذكر، فلا تثبت الهاء في تصغيره، إنما هي تصغير) بحرة (! وهو القاع العظيم يُنبت السدر، كقول النمر بن تولب في صفة روضة:
وكأنها دَقَرَى تَخيَّل نبتُها ... أنفٌ يغم الضال نبتُ بحارِها
) ناعمةُ الجسم لا عظام لها ... لها بَنَاتٌ ومالها رحيمُ (
وصف جسمها بالنعمة لأنه ماء، والنعمة إنما تكون في النامي، وهما الحيوان والنبات، وأما الماء؛ فلا يقبل نماء. وإنما كثرته بعد القلة كمية لا كيفية. لكن لما كان الناعمُ صافي البشرة، وكان الماء صافيًا، استعار له النعمة، كما يقال في البرود ذوات الدُّور والفرائد: ناعمة. وأنما هو على الاستعارة.
) لها بنات وما لها رحبمُ (: أغرب بذلك؛ لأن البنات مولودة، ولا تلد إلا الرحم، فهذه ذات بنات بغير رحم ولدتهن. وعنى بالبنات: سَمكها؛ كأنه لما ربين فيها وغتذين، صرن لها بنات.
وإن شئت قلت: إن الماء للسمك كاللبن للمولود. فلما غذتها هذه البحيرة بما فيها، صارت كالوادة الكرضعة. وقد ألم التنبي في هذا بقول ابن الرومي يستهدي سمكا:
وبناتُ دجِلة في قبائِكُمُ ... مأسورةُ في كل مُعتركِ
إلا أن المتنبي زاد عليه بقوله:) وما لها رحمُ (، فأغرب.
) يُبْقرُ عَنْهن بطنُها ابدًا ... وما تشكى وما يسيلُ دمُ (
يُحاجي بذلك، لأن شق البطون الحيوانية يُشكى ويدُمى. وهذه البحيرة يُشق بطنها عن سمكها، فلا تشتكي ولا تدمى بعدمها الحيوانية.
) وقد توإلى العِهَادُ منه لكُمْ ... وجَادَتِ المَطَرةُ التي تَسِمُ (
الوسى: أول المطر، لأنه يسم الارض بالنبات. والعهدة: المَطْرة تاتي بعد الوسمى، تعهد الارض بالنبات.
واعتيادُ الشعراء الاعتداء على الملوك بتكرر مدحهم فيهم، وتمهيدهم بذلك الحقوق عندهم، كقول أبى تمام:
لها أخوات غيرُها قد سمعتها ... وإن تَرُغْ بي مُدًة فستمع
فيقول: هذه القصيدة الثانية من جملة العهاد التي تتعهد الارض، وأما القصيدة الأولى التي كانت كالوسمى فقد جادتْ.
وله ايضا:
دارُ الملم لها طيفٌ يُهدِّدُنى ... ليلًا فما صدَقت عيني ولا كَذَباَ
أي تهددني الطيفُ بالهجر؛ كما كانت رؤويته في اليقظة، والحلم جار على عاداته في اليقظة، فما كذب الطيفُ فيما تهددني به، لأن الهجر واقع. وما صدقت عيني في رؤية الخيال، لأنه زور لا حقيقة. والألف واللام في) الملم (للمراة، والفعل للطيف ولها. والام فيها للاستحقاق لا للملك لأن الطيف غير مملوك، وإنما هي مستحقة له من حيث كان إياها في المعنى.
) عُمْر العدُوِّ إذا لاَقَاه في رَهَجٍ ... أقلُّ من عُمْرِ ما يَحوي إذا وَهَباَ (
ليس الموهب بمحوى فيصح قوله: أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا، لأن ما فارقه بالهبة، فليس في ملكه، وإنما عنى: إذا أراد أن يهب. فاكتفى بالمعلول الذي هو الهبةُ عن العلة التي هي الإدارة.
