إذ لا يخفى أن العدالة تستلزم الإسلام والعقل والبلوغ استلزاما اصطلاحيا (فالعدالة) عرفها ابن الحاجب بقوله صفة مظنة لمنع موصوفها البدعة وما يشينه عرفا ومعصية غير قليل الصغائر فقوله صفة مظنة أي صفة ذات مظنة. وقوله لمنع موصوفها متعلق بالمظنة ومنع مضاف وموصوفها مضاف إليه. والبدعة معلومة شرعا وهو الأمر المحدث منصوب على أنه مفعول بالمصدر الذي هو المنع. وقوله عرفا منصوب على إسقاط الخافض أي في العرف أشار به إلى السلامة من ترك المروءة كالأكل في السوق إلى غير ذلك أخرج به ما لا يشينه في عرفه والعرف في ذلك يختلف بحسب البقاع والمكان والحال والزمان. وقوله ومعصية بالنصب عطف على البدعة والمعصية تشمل الكبائر والصغائر. وقوله غير قليل الصغائر بالنصب على الاستثناء والمستثنى منه معصية أخرج به القليل من الصغائر فإنه غير ضار في العدالة إلا إذا كانت صغيرة خسة فإنها تضر كالكبيرة كما يأتي بسطه في البيت بعد هذا (إما) اشتراط تيقض الشاهد فإن لم يكن متيقضا فطنا فلا يخلو حاله أما أن يكون بليدا # أو غبيا فإن كان بليدا أبله وهو الذي ليس له فكر يحركه فهذا لا تقبل شهادته في كل شيء البتة وإن كان غبيا أو غلبت عليه الخيرية والأمانة وهو من له فكر لكن لا يحركه وإن حركه يتفطن فهذا لا تقبل شهادته في الأمور التي تتأتى فيها الحيل كالإقرارات وأما ما لا تتأتى فيه الحيل كقوله رأيت هذا يقطع يد هذا فإنها تقبل وفي قبول شهادة المولى عليه الفطن وعدم قبولها وبه العمل قولان. وأما اشتراط العدالة فلأن الفاسق بجارحة أو اعتقاد لما كان عاصيا بمخالفة فروع الإيمان فلا تقبل شهادته لأنه لا يتوقى الكذب. وقد قال الله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال {ممن ترضون من الشهداء} وقال {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} فأنبأنا ربنا تعالى بما أنعم به علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطة الشهادة على جميع الخليقة فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون فهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول ولا ينفد على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلا قاله ابن العربي. وأما اشتراط الإسلام فلقوله تعالى {شهيدين من رجالكم وممن ترضون من الشهداء} والكافر ليس فيه شيء من هذه الصفات ومن العلماء من أجاز شهادته في الوصية في السفر لقوله تعالى {أو آخران من غيركم}. وفي آثار المدونة مما أسنده ابن وهب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا تجوز شهادة أهل الملل بعضهم على بعض وتجوز شهادة المسلمين عليهم انتهى. وأما اشتراط الحرية على المذهب فلقوله سبحانه وتعالى ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا (قال) أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى قال علماؤنا هذا دليل على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم وهذا أمر انبنى عليه الشرع فعمل به في كل زمن وفهمته كل أمة ومن أمثال العرب في بيته يؤتى الحكم وعلى خروج العبد من جملة الشهداء لأنه لا يمكنه أن يجيب ولا يصح له أن يأبى لأنه لا استقلال له في نفسه وإنما يتصرف بإذن غيره فانحط عن منصب الشهادة كما انحط عن منصب الولاية وعن فرض الجمعة انتهى (قلت) إنما ينهض هذا لو جعل دليلا على سقوط وجوب # المشي لا على قبولها بدليل أنه لو صلى ظهره جمعة مع الجماعة لصحت صلاته تأمل وقيل في تعليل عدم قبول شهادته غير هذا وكله ليس بظاهر ولهذا أجازها بعض العلماء. وأما اشتراط العقل فلأن عدمه يؤدي إلى عدم الضبط وينافي التكليف. وأما اشتراط البلوغ فلأن الشاهد مكلف بالأداء ولا تكليف مع الصبي ولأن الصبي لعلمه رفع القلم عنه لا يتوقى الكذب فلا تجوز شهادته ولا اختلاف إلا ما اختلف في ذلك من قبوله في الدماء (وشاهد) التحمل يشترط فيه أن يكون مميزا متيقضا صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو كافرا عدلا كان أو فاسقا فمن تحمل ي شهادة كانت وإن خطأ أو عقد نكاح لأن الإشهاد ليس بركن منه ولا بشرط في صحته كما في الرهوني وغيره وهو زمن التحمل مميز فطن غير أنه صغير أو عبد أو كافر أو فاسق ثم أدى شهادته بعد زوال المانع فإن بلغ أو عتق أو أسلم أو حسنت حالته وصار عدلا فإنها تقبل لأن المعتبر عند العلماء زمن الأداء لا زمن التحمل كما يأتي في كلام