اي انه شجاع جواد؛ لأن إحدى هاتين الصفتين منوطة بالأخرى؛ لأن الشجاع يجب له أن يعلم أن البُخل جُبن وهلعٌ من الفقر؛ فإن كان بخيلًا فهو ناقص الشجاعة؛ لحذره من الإعدام؛ ويُحبُّ للجواد أن يعلم أن الجُبن بخلٌ بالنفس؛ فان لم يك ذا شجاعة فهو ناقص الكرم؛ لبخله بذاته.
فهذا الممدوح قد تبين له أن البخل جُبنٌ؛ وان الجُبن بُخلٌ؛ فلم يرض إحدى الخطتين دون صاحبتها؛ فشجُع وكرُم. ومثله قوله هو ايضا:
فقلت إن الفتى شجاعتثه ... تُريه في الشُّح صورة الفَرَق
وقد اجاد ابن الرومي تلخيص ذلك وتسهيله؛ فقال:
البخلُ جبنٌ والسماحُ شجاعةٌ ... لاشك حين تصحح التحصيلا
جبُن البخيل من الزمان وصرفهِ ... فتهيب الإفضال والتنويلا
) وكم رجالٍ بلا أرضٍ لكثرتهم ... تركتَ جمعهُم أرضًا بلا رجُلِ (
اي كانوا كثيرا قد غطوا الارض بكثرتهم حتى خفيت، فكأنهم بلا أرض البتة، يقول: قتلهم أنت حتى عادت تلك الارض المُوطأةُ بكثرتهم؛ أرضًا لا ترى فيها رجُلا. وأوقع) كم (على جميع هذا؛ لأنها خبر.
قال:
كم دُون سلمى فلواتٍ بيدِ ... منُضيةٍ للبازل القيدُودِ
وقوله:) تركت جمعهم أرضا بلا رجُل (جملةٌ في موضع جر، لأن موضع كم هنا رفع بالابتداء.
) يا مَنْ يَسيرُ وحُكمُ الناظرين لهُ ... فيما يراهُ وحُكمُ القلب في جذلِ (
اي قد أطاعتك آمالكُ، وحكمك الزمان في نيلك كل ما سعيت إليه، وبنيت هواك عليه، فما تقغ عيناك من المرئيات إلا على ما يسُّرهما ويؤديان به إلى فؤادك ما يخبرك ويسرك. وقال: وحكم الناظرين وحكم القلب: اي حكم ناظريه وحكم قلبه. وكلتا الجملتين في موضع الحال من الضمير الذي في الفعل، أعنى) يسير (اي: يا من يسير مسرورًا جذلَ الفؤاد.
) أجر الجياد على ما كنُت مُجربها ... وخُذ بنفسك في أحلاقِك الاولِ (
السابق إلى من هذا البيت، أنه رأى منه تغيرًا عما كان عليه من تفضيله على من سواه من الشعراء فقال له: اعدل كما كنت فاعلا.
وأما ابن جني فقال: سألته عن هذا فقال: كان سيف الدولة قد ترك الركوب أيامًا، فحضُه بذلك على المُعاودة
) إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المقدمُ ... أكُلُ فصيحٍ قال شعرًا مُتيمُ (
من شأن الشعراء إذا ارادو المدح، أن يقدموا النسيب. هذا هو الأغلب، حتى سموا الشعر الذي لا يُصدر بالنسيب خَصِيًا، حُكِى هذا عن أبي زيد.
فالمتنبي قد خَرَق في هذا الشعر عادتهم، وأنكرها عليهم، وجعل ابتداء شعره مدح سيف الدولة. ثم قال:) أكلُّ فصيح قال شعرًا مُتيمُ (؟ هذا في اللفظ إنكارٌ، ظاهره استخبار، وهو في الحقيقة خبر منفي. اي ليس كل فصيح شاعرًا مُتيمًا، فيلزمه النسيب إذا مدح.
) فَجَازَ له حتى على البدرِ حُكْمُه ... وبَانَ له حتى على البدرِ ميسمُ (
اي إذا سار أثار الغبارَ، فحكم على الشمس بالاسوداد. وهو ضدُّ لونها. واذا سَارَ ضاعفَ الغبار. وكَلَفَ البدر. والميسم على هذا القول من الوَسمِ - الذي هو العلامة بالنار والقطع، وليس بآلة هنا، إذ لا معنى لذلك وقيل المِيسم هنا الحُسن. اي فاق البدر في الحسن والأول أولى.
وتقدير البيت: فجاز له حُكم على شيء، حتى على شمس. وبان له وسم على كل شيء، حتى على البدر. وينبغي أن يكون الفعل مَنويا مع حتى، كأنه قال: حتى جاز على الشمس، وحتى بان على البدر، اي إلى أن. ولا تكون حتى هنا حرف غاية، وتكون داخلة على) على (لأن حتى وعلى حرفان، ولا يدخل حرف على حرف. فلا بد من تقدير حتى) بإلى أن (. وإذا قدرتها بإلى أن، فقد حصل الفعل؛ لأن) أنْ (لابد لها من الفعل.
) وَلا كُتبَ إلا المشرفيةُ والقنا ... ولا رُسلُه إلا الخميسُ العرمْرمُ (
اي الذي يقوم له مقام الكُتُب، إنما هو السيوف. والذي يقوم له مقام الرُسُل، إنما هو الجيش العظيم، يُهديه إلى عدوه. وإنما نفي عنه الإخلاد إلى الكُتب والرسل، لأن ذلك تأنٍ، وأخذٌ بالهُويني.
) يطأن من الأبطال من لا حملنهُ ... ومن قصد المُران ما لا يُقومُ (
1 / 59