أي لو صدقوا هؤلاء الأدعيان المُوعدُون لي، في ادعائهم قُربي على عبسه السلام، لحذرتهم لشرفهم، ولكنهم يكذبون في ذلك، فهل في وحدي يكون قولهم صادقًا، كما يكونون في نسيهم، كذلك يكونون في توعُّدهم إياي.
) بأيِّ بلادٍ لم أجُر ذوائبي ... وأيُ مكانٍ لم تَطأهُ ركائِبيِ (
أما جرُّه ذوائبه: فكناية عن الغزل والتغني، كقول الآخر:
أيام أسحبُ لمتى عفر الملا ... وأغُضُ كل مُرجلٍ ريان
وأما وطء ركائبه المكان، فكناية عن الغزو، يقول: كل مكان قد شاهدت إما طالب غزلٍ أو غازى أملٍ.
) كأن رحيلي كان من كف طاهرٍ ... فاثبت كُوري في ظهُور المواهب (
أي أن مواهب هذا الممدوح مُشَرقة ومُغربة. فكأن رحيلي كان من كفه، وهي مكانُ العطايا، فأثبت كُوري في ظهور مواهبه فهي تُشرق بي وتغرب. ووجه اتصال هذا البيت بالذي قبله، أي لم أدع موضعًا إلا أتيته، كما أن مواهب طاهر لم تدع موضعًا إلا أتته. وإنما صح لي ذلك بإثباته رحلي على ظهور مواهبه السيارة.
وجعل للمواهب ظهورًا، لذكره الكُور الذي موضعه الظهر. وهذا مجاز. إذ لا ظهر لمواهبه ولا بطن.
) فَلم يبق خَلقٌ لم يرِدن فِناءَهُ ... وَهُن له شِرْب وُرُودَ المشارب (
يُحقق تشريق مواهبه وتغريبُها، وأخذها من الدنيا في كل أفق وقُطر.
فيقول: لم يبق خلق إلا وقد وردت هبات طاهر فناءه؛ إما قادماُ بها من لُدنه، وإما محمولة اليه. والخلق هنا: بمعنى المخلوق، إذ لا معنى للمصدر في هذا الموضع.
) وهُن له شِرب وُرُود المشارب (: أي وهي وإن كانت مشارب للآملين، فإنها تطلب الآملين الزُّوار؛ مع طلبهم إياها طلب العطاش لمشارب. وقوله:) وهُنَّ له شِربُ (: يتعجب من أنها لهم شرب، وهي تطابهم طلب الظمآن للماء. وهذا نحو قول أبى تمام:
فأضحت عطاياهُ نوازع شُردًا ... يُسائلن في الآفاقِ عن كل سائِل
لا أن بيت أبى الطيب أغرب. وتلخيصه: فلم يبق خلق لم يردن فناءه وُرُود المشارب، على أنهن شرب لذلك الخلق.
) فقد غَيَّبَ الشُّهادَ عن كل موطنٍ ... وردَّ إلى أوطانه كل غائبٍ (
أي دعا صيتهُ في السا الناس حتى غابُوا عن أوطانهم، مسافرين إليه. ثم أغنى هؤلاء السفر؛ فردهم إلى أوطانهم، وكفاهم عن السفر إلى غيره، بما أفادهم إياه. قال بعض النُّفاد: وهذا كقول أبى نُواس:
واذا المطى بنا بلغن محمدًا ... فظهورُهن على الرجال حرامُ
وليس عندي مثله، لأن المتنبي قال: أغنى هذا الممدوح قُصاده، وردهم إلى أوطانهم، فكفاُهم السفر. وأبو نواس قال: إذا بلغتِ المطىُّ بنا هذا الأمير، حرمنا ظهورها على الرحال؛ أي لم نركبها أبدًا؛ ولا امتهناها، جزاء لها على تبليغها إيانا أملنا من لقائه. ولم يذكُر عطاء؛ ولا كفاية سفر، ألا تراه يقول بعد هذا؛ مُبينا لعلة تحريم ظهورها على الرجال:
قَرَّبْننا من خير من وطئ الحَصَى ... فَلَها علينا حُرمة وذمامُ
) أناسٌ إذا لاقواعدى فكأنما ... سلاحُ الذي لا قوا غُبارُ السلاهبِ (
السلاهب: الطوال من الخيل وغيرها. وإن شئت قلت: سلاح أعادبهم بمنزلة غبار الخيل في أنه لا يعبأ به. وخص السلاهب، لأن الطوال أخفُّ، فغبارها أخف.
وإن شئت قلت: إن سلاح من لقيهم إنما هو إثارة الغبار بالهرب والانهزام، وجعل ذلك سلاحهم، لانه هو الذي يقيه كما يقى السلاح غيرهم، أي ذلك الذي يقوم لهم مقام السلاح.
وإن شئت قلت: كان السلاح هنا الدروع والجُفن أي هي عليهم أوهى نسجًا من الغُبار تحرقها الرماح، كقوله في صفة الرماح:
قواضٍ قواض نسج داود عندها ... إذا وَقَعَتْ فيه كَنَسجٍ الخدرنق
الخدرنق: العنكبوت؛ شبه الدروع في خرق الرماح لها، وسهولة ذلك منها عليها، ببيت العنكبوت.
) رموا بنواصيها القسى فجئتها ... دوامى الهوادى سالمات الجوانب (
أي رموا نواصي هذه الخيل بالقسى، فعكس،) ومثله كثير (؛ فجاءت دوامى الهوادى، وهي الأعناق والمقَاوم، لأقدامها. وسلمت جوانبها، لأنها لم تستعرض ولم تستدبر. وكنى بالجوانب هنا عن الأعجاز والأعطاف جميعًا، وهم يصفون المُقدم بأن جُرحه في أمام جسمهن والمُدبر بخلافه، كقول القُطامى:
ليست تجرحُ فُرارًا ظهورهُم ... وفي النحور كُلوم ذات أبلادِ
1 / 41