هذا البيت شُنع وكُفر لما عنى أن هذه الكواكب غير عاقلة لأنها لو كانت عاقلة لعرفَتْك، وتبينت أن مَحَلك فوق محلها، فكانت تنزل إليك فإذا لا تنزل، فهي غير عارفة بك، واذا هي غير عارفة بك، فهي غير بك، وإذا هي غير عارفة بك، فهي غير عاقلة. ولعمري، فقد ذهب في تلك إلى تكذيب من ادعى أن الكواكب تعقل وإن كان قد غلا.
وله ايضا:
) وما عَفَتِ الرياحُ له محلاَّ ... عفاهُ من حدا بهمُ وساقَا (
اي لم الرياح هذا المنزل، وإنما عفاه بتنقلهم عنه وإخلائهم له.
) نَظَرتُ إليهمُ والعينُ شَكْرى ... فصارت كلُّها للدمع ماقا (
شَكْرى: اي ملأى لم تفض بعدُ. والماقُ: مجتمع الدمع. فلما رأتهم متحملين، فاض الدمع مع جميع جوانبها ولم يخص الماق وحده، بل صارت العين كلها مَجرىً، فكأنها كلُّها مآق، كقول الشاعر:
أقلبُ عيني في الفوارس لا أرى ... حراقًا وعيني كالحجاةِ من القَطْرِ
اي تملأت كلُّها من الدمع حتى عادت كالحَجَاةِ؛ وهي نُفاخة الماء.
ولا أقول: إن الألف في) ماق (مبدلة من الهمزة، لمكان الردف، لأنهم قد قالوا) ماق (بزنة) مال (وكسَّرُوه على أمواق كأموال، فدل ذلك على أن ألفه منقلبة عن واو؛ كألف مال. ولو لم نعرف مافًا مكسرًا على أمواق، لعلمنا أن ألفه منقبلة عن هكزة، لقولهم مأق مهموزة.
إن شئت قلت: إذا نظرته العين استحسنته، فلم تعدُه، وتثبت فيه. فكثر الناظرون إليه من كل جانب حتى كأنه متنطق بالحدق. وإن شئت قلت: تثبت الأبصار فيه لبضاضته ونعمته؛ فكأن ما ثبت فيه من حَدق الناظرين إليه نطاق له. واراد كأن عليه نطاقا من الحَدَق المُحدق به.
) أباحَ الوحشَ يا وحشُ الأعادي ... فَلم تَتَعرضين له الرِّفاَقا (
الحشُ مؤنث. ويروى) أباحك أيها الوحش الأعادي (. والأعادي: جمع الجمع: عدو وأعداء وأعادٍ؛ وأصله أعادي كأفاعي؛ فحذفت إحدى الياءين تخفيفًا، ثم حذفت الأخرى حذفًا لغير علة؛ وصار التنوين عوضًا منها. واراد) الأعادي (لانه في موضع نصب؛ بكونه مفعولًا ثانيًا فاضطره الوزن إلى تسكين الياء. والرفاق: جمع رفقة كُحفرة وحفار، وعلبة وعلاب والمعنى أيتها الوحش؛ قد أباحك هذا الممدوح أعاديه قتلهم وصَرَعهم لك؛ وحكمك في أكلهم، فلم تتعرضين له الرفاق السائرة إليه، وقد أغناك عن الاعتساس والطلب فيمن أجزرك من أعاديه؛ وجَعَله لك أكيلة.
) إذا أنعلن في آثارِ قوم ... وإنْ بُعدوا جُعلنهمُ طراقا (
الطراق: نعل تُطرح تحت النعل؛ استظهارًا وتوكيدًا. اي إنها إذا أنعلت في طلب قوم أدركتهم فدلستهم؛ فصارت أشلاؤهم نعالًا لتلك النعال.
) أقامَ الشعرُ ينتظهر العطايا ... فلما فَاقتِ الأمطار فاقا (
انتظر الشعر أن تُحسن، فأشكرُ وأشعرُ. فلما فاقت عطاياك الأمطار، فاق شعري الاشعار كقول البحتري:
فقد أتتك القوافي غبَّ فائدة ... كما تَفتحُ بعد الوابل الزهرُ
) يُقصرُ عن يمينك كلُّ بحرٍ ... وعما لم تُلقهُ ما ألاَقا (
لاَقَ الشيء وألاقهُ: أمسكهُز ولاقَ هو نفسهُ: أمسك. وأنشد سيبويه:
تقولُ إذا استهلكتُ مالًا للذةٍ ... فُكيهةُ هشىءٌ يكفيك لائقُ
يقول: يقصر البحر عن يمينك جودًا؛ ويُقصر ما آلاق من الأعلاق، عما بذلته أنت. اي إنما تعطيه أنت أكثر مما يمسكه البحر في ذاته.
وله ايضا:
) لا الحُلمُ جاد به ولا بمثالهِ ... لولا اد كارُ وداعهِ وزيالهِ (
اي مثله لايستطيع الحلمُ أن يُصوره، لانه أرفع من ذلك. لكني تذكرته حين نذكرت وداعَه ومزايلته؛ فثبت ما امتثلت منه في هاحسى؛ فأراني النوم إياه. فإذن لم يجد لديه إلا تذكرهُ به. وهذا رأى بعض الفلاسفة فيما يراه النائم. وقال أبو تمام:
زارَ الخيالُ لها لا بل أزاركهُ ... فكرٌ إذا نَامَ فكرُ الخلقِ لم يَنَمِ
وإن شئت قلت: إنه بالغ بصفة هجر محبوبه له فقال: لا يسمح لي بمواصلةٍ في يقظة ولا نوم؛ وإنما أطلت تذكره؛ وواصلت ذلك ليلًا ونهارًا حتى رأيت خياله. وأبلغ منه قول الآخر:
) صَدَّتْ وعلمت الصدود خيالها (
فهذا يصف أنه لم ير خيالها.
) إن المعيد لنا المنامُ خيالهَ ... كانت إعادتُه خيال خياله (
1 / 57