الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
अज्ञात पृष्ठ
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
अज्ञात पृष्ठ
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
अज्ञात पृष्ठ
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
अज्ञात पृष्ठ
الضباب
الضباب
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
بكرت الحاجة بمبة زوجة الحاج والي عبد الهادي، فلبست معطفها ووضعت على رأسها خمارا مما تضعه زوجات الأعيان في الريف، وأسقطته على وجهها، وخرجت إلى الطريق العام تسير في تؤدة وفي صحة مكتملة؛ فما كانت الست بمبة قد تعدت الأربعين من عمرها، وما كان بطء المشية إلا التزاما بما تمليه عليها مكانتها في القرية.
ولم يطل المسير بالست بمبة؛ فقد توقفت عند باب أحال وجهه لقاء الزمن، فهو كالح باهت لا استواء في ألواحه ولا نعومة، فكأنما ألقت عليه الأيام غضونا كهذه التي تلقيها على وجوه البشر. وطرقت بمبة الباب؛ فانشق عن امرأة في خريف العمر، وفي وجهها قناعة وطيبة، وفيه أيضا بعض غضون من العمر تزكيها خصلات من الشعر الأبيض جمحت فأبت أن تبقى حبيسة المنديل القديم الذي تعصب به رأسها. وقد دهشت سيدة أم عسل أن تقصد إليها الست بمبة في زيارة صباحية بغير داع إليها، ولكن دهشتها لم تمنعها أن ترحب بالزائرة أعمق ترحيب وأصدقه.
لم تكن الحاجة بمبة لتزور بيت سيدة أم عسل في الصباح، ولا حتى في المساء؛ إذا لم يكن هناك سبب ملح للزيارة؛ كأداء واجب في عزاء أو تهنئة لزواج، أما أن تسقط عليها كما يفعل الأصدقاء - رفعوا بينهم الكلفة والمواعيد - فهذا ما لا يتفق ومكانة الست بمبة أو الحاجة بمبة كما يدعوها الجميع؛ فهي زوجة الحاج والي عبد الهادي من أعيان قرية الحمدية، يملك في زمام القرية ثلاثين فدانا، وهو إلى هذا رجل ذو رأي صائب يلجأ إليه القوم في الملمات، وهو كذلك على صلات وطيدة بذوي الشأن في المديرية - مديرية الشرقية - وليس أدل على وجاهته ومكانته المرموقة من أن زين العابدين بك الدرملي وجيه القرية، بل المنطقة؛ لا يزور في القرية إلا قلة قليلة، من بينها - إن لم يكن في مقدمتها - الحاج والي عبد الهادي. فزيارة الحاجة بمبة إذن لسيدة أم عسل زوج محمدين أبو علي، زيارة من شأنها أن تثير الدهشة والعجب والحيرة.
والزيارة في الصباح تزيد من هذه الدهشة والعجب والحيرة؛ فما تعودت النساء في القرية أن يتزاورن في الصباح، فكيف بهذه الزيارة التي تقوم بها الحاجة بمبة إلى هذا البيت المتواضع؟ فما يزيد محمدين أبو علي على رجل طيب يملك فدانين اثنين وخمسة أولاد بين بنات ونساء وبنين، وهو بعد يزرع الفدانين بيديه؛ فالصلة إذن بين الحاجة بمبة وسيدة، صلة تقوم على العطف أكثر مما تقوم على الصداقة، وزيارة الحاجة بمبة لبيت محمدين في أي وقت، إنما تعتبر تنازلا يتلقاه أهل هذا البيت الطيب بكل امتنان وزهو، وزيارة سيدة أم عسل لبيت الحاجة أمر تستعد له سيدة استعدادا كبيرا، ثم هي لا تقوم بهذه الزيارة وحدها، إنما تحرص في غالب الأمر على أن تصحب معها ثلة من نساء القرية. وهذه الزيارات تتكرر مرات كثيرة في الأسبوع، في حين لا تتم زيارة الحاجة بمبة لسيدة إلا مرة في العام على الأكثر، ولا بد أن يكون هناك داع لتتم الزيارة؛ إذن فقدوم الست بمبة لا بد أن يكون مصحوبا بالخطير الجليل من الأمر.
قالت سيدة: أهلا ستي الحاجة، نورت. أهلا وسهلا، تفضلي.
