يعزى عن الدنيا ويقول إن تمام هذه الفضائل فيها إنما هو بتيقُن الفناء. اي لولا خوف الموت، شجع كل الناس وجادوا وصبروا فلم يك أحد مخصوصاُ بهذه الفضائل دون صاحبه ولو كان كذلك لم يك لهذه الفضائل فضل لأن الأشياء إنما تَتَبَينَّ بأضدادها. فلو عُدم الضد خفى ضده. وإن شئت قلت: لو أمن الموتُ لما كان للشجاع فضل، لانه قد أمن الموت. وكذلك السخيُّ والصبور لأن اعتقاد الخلود، وتنقل العُسر والشدة إلى الرخاء مما يُسكن النفوس ويسهل البوس. هذا قول أبى الفتح، وهو حسن. وقوله:) لولا لقاء شعُوب (اراد لولا تيقن لقائها. و) الفتى (هنا لا يعني به فتاء السن إنما يراد به المدخ. كقولك: أنت الرجلُ اي الجلد الصابر وكقول الهذلي:
فثى ما ابنُ الأغر إذا شَتَوْنا ... وُحبَّ الزاد في شَهرْى قُماحِ
كنى بالفتوة عن الكرم، كأنه قال: ابن الأغر كريم مُتَفَتٍّ، ولولا ذلك لم يعمل) فتى (في) إذا (لأن الظروف لا تعمل فيها الا الأفعال أو ما هو في طريقها، واذا قلت زيد فتى تعني به السِّن، فليس فيه معنى فعل.
) فعُوض سيفُ الدولة الأجر إنه ... أجلِّ مُيبِ (
إن شئت عنيت بالمثاب سيف الدولة، وإن شئت عنيت به الأجر الذي أثيبه.
) إذا استقبلت نفسُ الكريم مُصابها ... بخُبثٍ فاستدبرتهُ بطيبِ (
المصاب هنا الإصابة لأن المصدر قد يخرج على شكل المفعول به لانه في المعنى مفعول، فمن ذلك الميسور والمعسور والمعقول والمجلود فأما فيما جاوز الثلاثة فمطرد كالُموفى في معنى التوفية، والمقاتل في معنى القتال أنشد سيبويه:
أقاتل حتى لا أرى لي مُقاتلا ... وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس
والخُبثُ في هذا البيت: كناية عن الجذَع، وجيشان النفس عند الفزع. والطيب: كناية عن الصبر والتوطين. اي إذا جَزع الفهم في أول نزول المصاب به رَاجَع أمره بعد ذلك، فعاد إلى الصبر. وإن شئت قلت: من لم يوطن نفسه للقاء المصائب قبل نزولها صعبت عليه عند حلولها فليستشعر اللبيب التوطن على لقاء المكروه لانه إذا لم يفعل ذلك، ونزل به ما يكره، عظم عليه وجزع منه ثم يحول بعد ذلك إلى الصبر، لا جدوى له الجزَع. فالحكم أن يبتدئ أولًا بما يعود إليه آخرًا كقول الشاعر:
رأى كلَّ شيء إلى غاية ... فصيرَّ آحَرهُ أولاَ
وقد فسر المتنبي معنى هذا المتقدم بقوله بعد هذا:
) وللواجِد المحزُونِ مِن زفراته ... سُكونُ غزاء أو سكونُ لُغُوبِ (
اي لابد للمحزون أن يسكن حزنُهُ: إما تعزيا وهو الحميد، وإما إعياه وهو اللغوب. وإن شئت قلت: إن لم يصبر تعزيًا واحتسابًا، وإلا صبر لغوبا حين لا أجر له ولا فضل.
وله ايضا:
) فَلم لا تلُوم الذي لاَمَها ... وما قصُّ خاتمه يذْبُلُ (
كأن لائمًا لام هذه الخيمة على عجزها عن الاستقرار على سيف الدولة والاعتلال له حين تقوضت. فيقول: لا ينبغي أن تُلام ذلك ليس في وسعها، ولا استطاعتها، وليس على تارك ما يطيق لوم. فإن كان الإنصاف أن تُلام هذه الخيمة على ما ليس في طوقها، فلم لا تلُوم لائمها على أن لم يطق أن يجعل فصَّ خاتمه يذبل؟ لأنهما قد استويا في العجز وإنما كان ينبغي أن يلومها من أطاق التختم بهذا الجبل. فإذن لا أحد يقدر على ذلك فلا تلومن الخيمة على تقوضها، وضعفها عن حمل سيف الدولة، لأن العجز عن الممتنع قد وضح فيه العُذر، و) لِمْ (:لغة في) لِمَ (فاشية معروفة.
) فام اعتمد اللهُ تقويضها ... ولكنْ أشار بما تَفْعلُ (
اي لم يقوضها ليحُزنك، ولكن اشار عليك بالرحيل نحوما اختاره لك من الجهاد، وسلوكِ شُبُل الرشاد. والإشارة من الله ﷿ عليه: إنما هي إلهامُهُ إياهُ، وليست على حد الاشارة الانسانية، لأن إنما هي الجوارح. وربنا تعالى يَجِلُّ عن ذلك.
) رأتْ لون نُوركَ في لونها ... كَلَون الغَزَالةِ لايُغسَلُ (
وهذا عذر الخيمة في سقوطها، اي أنها رأت لون نورك في لونها كنور الشمس فراَعها في ذلك، لانها ظنتك الشمس؛ التي هي ملك الكواكب، فلذلك سقطت لأنها استعظمت حملها لك، وقوله:) لايُعْسَلُ (اي اصل نورك بها، حتى صار فيها كالشامة التي لا تُحمى بالغسل.
) وقد عَرَفتكَ فما بَالُها ... تراك تَراها ولا تَنزِلُ (
1 / 56