وظل الحاج والي وحيدا. ألهذا كنا نأتي بهم، لعذابهم وعذابنا؟ ومرة أخرى عاد الضباب يغشى ناظريه، إلا أنه في هذه المرة كان ضبابا أكثر كثافة من كل مرة. وأخرج الحاج والي مسبحته وراح يسبح: لا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله.
الفصل السابع عشر
لم تكد بهية تستقر في بيت أبيها حتى سارعت إلى التليفون تطلب صديقة الطفولة نعيمة؛ فقد طالت بينهما الغيبة، فهي إليها مشوقة تريد أن تسمع من أخبارها الكثير الذي تجمع في هذه الفترة المتطاولة التي لم تزر فيها القاهرة. وكأنما كانت نعيمة معها على موعد؛ فإن عامل التليفون لم يكد يدق لها جرس تليفونها حتى رفعت السماعة واتصل صوت الصديقتين.
وما كان التليفون إلا وسيلة لتتم الزيارة، فما إن انتهى الغداء حتى كانت نعيمة في بيت زكي بك الناضورجي، مصطحبة معها ابنتها ناهد. أما الأم فسيدة في ريق العمر، عدا السمن على جسمها فهو مترهل، ولم تعد السنون على وجهها فهو ناضر، ذات شعر أسود، وثغر يحتفظ لنفسه من الحياة بابتسامة كثيرا ما تصبح ضحكة رنانة تصدر عن قلب يهفو إلى السعادة تخلصت من كل تفكير أو هم، لها عينان تشقان طريقهما في الحياة بشعاع من الهناءة المترعة، والسعادة الغامرة، فيهما تطلع إلى ما يجتلب إليها السرور والمتعة، وفيهما قدرة أن يتجنب كل ما من شأنه أن يزيل الابتسامة عن الفم، والسعادة عن القلب.
أما ابنتها فطفلة لم تزد على عمر آمال، إلا أنها أكثر منها حركة وحياة، ورثت عن أمها الشعر الأسود والابتسامة. وقد يرد أمها عما تصبو إليه بعض خجل أو حياء، أو قد يردها عمر ليس بالطفل، أما الابنة فلا شيء يردها، فهي تفعل ما تريد، وقتما تريد.
جلست الأمان، وسرعان ما بدأ الحديث، بطيئا وانيا أول الأمر ولكن ما هي إلا لحظات حتى تفجر الينبوع وتشابك الحديث كأنه غابة من الكلمات المتدافعة، حتى أصبحت كل منهما وهي لا تدري إن كانت صاحبتها تسمع أو لا تسمع، وإنما كل ما تعنيان به أن تتحادثا.
ولم تستطع ناهد أن تصبر طويلا على حديث الأمين، فما أسرع ما تمت الصداقة بينها وبين آمال، وما أسرع ما انسحبتا من الغرفة لتخلوا إلى حديثهما أيضا. - ماذا تعملين في المدرسة؟
وتجيب آمال: أنا لا أذهب إلى المدرسة. - ياه! وماذا تعملين؟ - ألعب مع محمد أمام بيتنا، هناك في البلد. هل عندكم بلد مثلنا؟ - لا، ولكني أذهب إلى المدرسة. وفي البيت نغني، ونرقص. - أنا أتعلم في البيت، وبعد الظهر ألعب بالكرة. - تجيء عندنا الست عطيات، المغنية المعروفة، مشهورة جدا. أتعرفينها؟ - لا. أنا أذهب إلى الغيط، وأركب النورج. هل عندكم نورج؟ - لا. أنا أرقص، وأغني مثل الست عطيات. أترقصين؟ - أنا! أبدا. - يا خسارة! سأعلمك الرقص. - وأنا سأعلمك ركوب النورج، وأجعلك تضربين البقر الذي يجر النورج. - عندما ترقصين تصفق لك أمك وأبوك والزوار. - عندنا إسماعيل أبو شعبان، أخذني لأتفرج عليه وهو يدير الطمبور. أتعرفين الطمبور؟ - الست عطيات أحسن واحدة تدق الصاجات. - كان إسماعيل أبو شعبان يلف الطمبور وهو عاري الساقين فيخرج الطمبور ماء. - الماء عندنا في الحنفية. - وفي الصيف كنت أقف بجانب الغلة وهم يذرونها في الهواء، فتطير، ثم يسقط الحب وحده، والتبن وحده. - نحن في الصيف نصعد إلى سطح البيت، وتغني الست عطيات وترقص، وكنت أرقص معها، ويقول أبي إنني أرقص أحسن منها، ولكن أمي تقول إنها أحسن من يمسك صاجات في مصر.
وقالت الست بهية لصديقتها نعيمة: وناهد هل تذهب إلى المدرسة؟ - نعم. - ما اسم مدرستها؟ - والله لا أدري، أبوها هو الذي أدخلها. - ألا تعرفين مدرسة ابنتك؟ - وأنا ما لي! - كيف؟ - يا أختي بلا هم. وماذا ستعمل بالعلم؟ مصيرها تتزوج. أحسن لها أن تتعلم كيف ترضي زوجها.
وتضحك بهية ضحكة مجلجلة وتقول: وهل تعلمت هذا؟ - ترقص على كيفك.
अज्ञात पृष्ठ