अज्ञात पृष्ठ
ودلفت بمبة إلى البيت، ودخلت إلى القاعة التي تعرفها وقالت: كيف أنت يا سيدة؟
وأجابت سيدة: الله يبقيك ويطيل عمرك. دقيقة واحدة أحضر الحصير. - لا، سأجلس على المصطبة. - أهذا يصح يا ستي الحاجة؟! والله أبدا! حالا ...
وراحت ترفع صوتها، وهي تحضر الحصير من خارج الغرفة لتشعر الست بمبة أنها معها لم تتركها. وما لبثت أن عادت سيدة وفرشت الحصير على المصطبة المبنية من اللبن، وقالت: قهوة، عندنا بن يمني يستاهل حنكك. - اقعدي يا سيدة. - القهوة قبل أن أقعد. - اقعدي يا سيدة، أنا أريدك في شيء مهم. - يا ستي الحاجة من حقك علينا أن تأمري؛ لا ينسى المعروف إلا ابن الحرام. لماذا لم ترسلي إلي وأنا أجيء على عيني؟ - لا، أردت أن أجيء أنا إليك. - أهلا وسهلا، شرفت بيتنا. والنبي اتركيني دقيقة واحدة أحضر القهوة. - اسمعي يا سيدة، أنت تعرفين منذ متى وأنا متزوجة من الحاج. - نعم منذ أكثر من عشرين سنة. - أظن يا سيدة أن ليس في العالم واحدة فعلت ما أفعله أنا الآن. - خيرا يا ستي الحاجة.
وجذبت الحاجة بمبة نفسا عنيفا من أعماق أحزانها، ثم أطرقت لحظات وصمتت. واحترمت سيدة حزن الحاجة وصمتها فصمتت هي حتى عادت بمبة إلى الحديث: أنت تعرفين كم يشتاق الحاج إلى أولاد.
وأطرقت سيدة وتنهدت ومصت شفتيها وقالت: نعم يا ستي الحاجة، ربنا يكون في عونك. - الحاج الآن في الأربعين من عمره وهو ...
وقاطعتها سيدة قائلة: هل جربت التفاحة، سهلة، أقول لك ...
وقاطعتها الحاجة بمبة: أكثر من عشرين سنة أجرب يا سيدة. اسمعي الكلام لآخره ولا تقاطعيني. - أمرك يا ستي الحاجة. - الحاج لم يعد يستطيع صبرا، وهو محق ، فإن سنه لا تسمح له بأن ينتظر؛ بلغ من شغفه بإنجاب الأطفال أنه كان يريدني أن أذهب إلى مصر اليوم، وأعرض نفسي على طبيب.
ودقت سيدة صدرها، وكأنما طعن شرف الحاجة بمبة، وقالت سيدة: ماذا يا ستي الحاجة؟! طبيب رجل، يكشف عليك أنت، أنت يا طاهرة يا نظيفة! قطع الخلف وأيامه. أمن أجل العيال يكشف عليك رجل، رجل يا ستي الحاجة، رجل؟!
فقالت بمبة في أسى: لم أقبل يا سيدة، لم أقبل. ولكني أعرف زوجي فهو رجل غيور. - عارفة يا ستي الحاجة. - فقبوله أن يكشف علي رجل دليل على مقدار لهفته على الخلف. - لك حق يا ستي الحاجة. - رفضت، وقلت في نفسي ...
وصمتت الحاجة وأطلقت تنهيدة أخرى من صدرها، فما خففت التنهيدة شيئا. وكانت سيدة تتحرق شوقا لتعرف ما بنفس الحاجة. ولم تكمل الحاجة حديثها، بل إنها لوت طريقه في عنف يدعو إلى الدهشة، فهي تسأل سيدة: قولي لي يا سيدة، أيجري أحد على ابنتك صالحة؟ - نعم يا ستي الحاجة، ولكن ما المناسبة؟ - هل أعطى محمدين كلمة لأحد؟ - لا. - أنا أخطبها للحاج والي. - ماذا يا ستي الحاجة؟! ماذا قلت؟! - ما سمعت. أنا أخطب ابنتك للحاج والي زوجي.