) وَتغبِطُ الارض منها حيث حلَّ به ... ونحَسُدُ الخيلُ منها أيَّها رَكِباَ (
غبطت الرجل: إذا تمنت مثل ماله من النعمة، ولم تُرد زوالها عنه. وحسدته: إذا تمنيت ماله بزواله عنه. فجعل الارض تغبطُ، لأنها جرم واحد متصل. والذات الواحدة لا يريد بعضها ببعض كراهة، وجعل الخيل تُحسد لأنها جمع غير متصل الأجزاء، ولا مُتداخلها، وإنما هي اشخاص مفترقة، وان ضمها نوع فهي متغايرةٌ بالشخص، ومشتركة بالنوع، والاشخاص متشاكلة ومتعادية. فمن المألوف أن يُحب بعضها بعض.
و) أيها (: منصوب بركب، ولا يكون بتحسد، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلا أن يكون حرف جرٍّ.
) بكُل أشْعَث يلقى الموت مُبتسمًا ... حتى كأن له في قتله أرَبا (
أي أنه يستبشر بالنية إذا كانت في سبيل المعالاة، لأن ذلك يُعقبه ذكراُ رفيعًا، ومثله كثير، كقول الشاعر:
إذا قتلوا أقرائَهم لم يَروهُمُ ... وإن قُتلُوا لم يقشعرُّوا من القتلِ
إلا أن أبا الطيب أغرب بقوله:) مبتسما (، فهو أبلغ في قلة المبالاة بالمنية من قوله:) لم يقشعروا (. وقال أبو تمام:
يَسْتعذبُون مناياها كأنهمَ ... لابَيْأسون من الدنيا إذا قُتلُوا
1 / 19
إلا أن الابتسام أبلغ من الاستعذاب، لأن الابتسام مُشعر بلذةٌ نفسانية.
وله ايضا:
) بأبى الشَّموسُ الجانحاتُ غواربا ... الَّلابِسَاتُ من الحرير جلاببا (
الشموس هنا: النساء والجانحات: الموائلُ للغروب. فإن شئت قلت: إنه شبههن بالشموس في هذه الحال، لأنه لقيهُن، فأظهرن الخَفَر، أو خَفَرْن فَسَتَرْن بعض محاسنهن، وأبقين بعضا: إما للمُباهاة، وإما لأنهن لم يمكنهن إلا ذلك، فجعلهن كالشموس التي أخذت في الغروب، فخفى بعضها، وبقي بعضها، كقول قيس بن الخطيم:
تَراءتْ لنا كالشَّمس تحت ... غمامة بَداَ حاجبٌ منها وضَنَّتْ بحاجبِ
وإن شئت قلت: إن هؤلاء النساء غبن في الخدور والهوادج، فكأنهن شموس غوراب. هذا قول ابى الفتح، وليس عندي بقوىّ، لأنهن إذا غبن في الخُدور والهوادج، فهن غير محسوسات، والشمس إذا جنحت للغروب فبعضها محسوس، وبعضها غير محسوس. ولم يقل الشاعر: بأبى الشموسُ غواربا فُيتأول أنه عنى النساء اللواتي أخفتهن الخدور، وإنما قال: الجانحاتُ، والجنوح لا يقتضي كُلية الغروب.
فإن قلت: فقد قال:) غواربًا (، فأشعر ذلك بغروب كُلي، قلنا: قد أثبت الجنوح قبل ذلك. وإنما قال: غواربًا، وهو يذهب إلى أنه آخذه في الغروب ولما تغرب بعدُ. كقولهم في العليل إذا يئس منه: هو ميتٌ؛ وإن لم يُمت بعدُ. وقد يجوز أن يوقع غواربا على الكُل حين غرب الجزء تجوزًا لا حقيقة.
