أي أن قلبي متنزه بمناعته؛ أي بشجاعته؛ دافع عن نفسه ببأسه. ولكن من كانت له عين كعينك، أصاب الأمر الصعب بالسعى السهل. أي فذلك ممكن لك منى على تمنُّعه على غيرك. والانحدار سهل، والاؤتقاء صعب. فمن كان الارتقاء عليه في سهولة الانحدار؛ فكل صعب له سهل، كقول البحتري:
ومُصعدٌ في هضاب المجد يطلُعُها ... كأنه لسكُون الجأش منُحدرُ
وقد بالغ أبو الطيب بالمقابلة بين الحدور السهل والمرتقى الصعب؛ لسرى طبيعة الضد في الوصفين والموصُوفين. قابل الحدُور بالمرتقى، والسهل بالصعب. ولو أمكنه أن يقابل الحدُور بالصعود؛ لكان أذهب في الصنعة. ليوازن اللفظين.
وله ايضا:
) وفاؤُكُما كالربع أشجاهُ طاسمُه ... بأن تُسعدا والدمعُ أشفاه ساجمهُ (
يخاطب خليله. وإنما كثرت مخاطبة العرب خليلين وصاحبين؛ دون أقل أو أكثر؛ لأن أقل السفر المتُرافقين ثلاثة، فالواحد يخاطب صاحبيه. يذهبون في ذلك إلى أنه إن اختلف الاثنان قتل الأقوى الأضعف. فاذا كان لهما ثاث؛ توسط فحال بينهما في الأغلب. فلذلك لم يصطحب في الأكثر أقلُّ من ثلاثة لهذه العلة. هذا معنى مخاطبة العرب في أغلب الأمر الاثنين، حتى تجاوزوا في ذلك إلى أن خاطبوا الواحد بخطاب الاثنين؛ كقوله تعالى:) ألْقَيا في جَهَنَّم (. ومن كلامهم: ياحَرسيُّ اضربا عُنقه. وقال: فإن تَزْجُرانى يابن عفان أزدجر والطاسم: الدارس. وأشجاه: أشدُّه إشجاء وإحزانًا. ولا يكون فعلا، لمقابتله إياه بقوله: أشفاه. وأشفى: اسم لا فعل. يقول: وفاؤكما أيها الخليلان بأن تسعداني على بكائي في هذا الربع الدارس، كهذا الربع الذي بكيتهُ، وذلك في ترك المساعدة في الوقت به معي، ففي ذلك أشبه وفاؤكما للربع دروسًا وطُموسا. ثم قال:) والدمعُ أشفاه ساجمه (: أي لا تلوماني على البكاء، فان أشفى الدمع ساجمُه. وقد يجوز،) والدمعُ أشفاه ساجمه (: أي بالإسعاد وبالدمع الذي أشفاه ساجمُه. أي: وفاؤكما بالإسعاد لي، والبكاء معي.
) دارسٌ (قد قارب العدم، كما أن الربع كذلك، فكلا كما أشجاه لي مادرس، وقد يقنع المشُوقُ من صاحبه أن يقف معه على الربع عاذلًا، أو عاذرًا، وإن لم يشركه في شوق ولا بكاء، كقول البحتري:
قف مشُوقا أو مسعدًا أو حزينًا ... أو مُعينًا أو عاذرًا أو عذولاَ
فقد يجوز أن يكون أبو الطيب عدم هذا كله من خليله، وأبيا موافقته على وجه: لا مشوقين ولا مسعدين، ولا عاذرين.
والدمع على هذا، معطوف على موضع) بأن تسعدا (أي بالإسعاد. وبالدمع الذي أشفاه ساجُمه، يعني بكاه معه. والباء في) بأن تُسعدا (: متعلق بمحذوف أي وفاؤكما بالإسعاد. ولا تكون متعلقة ب) وفاؤكما (الاولى، لأنك قد أخبرت عنها بقولك:) كالربع (فمحال أن تخبر عن الاسم وقد بقى ما يتعلق به، لأن هذا المتعلق به جزء منه. فكما لا يخبر عن الاسم قبل تمام حروفه، كذلك لا تخبر عنه وقد بقى ماهو جزء منه.
) سقاكِ وحياناَ بكِ اللهُ إنما ... على العيس نورٌ والخُدُورُ كما كمائمُه (
جرى في هذا البيت على مذاهب العرب وطرائقهم، لأنهم يُحُّيون بالنُوار وأصناف الازهار. فلما أبصرها في الخدور جعلها نورًا في كمه، فدعا له بالسُّقيل، لينعم ويحْسُن. ودعا لنفسه أن يحيا بذلك النور.
) إذا ظفرت منك العيونُ بنظرةٍ ... أثاب بها مُعيى المطى ورازمُه (
يريد أن النظر إليها سببٌ لقول الشعر فيها، والتغنى به في الطرق، وجميع ما يتصرفون، ويحدُون به. فتنشط الإبل لذلك. إذ من طبعها أن تنشط للحُداء.
) قِفِى تغرم الاولى من اللحظ مُهجتي ... بثانيةٍ والمُتْلفُ الشيء غارمُهْ (
يقول: لحظتك فأهلت اللحظةُ مُهجتي. فقفى على حتى ألحظك اخرى، فترد على ما أذهب الاولى، وذلك أن لكل نظرة أنظرها تأثيرًا في، فا ... ذا قد عدتُ المهجة الاولى، فعمل الثانية ردُّها، لأن الشيء إذا انتهى في ضد انعكس إلى ضده.
) وتكملةُ العيش الصبا وعقيبهُ ... وغالب لون العارضين وقادمُهْ (
1 / 46