अज्ञात पृष्ठ
كان الموقف أكبر من الدهشة من سيدة، وأكبر من الألم من بمبة؛ فلف المرأتين صمت امتزج فيه العجب الآخذ بالألم المرير، والتقت فيه دموع بدموع؛ دموع من أعماق الإنسانية الخالصة. وفهمت كل من المرأتين سر دموع الأخرى، وتمالكت الحاجة بمبة أمر نفسها سريعا وقالت: قلت له لن أذهب، ثم أدركت أنه سيتزوج، فقلت أزوجه أنا من امرأة أعرفها، خيرا من أن يحضر لي ضرة لا أعرفها، وتحاول أن تجعل من نفسها سيدة علي، فهي - في الغالب - ستكون أم العيال. أنا أعرف صالحة، إنها بنت حلال ...
وقاطعتها سيدة: خدامتك يا ستي الحاجة. - وهي أيضا قد تزوجت من قبل وخلفت وسنها معقول. هيه، ماذا قلت؟ - أمرك يا ستي الحاجة. - ستكون كابنتي تماما يا سيدة. - عارفة يا ستي الحاجة، عارفة. لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله.
الفصل الثاني
كان الحاج والي جالسا في دوار زين العابدين بك ينتظر نزوله من الطابق الأعلى. ولم يكن أحد يشارك الحاج والي في جلسته في الدوار، فهو وحيد. ولم تكن السعادة بادية على محياه، فهو متجهم، شارد الذهن، مفكر تفكيرا لا تلوح عليه بوادر هناءة أو رضا؛ فوجهه الأسمر مقطب، وشاربه الذي تعود أن يعتني به كل يوم عند الحلاق مهمل أشعث غاضب كصاحبه، حتى العمامة التي لا يلبسها الحاج والي إلا وهي ملفوفة مسبوكة مهندمة، ألقى عليها الحاج والي ظلا من تجهمه، فهي منداحة على رأسه، تكاد تتهدل أطرافها على وجهه. وفي عينيه السوداوين ظل من أسف وأسى، وفي جبهته العريضة غضون من الألم لا من الزمن، وفي فمه كلمة حبيسة لا يدريها ولا يعرف ما هي، ولكنه يعرف أسبابها ودوافعها. كيف يقول ما بنفسه؟ كيف يعبر عنه؟ لم يكن يدري. وأنفه الكبير بعض الشيء يجتذب أنفاسا عميقة، ولكنها لا تريحه، فما يلبث من حين لآخر أن يفتح فمه الصغير؛ فيلتقط من الهواء شهيقا عميقا يزفره في نفخة حانقة ضيقة ملول، فما يجدي الشهيق ولا الزفير ولا الأنفاس اللاهثة التي يجتذبها له أنفه.
ويأتي متولي الخادم إلى الحاج والي، فما يرفع عينيه إلى متولي، ولم يكن متولي ليرضى هذا منه؛ فقد تعود من الحاج والي مداعبته، أو كلمة تحية إن كان جالسا إلى البك، أما أن يلاقيه بهذا الصمت، بل بهذا الإهمال، فأمر لا يمكنه السكوت عليه؛ فإن الحاج والي لا يفعل هذا إلا إن كان في حال من الضيق شديد. وقبل أن ينطق متولي يكون الحاج والي قد شهق من الهواء شهقة طويلة زفرها، وقد ضم شفتيه بعض الشيء فخرج الهواء كصفير فاشل حانق. وقال متولي: أعوذ بالله! لماذا هذا يا حاج والي؟! هون عليك يا شيخ، تبيت نارا تصبح رمادا. ما الذي يضايقك؟
وكأنما لم يكن الحاج والي يتوقع أن يتبين متولي حقيقة مشاعره، فهو يقول في أسى: الهم كثير والله يا متولي. النهاية الحمد لله على كل شيء. - ماذا، ماذا بك؟ عريس جديد؟ والمال - والحمد لله - موفور وشباب وصحة، وكل ما تشتهيه تجده. - اسكت يا متولي، اسكت. لا يعرف النفوس إلا خالقها. اسكت لا أراك الله ما أنا فيه. - يا رجل توكل على الله. هل أحضر الشربات؟ - بل القهوة يا متولي، ولتكن بغير سكر. - يا رجل أعوذ بالله! أهو حسد ما أصابك؟ ماذا بك قل لي؟ إنك منذ فترة طويلة مهموم، وقد حسبت أنك حين تتزوج سيزول عنك الهم، فإذا أنت تصبح تعسا. أين الضحكة الخالية من التفكير؟ أين النكتة الرائعة من كل كدر؟ أين أنت يا حاج والي؟ - لا عليك يا متولي، لا عليك. هكذا أمر الله. - يا رجل أنت متزوج من قريب، أهذه حال رجل تزوج من قريب؟ - أمر الله يا متولي. - لا حول ولا قوة إلا بالله! ولكني رغم هذا سأحضر لك الشربات. لن أتأخر. شربات، شربات، مهما تكن مهموما، شربات.
