فيقول: تحمل لهم أغمادُ السيوف ما ضمنه لهم من الورق والعين وغيرهما، وذلك منه هُزء بهم اي إنما كان الفداء المحمولُ إليهم أن ضربُوا بما في الأغماد وهي السيوف. فكانت كل ضربة على قدر الأخدود عظمًا. ولما كان المعتاد في الفداء الذهب والفضة بالأغلب جعل السيوف نقودًا والأغماد أكياسًا، وحَسُن ذلك لأن السيف من الحديد، والحديد يشرك الذهب والفضة في أنه جوهرٌ معدني كما أنهما معدنيان. فانتقدوا الضرب، اي قام لهم مقام النقد. وقيل: وقع بهم أجود الضرب كما يختار المنتقد أجود الدراهم والدنانير، وكله هُزء. وقوله:) كالأخاديد (: في موضع الحال. اي انتقدوا الضرب عريضاُ ومستطيلا. والضرب ها هنا يجوز أن يكون الجنس، وأن يكون جمع ضرْبة. فقد ذهب محمد بن يزيد في قوله تعالى:) غَافِرِ الذْنْبِ وقَابِلِ التَّوبِ (إلى انه جمع توبة، إلا أن أكثر ذلك إنما هو في الجواهر المخلوقة دون الأعراض، نحو لوزة ولوز. وقد جاء في الجوهر المصنوع منه شيء كدواة ودوى، وسفينة زسفين. فأما في العرَض فقليل كما قلنا. لكني أوثر أن يكون الضرب هنا جمع ضرْبة لقوله) كالأخاديد (مع ما آنسنا محمد بن يزيد في قوله تعالى:) وقَابِلِ التَّرْبِ (. وأضمر السيوف في قوله:) تحمل أغمادها (للعلم بمكانها، كقوله تعالى:) كُلُّ من علَيْها فَانِ (وأيضا فقد جاء ذكر الجنود والسيوف متصلة بهم فكأنها مذكورة.
) مَوِقعُه في فراش ِ هامهِم ... وريحُه في مناخرِ السيدِ (
الفراش: قشور تكون في الرأس على العظام دون اللحم، وقيل: ما يتطاير من عظام الرءوس واحدته بالهاء. و) مَوْقعِه (: وقوعه. اي يقع هذا الضرب برؤسهم فَتَشمُّ الذئابُ رائحة الدم فتقطع إليهم لتأكلهم. فالهاء في قوله:) وريحه (ليست للضرب لأن الضرب لا طبيعة له فيكون ذا ريح، وإنما الهاء للدم، فأضمره لمكان العلم به، وقد يجوز أن تجعل الريح للضرب. وإن شئت قلت: إذا وقعت الضربة أرشت دمًا فتغير منه الهواء، حتى ينشق الذئب رائحته فيستدل عليه. وقوله) في مناخر السيد (كان ينبغي أن يقول منخر السيد أو في منخري السيد. ولكنه جعل كلَّ جزء من المنخر منخرًا، ثم جمعه كما حكاه سيبويه من قولهم للبعير: ذو عثانين كأنهم جعلوا كل جزء منهم عُثنونًا. وعليه وجه قول العرب: آتيك عُشياَّنات، قال: جمعوا لانه حين، كلما تصوبت الشمس، ذهب منه جزء. وأنشد قول جرير:
قال العواذلُ مالجهلك بعدما ... شابَ المفارقُ واكتسين قتيرا
وإن شئت قلت: إنه عنى بالسيد هنا: النوع فجمع المنخر لذلك وكل واسع.
) ثُم غَدَا قيدُهُ الحِمام وَماَ ... تَخلُصُ منه يمينُ مصفُودِ (
صدت الأسير وصفدته: أوثقته. وأصفدت الرجل: أعطيته رالألف لا غير. فمصفُودٌ على صفدته. وكانت أغلال العرب القدز ولهذا قالوا في المرأة السيئة الخلق: غُلٌّ قملٌ، لأنهم كانوا يشدُّون القد على الأسير فيقمل. فمعناهُ: كان هذا الميت ابو وائل أسيرًا في يد العدا فأنقذته منهم ثم غدا بعد ذلك في أسر الموت فلم يك بك قدرة على تنقذه منه وما يخلص منه يمين مصفُود. وعذرهُ لعجزه عن تنقُّذه إياه من الموت، فالموت لا يخلص منه من أوثقه. فأنت ياسيف الدولة غير ملوم على أن لم تنقذه من الحمام كما تنقذه من الأنام.) قيده الحمام (: مبتدأ وخبر في موضع خبر غدا، واسم غدا: مضمر فيها، كما حكاه سيبويه من قولهم:) كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه اللذان يُهودانه أو يُنصرانه (أضمر اسم يكون فيها، وجعل جملة في موضع الخبر، وأنشد:
إذا ما المرءُ كان أبوهُ عبسٌ ... فحسبك ما تريد إلى الكلام
ولو قال:) ثم عدا قيدُهُ الحمام (أو) قِدُّهُ الحمام (، لكان حسنًا لكنه لما كان ذكره إنما هو لأبى وائل، وقد أجره كثيرًا، أكد ذلك بالمحافظة عليه فأضمره الا ترى قوله:) قد مات من قبلها (. . . وقوله:) ما كنت عنه (. . . وقوله:) أين الهبات التي يفرقها (إلى سائر ما في القطعة من إخباره عن أبى وائل، واستفهامه عنه.
وله ايضا:
) ولا فضل فيها للشجاعة والنَّدَى ... وصبر الفتى لولا لقاءُ شعُوبِ (
فيها: اي في الدنيا. وشَعُوبُ: المنية تَشعب اي تفرق، وأنشد يعقوب:
فقام إليها بها جازرُ ... وَمن تدعُ يومًا شَعُوبُ يُجبها
1 / 55