الناظم إلا العقل فإنه شرط زمن الأداء وزمن التحمل تنبيهات (الأول) ومن المجموعة روى ابن وهب عن مالك في الذي يخنق أن كان يفيق إفاقة يعقلها جازت شهادته وبيعه وابتياعه وطلاقه في إفاقته فأما الذي لا يكاد يفيق فلا يجوز له شيء من ذلك (الثاني) هل يشترط في الشاهد عدم الحجر عليه وهو المختار وبه العمل أو لا يشترط فيه ذلك وقد تقدم ذكره ولعل الناظم ذهب إليه حيث لم يذكره مع الشروط خلاف (الثالث) تجوز شهادة الأعمى في الأقوال دون الأفعال كما يجوز للشاهد البصير أن يشهد على المرأة من وراء حجاب قد عرفها وعرف صوتها وأثبتها. وتجوز شهادة الأصم في الأفعال دون الأقوال ومثله الأخرس إذا فهمت إشارته (الرابع) كتب الشهادة هل هو فرض على الكاتب أو لا خلاف قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى عند قول الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} الآية يريد يكون صكا ليستذكر به عند أجله لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الآجال # والنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشرع الكتاب والإشهاد وكان ذلك في الزمن الأول. وقوله فاكتبوه إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفاته المبينة له المعربة عنه المعرفة للحاكم فيما يحكم عند ارتفاعهما إليه. وقوله تعالى {ولا يأبى كاتب أن يكتب كما علمه الله} (فيه) أربعة أقوال الأول أنه فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز قاله الشعبي (الثاني) أنه فرض على الكاتب في حاله فراغه قاله بعض أهل الكوفة (الثالث) أنه ندب قاله مجاهد وعطاء (الرابع) أنه منسوخ قاله الضحاك. والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذ حقه. وقوله تعالى {وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا} قال علماؤنا إنما أملى الذي عليه الحق لأنه المقر به الملتزم له فلو قال الذي له الحق لي كذا وكذا لم ينفع حتى يقر الذي عليه الحق فلأجل ذلك كانت البداءة به لأن القول قوله وإلى هاته النكتة وقعت الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقوله تعالى {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا فليملل وليه بالعدل أي ولي السفيه أو الضعيف} وهذا يدل على أن إقرار الوصي جائز على يتيمه لأنه إذا أملى فقد نفذ قوله فيما أملاه إذا ثبت هذا فلن تصرف السفيه المحجور دون ولي فإن التصرف فاسد إجماعا مفسوخ أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا. وأن تصرف سفيه لا حجر عليه فاختلف علماؤنا فيه فابن القاسم يجوز فعله وعامة أصحابنا يسقطونه والذي أراه من ذلك أنه أن تصرف بسداد نفذ وإن تصرف بغير سداد بطل وأما الضعيف أي الغبي الأبله فربما بخس في البيع وخدع ولكنه تحت النظر كائن (الخامس) الشاهد الذي ينتصب لكتب الوثائق بين الناس أخص من العدل إذ يشترط فيه شروط أخر قال الونشريسي في المنهج الفايق لا يجوز للولات أن ينصبوا لكتابة الوثائق إلا العدول المرضيين قال مالك رضي الله عنه لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل في نسفه مأمون لقول الله تعالى {وليكتب بينكم كاتب بالعدل} وفي الغرناطية يعتبر في الموثق عشر خصال متى # عري عن واحد منها لم يجز أن يكتبها. وهي أن يكون مسلما عاقلا متجنبا للمعاصي سميعا بصيرا متكلما يقضنا عالما بفقه الوثائق سالما من اللحن وإن تصدر عنه بخط بين يقرأ بسرعة وبسهولة وبألفاظ بينة غير محتملة ولا مجهولة. وزاد غيره أن يكون عالما بالترسيل لأنها صناعة إنشاء فقد يرد عليه ما لم يسبق بمثاله. وأن يكون عنده حظ من اللغة وعلم الفرائض والعدد ومعرفة النعوت وأسماء الأعضاء. وعن ابن مغيث يجب على مرسم الوثيقة أن يجتنب في ترسيمها الكذب والزور وما يؤدي إلى ترسيم الباطل والفجور فإن الناقد بصير يسأله عند وقوفه بين يديه عن النقير والقطمير وقد تمالا كثير من الناس على التهاون بحدود الإسلام والتلاعب في طريق الحرام {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. وقد قال ابن أبي زمنين رحمه الله تعالى
أيا ذا الوثائق لا تغرر ... بما في يديك من المرتقب
فإنك مهما تكن عاقدا ... لزور تزخرفه أو كذب
فإن العظيم محيط به ... ويعلم من وراء الحجب
فكن حذرا من عقوبته ... ومن هول نار ترى تلتهب
ولا تنس أهوال يوم اللقا ... فكم فيه من روعة ترتقب
पृष्ठ 70