وخرج متولي، وخلت الغرفة بالحاج والي، وثقل عليه الصمت، وثقل عليه التفكير الصاخب، وود لو عاد متولي ولو ليشقشق بهذا الحديث الذي تعود أن يشقشق به، ولكن متولي آثر أن يتركه، ولو كان يعلم أن حديثه الفارغ أهم عنده من الشربات الذي يصر على إحضاره ما تركه. وتأخر متولي، وسمع الحاج والي صوتا واهنا، ينبعث غير بعيد من مجلسه، ونظر فرأى مصيدة فيران فاغرة فاها، في شراهة يقف حيالها فأر يلوب حواليها، مصطنعا الذكاء والحذر، مقدما حينا على اللقمة التي تبدو للنظرة المجردة سائغة سهلة المنال، محجما حينا آخر، وكأنما يريد أن يعرف ماذا ستفعل اللقمة أو المصيدة، إن هو أعرض عنها ولم يقدم. وانشغل الحاج والي بالفأر واللقمة والمصيدة، وأمعن الفأر في مداورته، ثم هاجم اللقمة فجأة، وكأنما أراد أن ينتهز من المصيدة غفلة ويختطف اللقمة، ولكن المصيدة لم تغفل، فما هي إلا أن أصبح الفأر جميعه داخلها، حتى أطبقت عليه فمها الشره. ونظر الفأر إلى باب المصيدة نظرة حسيرة، ثم عاد إلى اللقمة فأكل جزءا منها، ثم ما لبث أن عافها. ونادى الحاج والي: يا متولي، يا متولي.
ولم يجب متولي النداء، وإنما دخل الغرفة زين العابدين بك؛ رجل في أواسط العمر، أبيض الوجه، سمح الملامح، يبدو عليه حرص على أن يأخذ من الحياة أحلى جوانبها، فهو متهيئ دائما لهذا الجانب الحلو من الحياة بابتسامة مشرقة لا تفارق وجهه، وجسم مليء منعم لا يحب أن يمنع نفسه من لذائذ الحياة. وقد كان زين العابدين بك في مثل سن الحاج والي، وإن كان مبسوط الجسم عريضه، وكان الشيب قد بدأ يرود فوديه في تؤدة وهدوء. وقد كان شأنه في إنجاب الذرية شأن الحاج والي، فهو أيضا لم ينجب أطفالا، وقد حاولت زوجته قدر طاقتها أن تنجب له بنين أو بنات؛ ولكنها لم تفلح. ويئس زين العابدين ولم تيأس زوجته. وقد رأى زين العابدين ألا يجعل يأسه يعوق أملها، فهو يترك لها مطلق الحرية أن تفعل ما تشاء من عرض على أطباء، إلى استماع إلى وصفات بلدية، إلى غير ذلك لا يقف دون مطلب من مطالبها، وإن كان هو قد شغل نفسه بغير ذلك، فهو مسرف غاية السرف في إمتاع نفسه، لا يعوقه عما يريد شيء، على استعداد دائما أن يقترض ويبيع ليفعل ما تصبو إليه نفسه؛ فهو كثير الولائم، كثير الذهاب إلى القاهرة، يحب لياليها جميعا والحمراء منها خاصة. ولولا أن الفلاحين قد ثاروا على الإنجليز، فقطعوا الخطوط الحديدية التي تصل القرية بالقاهرة؛ ما استقر زين العابدين في القرية. إلا أن الثورة اندلعت لا يقف في سبيلها شيء، وانقطعت الأسباب بالقاهرة، وكان زين العابدين بالقرية فأرسل فلاحين يشاركون في قطع الخطوط، وجعل أمره إلى الله، وأقام بالبلدة. وحين عسكر الإنجليز على مشارف القرية، أبى أن يتصل بهم، برغم الجهد الجهيد الذي بذله كبيرهم في الاتصال به، ولم يكن ذلك صادرا إلا عن مشاعره الصادقة. وراح الإنجليز يحاولون إصلاح الخطوط المقطوعة؛ فلا يجدون من الفلاحين إلا ازدراء، وقد حاولوا أن يغروا زين العابدين، بأنهم سيسعون له أن ينال رتبة الباشوية؛ فلم يكن هذا الإغراء كافيا، ورفض أن يعاونهم، وإن كان في دخيلة نفسه يتحرق شوقا أن يتم إصلاح الخطوط الحديدية ليجد وسيلة إلى القاهرة. لم تكن زوجته تعلم عن حياته في القاهرة شيئا، بل هي لا تعلم أنه يبيع من أرضه شيئا، كل ما تعرفه من شأنه أن تطلب منه مالا لتذهب إلى الطبيب، أو لتشتري ما يلزم لوصفاتها فلا يبخل عليها.
