وتقول بهية وبقية الضحكة ما زالت عالقة على شفتيها في شكل ابتسامة: ولكني أريد أن أدخل آمال المدرسة. - أسأل لك عبد السميع عن مدرسة ناهد. - وأخبريني غدا بالتليفون. قولي لي، كيف حالك مع زوجك؟ أما زال مبسوطا من ضحكك ولهوك؟ - الرجال أطفال، الضحكة تجعلهم كالخراف، يفعلون ما تشائين. لا يؤخر لي طلبا، طلبت منه أن يشتري جهاز ناهد من الآن فاشترى. - وما الداعي؟ - ألا تعلمين أنه كان متزوجا أخرى وله منها أولاد؟ وأنا ليس لي منه إلا ناهد. إن لم أحصل على كل ما أستطيع منه في حياته ضعت بعده. - أنت لئيمة ولا يبين عليك. - لا يا حبيبتي. الضحك شيء والجد شيء. جعلته يبيع أرضا لي وسجلها في المحكمة. لا، كل إنسان يجب أن يبحث عن مصلحته. - وهو يطيع دائما؟ - ضحكة هنا، ورقصة هناك، وليلة أنس؛ يتم ما أريد. وأنت ماذا تفعلين؟ - أنا زوجي ليس له إلا آمال، ولا أعرف شيئا عن أحواله إلا أنه رجل طيب ويفعل ما أريد. - وهل يحب آمال؟ - يعبدها. - وهل تضحك عليه مثل ناهد؟ - آمال؟! أبدا. - لا. ناهد تعرف كيف تضحك على أبيها؛ إن شافته وهو زعلان مكشر تهمس في أذني، وتضع الحزام حول وسطها، وأطبل أنا وترقص هي؛ فإذا تكشير أبيها ضحك وانبساط. انتظري حتى أجعلها ترقص لك. - انتظري أنت حتى أنادي زين العابدين، وبابا، ونينا، ليتفرجوا عليها. - وأنا كيف أقابلهم؟
وسكتت بهية لحظة فقالت نعيمة: أطبل لها أنا من هنا، وهي ترقص في البهو.
وتجمعت العائلة، وأمرت الأم ابنتها أن ترقص، ولم تعترض الابنة، أو تدعي الخجل. كأنما هي راقصة محترفة تنتظر موعدها لتحيي الليلة، وبدأ الرقص، وراحت ناهد تتمايل في أنوثة محترفة. وظهر العجب على وجه زين العابدين، وقطب زكي بك بعض الشيء! وارتسمت ضحكة طيبة على وجه ازدهار، وفرحة ساذجة على وجه بهية. وفجأة مالت ناهد برأسها إلى الخلف حتى كاد رأسها يلامس الأرض، وفي غمرة الدهش صفق زين العابدين تصفيقا حارا، فهو لم يتوقع أن يرى من الطفلة الصغيرة ما يراه في الكباريه، ودون وعي تقدمت آمال إلى المسرح وراحت تهز نفسها مثلما تفعل صديقتها الجديدة. وقال زكي بك دون وعي: بنت!
ولكن البنت لم تسمع، وخجل زكي بك أن يصر على منعها خشية أن يمس إحساس نعيمة صديقة ابنته، واندمجت آمال في الرقص مع ناهد، وراح زين العابدين يصفق تصفيق الخبير محترف الكباريه، وراحت امرأته وحماته تقلدانه في تحرج ما لبث أن أصبح حماسة. بينما تصاعد الدم الأحمر القاني إلى وجه زكي بك، فغمر وجهه وصعد إلى رأسه، حتى أصبحت القطعة الصلعاء التي تغافل الطربوش وتبرز للعيان من الخلف في لون الطربوش ذاته.
الفصل الثامن عشر
إن له لنغمة حلوة قريبة إلى النفس، يصبو إليها القلب في تجاوب خفاق، عذب هو، لا تملك الأذن إذا سمعته إلا أن تميل إليه في حنين، يملك على الإنسان مشاعره جميعا، فكأنما الدنيا لم تخلق إلا ليسمع الإنسان فيها الشعر. يقولون إن للخمر نشوة، فما نشوتها إذا قيست بنغمة الشعر الجميل الجرس الحلو الأرانين؟ فالقلب حين يصغي إليه وجيب، والعين دمعة حائرة تنطلق عن سعادة غامرة وهناءة تتماوج في النفس جميعا.
