الغُبر: بقية اللبن في الضرع. فيقول: هباتك كأول الدر، وهبات الملوك كبقايا اللبن بعد الحلب. وأوضح من هذا أن يقول: إن مواهب الملوك وإن كثُرت وغزرت بالإضافة إلى مواهبك، كالغُبر بالإضافة إلى الدر الذي هو أغزر اللبن؛ فهذا أبين. والاول وجيه. واللام في قوله:) درُّ الملوك لدرها أغبار (: جملة في موضع الصفة للنكرة. فكأنه قال: وله مواهبُ در الملوك لدرها أغبار. واذا رددت هذه الجملة إلى المفرد، فكأنه قال: وله مواهبُ فائقة وقوله:) وإن وهب الملوك (: معناه: أجزل الهبةَ. فهذا يُحسن معنى البيت ويدلك عليه قوله:) درُ الملوك (فقد اوضح ما اراده في قوله:) وإن وَهَب الملوك (ولا يكون وَهب هنا مجردة من معنى الغَزَارة لأن الممدوح إذا فاق واهبًا غير مُجزل، لم يك ذلك فضلًا إنما فضله أن يفوق المُجزلين.
) وبدُون ما نا من ودادك مُضمرٌ ... يُنضى المطىُّ ويقرُب المُستارُ (
اي بأقل من هذا الوداد الذي أضمره لك تعمل المطى في الأسفار إلى المودود حتى تنضى، فيقرب بذلك ما كان بعيدا. وذلك أن الشوق يحمل على احتثاث المطى وإغذاذ السير كقول الشاعر:
كأن عليها سائقًا يستحثها ... كفى سائقًا بالشوق بين الأضالع
وقال:
وعودُ قليل الذئب عاودت ضربهُ ... إذا خاج شوق من معاهدها كبرُ
والمُستارُ: مُفتعل من السْير. اي: يقرب الموضع الذي يسار إليه.
وله ايضا:
) وكذا تطلعُ البُدورُ علينا ... وكذا تقلقُ البحُورُ العظامُ (
اي إن همتك لا تستقر لأن شيمتك الحركة كما أن البدر شأنه الحركة دائمًا كلما غاب من موضع طلع على خر وكذلك البحر يتموجُ فلا يستقر. وكنى بالقلق عن التموج لأن القلق ضد الطمأنينة والاستقرار. و) كذا (: مجرور في موضع نصب. اي مثل طلوعك تطلع البُدور ومثل قلفلك تفلق البحر ومثل طلوعُه يطلوع البدر وقلته بقلق البحر إشعارًا أن الممدوح كالبدر جمالًا وكالبحر نوالًا. وقوله:) العظام (: مؤازرة للبدور لانه لو قال البحور ولم يذكر العظام لم يك مطابقًا للبدور، فتفهمه.
) والذي يضربُ الكتائب حتى ... تتلاقى الفهاقُ والأقُدامُ (
الفقهة: ما بلى الرأس من فقر العُنق. وقيل الفهاهة: مواصل الأعناق في الرءوس اي ينقص الأعضاء ويبضعها، حتى يلتقي طرفا الجسم على بعد بينهما. وإن شئت قلت: يضرب الهام، فتسقط على الأقدام.
) فكيرٌ من الشجاع التوقيِّ ... وكثيرٌ من البليغ الكلامُ (
اي هيبته تروع قلوب ذوي النجدة وقلوب ذوي البلاغة لأن هذا الممدوح شجاعٌ بليغ قد بلغ الغاية في الفضليتين، فأبعدُ غايات الشجاع وأعلى منازله أن يُحسن التوقي من هذا الممدوح ولا يتحدث بالظهور عليه لأن ذلك منه سفهُ رأي. وأبعد غايات البليغ أن يقدم فيسلم عليه ولا يتحدث بإسهابٍ في مخاطبته ولا إطناب. وهذا في أسلوب قول الشاعر:
بغضى حياء ويُغضى من مهابتهِ ... فلا يُكلم إلا حين يبتسمُ
ولأبى الطيب فضل ذكر الشجاعة والبلاغة في بيت واحد وإفراد كل واحد من الفضليتين بمصراع.
وله ايضا:
) ضُربن إلينا بالسياط جهالة ... فلما تعارفنا ضُربن بها عنا (
يصف خيل الروم. وذلك أن سرية الروم رأت جيش سيف الدولة فظننته جيشها فهمزت نحوه تريدُ اللحاق، فتبين لهم بل أن يلحقوا أنها خيل الإسلام، فانصرفوا هاربين عنها مُجدين يضربونها بالسياط للإدبار كما يضربونها للإقبال. و) عن (ها هنا: لما عدا الشيء اي مبعدين عنا لها. وقوله: تعارفنا: اي افترقنا فعرفونا وعرفناهم.
) وإن كُنت سيف الدولة العضْبَ فيهم ... فدعنْا نكُن قبل الضرابِ القنَا اللدْنا (
اللدن: اللين. ذكر على اللفظ لأن القنا وإن كان جمع قناة فلفظه لفظ المذكور وما خرج من الجمع على هذه الصورة جاز تذكيره وتأنيثه. يقول: إن كنت انت سيف الدولة والسيف أشرف السلاح، وهو المستغاث به إذا اشتد البأس، لأن الرماح والسهام قد فنيت فعدنا نحن حينئذ رماحا وقدمنا، فإذا فنينا أو قاربنا ذلك فكن انت سيف الدولة الذي يكون به الضراب اذ لا يباشر ذلك إلا مثلُك. وهذا نحو قول الآخر.
فلما لم ندع قوسًا وسهْما مشيناه نحوهم ومشوا إلينا وله ايضا:
) اخترتُ دهماء تين يامطرُ ... ومن له في الفضائل الخيرُ (
1 / 52