وقف الحاج والي يسلم على زين العابدين، فعاجله هذا قائلا: مبروك يا رجل.
وقال الحاج والي حسيرا: لا تهنئني يا زين العابدين بك. - لماذا؟! - لو تعرف ما أنا فيه ما هنأتني. - خيرا يا رجل، ماذا بك؟ - لا والله ليس خيرا أبدا. - قل ماذا حدث؟ - لا شيء. تزوجت. - وهل هذا يحزنك؟!
अज्ञात पृष्ठ
ويدخل متولي حاملا الشربات، ويقول زين العابدين: أحسنت صنعا يا متولي.
وقال متولي: تفضل يا حاج. مبروك.
وأخذ الحاج الكوب ووضعه على المنضدة، وقال زين العابدين: ماذا بك؟
وقال متولي: يا سيدي إنه منذ جاء وهو بهذا النكد.
وقال زين العابدين: عجيبة!
وخرج متولي وهو يقول: عجيبة!
والتفت زين العابدين إلى الحاج والي: ما لك يا حاج والي؟ - ألم تعرف كيف تزوجت يا زين العابدين بك؟ - نعم عرفت. - عرفت أن زوجتي هي التي خطبت لي؟ - نعم، ولا أكتمك؛ لقد اندهشت لهذا، وكنت أريد أن أسألك منذ سمعت، ولكنك لم تأت. - خجلت أن ترى وجهي. - ولماذا تخجل؟ - ما الذي يجعل امرأتي تخطب لي؟ لا بد أنها رأت حرصي الشديد على الإنجاب. - نعم، لا شيء في ذلك. - أليس هذا مخجلا؟ - لماذا؟! - كيف سولت لي نفسي أن أهين كرامة زوجتي إلى هذا الحد؟
يا سعادة البك أنت سيد العارفين، ألا تتصور مقدار الألم الذي عانته امرأتي، وهي تخطب لي امرأة غيرها؟ أقسم بالله يا سعادة البك إنني منذ جاءت زوجتي، وأنا أستحي أن أكلمها أمام الحاجة.
وصمت زين العابدين، وأحس الحاج والي ببعض الراحة، وهو يلقي هذا الحديث لأول مرة إلى مسمعي إنسان واسترسل: أكل هذا من أجل الأولاد؟! - وهل الأولاد شيء بسيط يا حاج والي؟ - والله يا سعادة البك أصبحت لا أدري. - اسمع يا حاج والي، لقد سمعت عن زوجتك الحاجة أنها عاقلة وكريمة، ولكنها بما فعلته جعلت نفسها مثلا أعلى فأكرمها. - أكرمها! أكرمها يا سعادة البك! إنني لا أدري كيف أعاملها. يتهيأ لي أحيانا أنها ليست من البشر، ولا أدري كيف أعامل الملائكة. لقد جعلتني لها عبدا. أنا عارف يا بك، أنا عارف بشعور المرأة وبغيرتها، عارف. كيف أستطيع أن أوفيها حقها؟ - أنت محق يا حاج والي، الحاجة بمبة تستحق ما تقوله عنها. - ولكن ... ولكن أنا ... أنا خجلان يا سعادة البك. - أخطبت لك دون أن تخبرك؟ - أخبرتني بعد أن خطبت. - وماذا فعلت؟ - فعلت ما لا زلت أخجل منه. - ماذا؟ - ثرت، ولكنني في دخيلة نفسي كنت مسرورا. - كيف؟ - غضبت. قلت لها أتزوج؟! هذا كلام فارغ ... و... و... ولكن لم أفلح في إخفاء حقيقة نفسي. إنها زوجة عشرين سنة وذكية؛ أدركت أنني مسرور، فإذا هي تقول في كل هدوء، سأشتري لعروسك بعض، ملابس وتتزوجها في الأسبوع القادم إن شاء الله. وكأنما ألقت على رأسي ماء باردا، فإذا أنا صامت وكأني مستسلم. ثم قمت وخرجت؛ فإذا جميع من في البلدة يعرفون أمر الخطبة، فهم