وله ايضا:
) سلامٌ فلولا الخوفُ والبخلُ عنده ... لقلتُ أبو حفصٍ علينا المُسلم (
أي إنى ارتحت بسلام هذا الطيف عليَّ، كارتياحي بسلام هذا الممدوح، فكأن سلامه علىّ تسليم إبى حفص علىّ. لكن الفرق بين الخيال وتسليم أبى حفص أن تسليم الخيال يتخلله بتمام الوصل وتحقيقه، والخوف من فراقه، وألم معاتبته على بطعم الغُمض بعده. فتسليمه كَدِرٌ بهذه الآفات وتسليم أبى حفص لا يلحقه بخل ولا خوفٌ، بل هو الشرف السابغ الهنىء.
) وأغربُ مِن عَنقاءَ في الطيرِ شَكْله ... وأغْوزُ من مُستَرْفدٍ منه يُحرَمُ (
ليس الشكل هنا: الصورة لأن صورته موجودة، وعنقاء مُغرب معدوم البتة. فلا يقال في موجود إنه أغربُ من معدوم. والشكل هنا: المثل، أي أن شكله اسم واقع على غير مُسمى، أي لا شكال له، كما أن العنقاء اسم لغير مسمى. وإنما يوجد الشكل ملفوظا به في نفي الشكل عنه، أعنى في قولك: ماله شكلٌ، فتفمهه، فإنه معنى منطقي.
) وأعوزُ من مُستَرْفدً منه يُحرم (: أي أن نظيره عدم، كما أن مسترفدًا منه محروما عدم.
وقال:) أعوز (وإنما هو أشد إعوازًا، لأنه جاء به على حذف الزائد. هذا قول أبى الفتح. وليس على حذف الرائد كما قال، لأنه يقال: عازه الأمر وأعوزه. فأعوز في بيت المتنبي على) عاز (، لا على) أعْوز (.
وإنما يتوهم حذف الزائد إذا لم يوجد عنه مندوحة، كقولهم: ما أعطاه للدرهم وآتاهُ للجميل وأولاهُ للمعروف، فإن هذه كلها على حذف الزائد. والمسترفدِ: طالب الرفد، لأن باب استفعل في غالب الأمر، إنما هو للطلب والمحاولة، كاستخرج واستسمن واستجاد.
قال سيبويه: وقالوا مرَّ مستعجلا، أي مرّ طالبًا ذلك من نفسه، متكلفا إياه.
وله ايضا:
) أركائِبَ الأحْباب إنَّ الأدْمُعَا ... تَطِسُ الخُدود كما تَطِسْنَ اليَرْمُعا (
أي أن الدمع يؤثر في الخدود تأثير كُن في اليرمع، وهو الكذان.
وتطس: تكسر، وليس هناك كسر، إنما بالغ في التأثير، فكنى عنه بالكسر، للتكثير.
) نظِمَت مواهبهُ عليه تَمَائِمًا ... فاعتَادَها فإذا سَقَطْن تَفَزَّعَا (
أي اعتقاده في مواهبه أنها تقيه المذام كاعتقاده في التمائم انها تقيه السوء، فاذا خلا منهن تفزع، كفَزعَ ذى التمائم إذا سقطت عنه. وإنما ضرب ذلك مثلا. ولو قال: فلو سَقَطن تَفزعا: لكان سقوطها إنما يكون لعدم مالٍ أو انقطاع سؤال، فهذا توجيه قوله:) فإذا سقطن (، و) تمائمًا (منصوبة على الحال، وإن كانت اسما، لأن فيها معنى حَوَارِس، وقد يكون الاسم الجامد حالًا، على توهم الصفة، كقوله تعالى:) هَذِهِ نَاَقةُ الله لَكُمْ آيةً (. قال سيبويه:) وسمعنا من العرب من يقول: العجبُ من بُرً مررْنا به قبلُ، قفيزًا بدرهم قفيزا بدرهم (فقيزا بدرهم حال، وهذا واسع كثير.
1 / 20