فاذا رآى الطيف أراه النوم ما تعود من العفة في اليقظة فعف، فإن ذلك من خلق النفس كثير. أعنى أن ترى في حُلمها ما تعودته يقظي؛ ولذلك علة ذكرها حذاقُ القدماء جالينوس وغيره. والطيف فعل من طاف يطوف الا أنا لم نسمع فيه طوفا. وقد يكون) فعلا (من طاف يطيف؛ سُمي بالمصدر، لأن نسمع طاف يطيف عندنا من باب باع يبيع واسع ولا أحمله على ما ذهب اليه الخليل في طاحَ يطيح قياسًا عليه؛ لأن باب باع يبيع واسع كثير.
وباب) طاح يطيح (قليل، لايُوجد لها ات إلا تاهُ يتيه في لغة من قال: توهْتُه. وحكى ابو زي: ناهت الركيةُ تميه وهو من الواو فهي ثالثة) لطاح (وتاهَ (على قول الخليل:
مخضبةٌ والقومُ صرعى كأنهم ... وإن لم يكونوا ساجدين مساجدُ
اي هذه البلاد مُخضبة، الدماء فيها جارية والأشلاء مُنكبة ومبطوحة فكأنها مساجدُ مُخلقة لا نكباب القتلى وإن يكونوا ساجدين.
) تُنكسُهم والسابقاتُ جبالُهم ... وتطعنُ فيهم والرماحُ المكايد (
تنكسهم: تقلبهم على رؤسهم. فيقول: من شأن تنكيسك لهم عن متون خيلهم وهو رُكبان لها. فلما تركوا الخيل، وركبوا الحصون والقلاع وقُنن الجبال مكان الخيل؛ فلم يمكنك تنكيسُهم بالرمح حينئذ، كما كنت تنكسُهم به فُرسانا، أقمت كيدك لهم مقام الرمح فنكستهم عن الجبال به. وقوله:) والرماح المكايد (: اي المكايد هي التي قامت مقام الرماح لأنك وصلت بالمكيدة إلى مثل: ما كنت واصلًا إليه بالرم. وقد أجاد ي تطبيقه قوله:) والسابقات جبالهم (بقولهم:) والرماح المكايد (.
) فتى يشتهي طُول البلاد ووقتُهُ ... تضيقُ به أوقاته والمقاصدُ (
اي همته يقصُر عنها الدهرُ فهو يشتهي طول الدهر ليسع همته، وجيشه عظيم تضيق عنه البلاد فهو يشتهي أن تسع البلاد وتطول لتحمل جمعه. فلأوقات أزمنة وتضيق عن همته والمقاصدُ أمكنةُ تضيق عن جيشه. وفي البيت حذف. وتمامه - لو اتزن - فتى يشتهي طول لجيشه وسعةَ الأوقات لهمته فهتمه تضيق عنها الأوقات وجيشه تضيق عنه البلاد.
) أحبُك ياشمس الزمان وبدرهُ ... وإن لا منى فيك السُّها والفراقدُ (
جعله شمس الزمان وبدره ليخبر عنه بكمال النُّورية وأنه يعم الليل والنهار بضوئه وهذا أحسن. لأن الممدوح موجوده نهارًا وليلًا فهو النهار شمس ولليل بدر، واختار البدر على القمر لأن القمر ربما لم يُغن ضوؤه كبير غناء مع ما آثر ممن الوزن. وجعل غيره من الأملاك بالإضافة إليه سُهًا وفراقد. ولا خفاء بما بين الشمس والبدر وبين السُّها والفراقد من المراتب في النُّور. فيقول: أنا أحبك أيها الملك الذي هو الملوك كالشمس والبدر في النجوم لعظم نفعك وجسامة غنائك في نوعك وإن فيك أملاك؛ هم في الملوك كالسُّها. والفراقد في الكواكب فكيف أطيع من هو كالسهام والفراقد فيمن هو كالشمس والبدر وهما مُغنيان عن السها والفرقدين. بل احدهما مغن عنهما. والسها والفرقدان لا يتجزءان كنها ولا من احدهما وقال:) والفراقد (. وانما هو) الفرقدان (لأن جمعهما. بما حولهما، أو على أنه جعل كل جزء منهما فرقدًا وقد فعلت العرب ذلك قبله كثيرًا كقوله: ودون الجدى المأمول منك الفراقد وحكى سيبويه: أنهم يقولون للبعير) ذو عثانين (جعلوا كل جزء منه عُثنونا.
وقال جرير: أنشده سيبويه:
قال العواذلُ ما لجهلك بعدما ... شاب المفارقُ واكتسبن قتيرا
وله ايضا:
) يحيدُ المحُ عنك وفيه قصد ... ويقصُر أن ينال وفيه طُولُ (
اي هيبتُك في فؤاد القرن تخذُل يده فيحيد رمحه عنك مهابة لك بعد أن سده ويقصُر الرمح أيضًا أن ينالك هذا القرنُ به حذره إقدامك عليه وإن كان طويلا. وانما يعنى بطول الرمح العمل به وجودة التصريف له لا الطول الذي هو ضد القصر. لأن الطُّول عيبٌ وذلك أن الرمح إذا كان طويلًا خان فضعف.
وله ايضا:
) شفن لخمسٍ إلى منْ طلبن ... قُبيل الشفُون إلى نازلِ (
الشفن: النظر من فوق إلى أسفل.) لخمس (: اي بعد خمسٍ بين يوم ولية. والعرب تُغلب في مثل هذا المؤنث على المذكر، لسبق الليلة في تاريخ الشهر.
1 / 50