غلت في الحساب، وغلط في القول. هذا فرق. وقيل: هما سواء. يمدح إمام أنظاكية، فيصفه بتجويد التلاوة، وحُسن التأدبة، حتى جعل حسُن لفظه وترتيله للقراءة في الإعجاز، منزلة الآية، فيقول: يجب أن تكون قراءتك هذه مضافة إلى الآيات، تعد بصورة في النفس آية، فقد غلط حُساب العُشور إذا لم يعدوا قراءتك منها. وكان يجب أن يقول: ترتيلُك للعشور من آياتها، أو الأعشار من أياتها، فكان أذهب في الصنعة.
وهذا البيت كله) خلف (من وجهين. أحدهما: طريق الغُلُو الذي لا مساغ له في الذات اللقنة المتيقنة. والآخر: أن الترتيل عرضٌ في اللفظ وليس بذات لفظ، والآية لفظ. وإنما الترتيلُ في ذات اللفظ كالعرض في الجوهر، فلا ينبغي أن يُعد ما هو عرض في الجوهر جزءا من ذات الشيء، فتفهمه، فإنه لطيف المعنى.
) لا نَعْذُل المرض الذي بك، شَائِقٌ ... أنت الرجال، وشَائِقٌ عِلاتِها (
كان هذا الممدوح عليلا، فيقول: لا تلم المرض المعتمد لك، والحالُ بك، لأنك محبب إلى النفوس وإلى أحوال النفوس، فكما أنك تشُوق النفوس فتذهب نحوك، وتحل بك، كذلك الأحوال، والعلة نوع من الحال، فلا عتاب عليها في حبها لك.
فتلخيص البيت: لا تعذل مرضك، لأنك تشوق الرجال، وتشوق عللها فشائق: خبرُ مبتدأ مقدم، وأنت مبتدأ. أي انت شائق الرجال وعللها ولا يجوز أن يكون شائق مبتدأ، وأنت فاعل بشائق، لأن اسم الفاعل إنما يعمل عمل الفعل إذا كان) معتمدًا (على شيء قد عمل في الاسم قبله، أغنى كأنه يكون خبرًا لمبتدأ، أو فاعلا لفعل، أو صفة لموصوف، أو حالا الذي حال، ونحو ذلك، فأما أن يكون يعمل عمل الفعل وهو مبتدأ، فلا يجوز فلو قلت: ضاربٌ زيدًا تُريد: اضرب زيدًا كان خطأ.
) فإذا نَوتْ سفرًا إليك سَبَقْتَها ... فَأضَفْتَ قبل مُضَافِها حَالاَتها (
هذا البيت متعلق بهذا البيت الذي قبله: أي أن الرجال إذا نوت سفرًا إليك سبقتها بإضافتك أحوالها، قبل إضافتك إياها. وإضافته لحالاتها قبوله لها بجسمه، لانه في ذكر المرض، عَرَض، والعرض يطلب محلًا ومحله الجسم. ويشبه ذلك قوله بعد هذا:
) ومنازل الحُمى الجسُومُ فقثل لنا ... ما عذرها في تركها خيراتها (
أي إذا كانت الأمراض أعراضًا، ولم يكن للعرض بد من جسم وأمكن العرض جسمُك الذي هو خير الجسوم، فكيف يعذر على تركه.
) فاليومَ صِرتُ إلى الذي لو أنه ... مَلَكَ البرية لا سْتَقَل هباتها (
هذه الهاء في موضع المفعول به، أي لاستقل أن يهبها لعالم آخر. فكان يجب على هذا أن يقول: لاستقل هبتها. لأن الهبة هنا المصدر، لا الموهوب ولكنه جمع المصدر، لانه عنى به الموهوبين، ولأنه مصدر متنوع، لانه كان يهبها فُرادى ومثنى، ومازاد على ذلك من الكم، فقد تنوع المصدر باختلاف الأعداد، فاستجاز الجمع لذلك.
) مُسْتَرخَصُ نظر إليه به ... نَظَرَتْ وَعثَرةُ رِجلهِ بدياَتها (
) مابه نظرت (: يعني أعين البريه. أي أن النظر إلية رخيص بأعينها يعني بفقدها الأعين. وكذلك عثرة رجله لو اشتُريت بديات البرية لكانت رخصية.
وله ايضا:
) وَتركُكَ في الدُّنيا دَويا كأنما ... تَداوَل سَمْعَ المرء أمْمُلهُ العشرُ (
يعني لا يسمع شيئا، كقول النابغة:) وتلك التس تستك منا المسامعُ (والدوي: الصوت. وهذا البيت مضمن بما قبله. أي إنما المدُ السيوف، والفتكة البكر، وأيام حرب يُسمع لها من اجتماع الأصوات المختلطة الواصلة إلى الآذان، مثل صوت البحار الذي يسمعه الانسان إذا اطبق أذنيه بأنمله.
والأنمل هنا: الاصايع، واحدتها أنملة، من باب تَمْرة وتمر، وليس بتكسير أنملة لأن هذين البناءين انمايكسران على) أفاعل (. وقوله) تداول سمع المرء (: يجوز أن بكون السمع اسما للأذن، فلا يحتاج في هذا القول إلى حذف. ويجوز أن يكون السمع هنا: الحس لا الجوهر الذي يُحسن به، فإذا كان ذلك، فلابد من حذف، كأنه قال: تداول موضع سمع المرء وإلى هذا ذهب أبو علي في قوله تعالى:) خَتَم اللهُ على فلوبِهم وعَلَى سَمْعِهم (وجهة على الوجهين جميعًا.
) إذا الفَضلُ لم يرْفَعْك عن شُكر ناقصٍ ... عَلَى هبةٍ فالفضلُ فيَمنْ لَه الشُّكْرُ (
1 / 32