يهنئونني، وأرى في عيونهم ابتسامة تجمع بين التعجب والحسد، يخيل لي أنهم كلهم يتمنون أن تكون زوجاتهم مثل زوجتي، مع أنهم جميعا آباء، لهم من البنين ما تضيق به البلدة. لم أجد من أشكو له همي إلا أنت، ولكني كنت خجلا منك، فغبت عنك ثم لم أجد بدا من أن أتغلب على خجلي، وإلا انفجرت بالألم الذي أعانيه فجئت، وارتحت أن قلت لك ما قلت يا زين العابدين بك. أبقاك الله لنا. - يا رجل، المسألة لا تستأهل كل هذا. - بل تستأهل يا سعادة البك، ولكن ماذا أفعل؟ لم تعد هناك فائدة. أيستحق الأطفال كل هذا؟ أيستحق الأطفال أن تطعن امرأة صالحة كزوجتي كرامتها كامرأة، وتتجاهل أنوثتها إلى درجة أن تخطب لزوجها امرأة لتنجب له أطفالا؟ ماذا أصنع بهم؟ لماذا كنت شديد الرغبة في الإنجاب إلى درجة أن جعلتها تقتل أنوثتها بيديها، وكأنها تنتحر؟ ماذا سأصنع بهم؟ وماذا سيجري في الدنيا إذا لم أنجب أنا أطفالا؟ هل ستتوقف الدنيا عن الدوران؟ ماذا أصنع بهم؟ أرى من عندهم أطفال يضيقون بهم، وأراهم إذا مرض أحدهم يكاد الأب يموت من قلق وخوف وشفقة! ثم إذا صح الطفل المريض؛ وجدت الأب ضيقا غاية الضيق بما يحمل من مسئولية. لا تؤاخذني يا سعادة البك، فأنت لم تنجب. أي شعور عجيب يشعر به الأب فيجعلني حريصا كل هذا الحرص على أن أنجب؟ أنت لا تدري شعوري هذا، أم تراك تدري؟ - بل لا أدري، حقا أنا لا أدري. ولا أكتمك، فقد كنت أحب أن أدري. - أهو حرصنا على أن يظل اسمنا من بعدنا؟ - وماذا يهم من بعدنا إن بقي اسمنا أو لم يبق؟ - فماذا إذن؟ أي شيء عجيب في هذه المخلوقات الصغيرة الجبارة يجعلنا نحبها ونحرص عليها، ونتوق إلى أن نصبح آباء لها؟ - لعلنا نحب فيهم الحياة يا حاج والي، فهم حياة جديدة. وإقبال الأطفال يشعرنا - أو هو يشعر الآباء - أن الحياة ما زالت تستطيع أن تجدد نفسها.
وماذا نحب في هذه الحياة؟ هذه الحياة التي لا نستطيع فيها أن ننال ما نهفو إليه إلا على أشلاء أحبائنا وكرامتهم! - ليس هناك كثيرون خطبت لهم زوجاتهم يا حاج والي. - نعم، ولكن هناك كثيرين سعوا إلى الإنجاب بشتى الوسائل، وسهروا الليالي الطوال لتحقيق هذه الأمنية. لقد كانت زوجتي شريفة فيما فعلته؛ سمعت عن نساء أخريات بذلن أنفسهن لغير أزواجهن ليهبوا لأزواجهن أطفالا، أحبوا أزواجهن إلى درجة الخيانة من أجلهم. هل يستحق الأطفال هذا؟ هل يستحقون؟ أم نحن مخدوعون؟ أنا حائر يا سعادة البك، حائر. ماذا في هذه المخلوقات الصغيرة؟ أي سحر فيها؟ إنهم أقوى من الحياة يا زين العابدين بك، أقوى من الحياة؛ يهون على المرأة أن تموت ولا ترى زوجها مع غيرها، ولكن زوجتي خطبت لي، خطبت لي؛ لأنها أحست إلى أي مدى أريد أن أرى لنفسي أطفالا. هذه المخلوقات اللعينة، اللعينة، اللعينة. - ولكنك مع هذا تريد أطفالا يا حاج والي.