هكذا أحب حسين الشعر؛ فحياته منذ أحبه شعر، وليس غير الشعر. يستعير الدواوين من مظانها جميعا، ويحفظ العروض فيجيد حفظه، ويحفظ المنظومات الأزهرية جميعا في سهولة ويسر، ويحب شواهد النحو التي يضيق بها إخوانه من الأزهريين. شعر، أصبحت آفاق حياته كلها شعرا، ولكن آماله في أن يصبح شيخا للوعظ لم تبرح نفسه، فهذا أمل راسخ في بعيد نفسه ليس له عنه حول ولا منصرف ؛ آمال الصبا الباكر الحالمة، الجبة والقفطان والعمامة والنساء والرجال وهنية، وخاصة هنية، يقبلون يده، ومن يدري فقد يأتي يوم يقبلون فيه طرف الجبة، الخضراء، أو غير الخضراء، وإن كان لا بأس بالخضراء. وأقول شعرا؛ شعرا في الصوفية، في حب الله؛ فإنه لا يجوز لشيخ مثلي أن يقول في غير حب الله. ولكنه شعر جميل، يستثير مكامن الدموع، ويداعب خوافي الأشجان، ويجعل النفس تثوب إلى الإيمان من حب الله والتفاني في ذاته العليا، سبحانه. وكانت يد الشيخ اليمنى تداعب قطته وهو مستلق على السرير، تاركا لآماله الحرية أن تفعل به ما تشاء. وانتبه الشيخ إلى نفسه وإلى يده تداعب فرو القطة الناعم، ويده الأخرى تمسح دمعة عن عينه. وحيد، وحيد ليس لي إلا القطة، ألم تصدف عن صاحبة البيت؟! لكم عرضت عليك أن تنظف لك الحجرة أو تغسل لك الملابس ولكنك أبيت في إصرار، بل إنك حتى رددت الطعام الذي أرسلته إليك مع الخادمة الصغير. أستغفر الله العظيم ... أستغفر الله العظيم. ولكني وحيد؛ أتصلح هذه الكلمة بداية قصيدة؟ أو تكون مثل هذه القصيدة صالحة للتصوف؟ لا بأس أن أقول في الحب العفيف أو في المشاعر الإنسانية البعيدة عن الدنس والعياذ بالله؛ فالوحدة موضوع لا بأس به. أتراك لو كتبت القصيدة تمتدح الوحدة؟ أم تراك تقول ما تجده فيها من بؤس وضياع. ما هي إلا سنوات قليلة، نعم ... نعم ... تصبر نفسك، إنما هي سنوات قلائل وتصبح وحدتك شملا مجتمعا، أنت وهنية ... نعم إنك تريدها زوجة ... هنية ... تلك البنت ... الفتاة التي تريدها أن تقبل يدك أو طرف جبتك ... نعم فإنه لا رهبانية في الإسلام. أريد أن أحترف الوعظ وأتزوج وأنجب البنين والبنات، وأعوض نفسي عن الوحدة الطويلة التي عانيتها ... طويلة ... طويلة هي الوحدة؛ القطة، الوقت المتثائب، رائحة الركود، الزمن المتجمد، الضياع في طوفان الفراغ، دوامة الصمت، لا حس إلا تسبيح القطة، لا رائحة إلا أنفاسها كأنها أنفاس الملل والضيق والضياع، لا عمل إلا الانتظار لمجهول وذكريات من الماضي أضيق بها من كثرة ما تذكرتها، وآمال في المستقبل أكاد أزهدها لهذا الزمن الطويل الذي يفصل بيني وبينها. مروعة هذه الوحدة ... لا ... لا شيء يصفها إلا نفسها؛ الوحدة، الانسلاخ عن البشرية المتماوجة حولك، البعد عن دوامة الحياة، العزلة كأنك عمل سيئ، القطة وأنا. وفجأة وجد القطة تضطرب تحت يده وتقفز فتهوي يده إلى السرير ويجتذب نظره عن الحائط الذي أطال إليه النظر يريد أن ينظر إلى مكان القطة فيجد جسم إنسان ... امرأة! إنها مفيدة زوجة صاحب البيت! وينظر إلى الباب فيجده قد أقفل وإلى القطة فيجدها متعبة عند الباب تنظر إليه وكأنما تنتظر ما هو فاعل، ويعود إلى المرأة ثم يثوب إلى نفسه، ثم ينتفض من مكانه، يريد أن يقوم وهو يقول: «أهلا.»
ذاهله دهشة خائفة، وقبل أن يقوم تدفعه يد المرأة في جرأة: نم.
ويرتمي مكانه: لماذا؟ - إلام تظل خائبا؟ - نعم؟! - يا رجل اصح من نومك. أصبحت رجلا. - نعم؟!
وأطبقت بشفتيها على شفتيه، والتهبت حواسه، وحين أخلت سبيل فمه وجدته ووجد نفسه يقول: حرام!
अज्ञात पृष्ठ