अज्ञात पृष्ठ
وأطرق الحاج والي لحظة، وخيل إليه أن سحابات من ضباب تغشى ناظريه، ثم قال في أسى: نعم يا زين العابدين بك، نعم، إني أريد أطفالا.
الفصل الثالث
تعتبر الحاجة بمبة أمهر سيدة بالقرية في رؤية المستقبل في الفنجان، وطالما قصد إليها نساء القرية لتطلعهن على ما تخفيه لهن الأيام، ويا طالما رأت بقايا القهوة في فنجانها، ويا طالما رأت الأطفال قادمين إليها لا تحصيهم عددا. ها هي ذي اليوم ترى أن تحقيق أمنيتها قريب؛ فإن الفنجان لم يخبرها إن كانت هي التي ستلد هؤلاء الأطفال، أم أن غيرها ستنجبهم لها، وإنما غاية ما أنبأها به أن الأطفال سيفدون إلى البيت؛ وهكذا اقتنعت أن فنجانها لم يخطئ. وها هي ذي تنتظر الأطفال من صالحة، ولكنها غير سعيدة، يزيد من تعاستها أنها مصممة على أن تبدو سعيدة. وكانت الحاجة بمبة بيضاء، في خدودها حمرة، وفي وجهها طيبة واستدارة، ترهل جسمها ولم يفقد انسجامه، وهي صاحبة حديث شهي، سهل المأخذ، وهي قريبة الغور سمحة، ولكنها قادرة على أن تحسم أمورها، قادرة أيضا على إنفاذ ما تريد، وقد أعجب بها الحاج والي، وهو طالب في الأزهر الشريف، وتزوجها يوم أزمع البقاء في القرية، بعد أن ظلت مخطوبة له مدة أربع سنوات كاملة. وقد شهد العام الأول من زواجهما صفاء وحبا، أما العام الثاني فقد كدره لهفتها أن تصبح أما، وزاد هذه اللهفة تساؤل قريباتها عما أخرها عن الإنجاب، ثم صارت السنوات التالية جميعا كفاحا من أجل الإنجاب، وقد كان العلم في ذلك الحين يضرب في غياهب من الجهل، ولم يكن من المعقول في ذلك الحين أيضا أن ترى الحاجة بمبة غير النساء؛ فزوجها رجل صارم، وقد زادته تربيته الدينية صرامة. ولم يكن في الحجاب الذي يفرضه المجتمع على النساء في ذلك الحين أي عجب، بل إن النساء حتى تلك الأيام لم يشعرن بأية غضاضة أو ضيق. وقد كانت الحاجة بمبة من أولئك النسوة اللائي يرين أن أوامر أزواجهن مقدسة لا سبيل إلى التهاون فيها. وكان الحاج والي يحب زوجته، وما كان ترهلها يزيده إلا حبا لها؛ فقد كان الجمال كل الجمال أن تكون المرأة سمينة، حتى لا يكاد زوجها أن يحيطها بذراعيه. ولولا رغبة الحاج والي اللاهفة في أن ينجب أطفالا لما فكر في الزواج، فقد ازدادت زوجته جمالا على جمالها في السنوات الطويلة التي عاشتها معه، فإنه لم يكن يأخذ عليها يوم تزوجها إلا أنها نحيفة القوام.
ولم يكن الحاج والي من هؤلاء الرجال الذين يميلون إلى العنف في معاملة زوجاتهم، بل كان رقيق المعاملة، يحب حديث زوجته ويأنس إليه. وكم تمنى أن يتخلص من رغبته في إنجاب أطفال، بل لكم خيل إليه أنه تخلص من هذه الرغبة، ولكنها ما تلبث أن تثور عاصفة في نفسه. وقد أخذ نفسه منذ تزوج صالحة أن يزيد من اهتمامه بالحاجة بمبة؛ فهو لا يخرج من البيت إلا بعد أن يجلس إليها، ويشرب معها قهوة الصباح.
وقد بكر في يومه هذا ونظر إلى الشباك، فوجد السماء متجهمة صلبة الملامح.
وكانت النخلات التي يطل شباكه عليها تهتز في غير سرور، فقال في نفسه: أهذا ربيع؟! اللهم اجعله خيرا، ثم صلى ركعتي الصباح. والتفت إلى صالحة يسألها: لماذا لا تصلين الصبح يا صالحة؟! - سأصليه عندما تخرج يا عم الحاج. - أتصرين على أن تقولي يا عم الحاج؟! - تعودت قولها. - إن أردت الحق، فأنا أحب أن أسمعها منك. لا أدري لماذا رغم أنها تجعلني أحس أنك صغيرة، وأني كبير، ولكني أحب أن أسمعها منك، لا تغيريها.
وضحكت صالحة وهي تقول: إني لا أستطيع أن أغيرها.
لكن الحاج والي تجهم لحظة وقال: ألم تعلق الحاجة بمبة عليها بشيء.
ودهشت صالحة بعض الشيء وقالت: تعلق على ماذا؟! - على قولك يا عم الحاج. - وبماذا يمكن أن تعلق عليها؟ - قد ترى بها تدليلا أو شيئا من هذا القبيل. - لا تخش شيئا، فإن أحدا لا يرى فيها تدليلا إلا أنت. - لا تؤاخذيني يا صالحة؛ فالحاجة بمبة ست طيبة، ولا أريد أن أغضبها. - يا عم الحاج لا تخش شيئا، فأنا أيضا أحبها وأحترمها من أجل خاطرك، ومن أجل خاطرها هي أيضا، فأنا أعرف أنها لا تكرهني. أو هي على الأقل لا تظهر لي إلا كل خير، فلماذا أغضبها؟ - الله يسترها معك يا بنتي. - إنني أعمل لها كخادمة؛ لا أعصي لها أمرا. ولكني أحس أن في هذا راحتي ما دام يرضيك. - ولكنك لست راضية كل الرضا. - كل امرأة تريد أن تكون ست بيتها. - ألا يكفيك أن تكوني ست هذه الحجرة؟ - يكفي أن أعيش معك يا عم الحاج. - الله يرضى عليك يا صالحة. لقد تأكدت أن الله راض علي منذ عرفت حقيقة أخلاقك، وازددت تأكدا من رضاه سبحانه وتعالى يوم بشرتني بما تحملينه لي في أحشائك من خير. - أنت رجل طيب يا عم الحاج. - أفوتك بخير. - مع السلامة.
وخرج الحاج والي إلى بهو بيته، فوجد الحاجة بمبة جالسة في مكانها وأمامها معدات القهوة فبادرها: صباح الخير يا ستنا. - صباح الخير يا حاج، أهلا. - هل شربت القهوة؟ - من غيرك؟! لا والله لا أذوقها من غيرك أبدا. - والله يا حاجة لا أجد للقهوة طعما إن لم تكن بيدك.
अज्ञात पृष्ठ
وبدأت الحاجة بمبة تعد القهوة وهي تسأله: إلى أين العزم إن شاء الله؟ - إلى الشيخ حسنين المحلاوي؛ فقد وعدني اليوم أن أزوره وأشرب عنده القهوة وأتقاضى ديني. - أتذهب إلى العشماوية في هذا اليوم العاصف؟ - يا حاجة بمبة نحن فلاحون، إذا قبعنا في بيوتنا من أجل الجو تعطلت أعمالنا. - ربنا يكون في عونك يا حاج والي.
وكانت القهوة قد أعدت، وأخذ الزوجان يحتسيانها وفي ذهن كل منهما أفكار تضطرب يحاول أن يسترها عن رفيق عمره ما وسعه الجهد. وقال الحاج والي: لو كانت القطارات تسير لوجدت الجرائد في المحطة. - لا عليك، فالإنجليز يعملون بهمة في إعادة الخطوط الحديدية. - والله يا حاجة لا يضايقني من هذه المهمة إلا أنني سأمر على الإنجليز. - يا أخي ما لك وما لهم؟! - يكفي أنني سأنظر إلى وجوههم المسلوخة. - إذا وصلت إليهم فانظر إلى الجهة الأخرى. - على رأيك، أفوتك بعافية. - انتظر. - ماذا؟ - سأقرأ لك الفنجان. - كدت أنسى والله يا شيخة. - انتظر، أرى كأنك في طريق ستحصل منه على مال. - لا يا حاجة هذه ليست في الفنجان، لقد أخبرتك الآن أنني سأتقاضى ديني من الشيخ حسنين ... - انتظر، وأرى كأنك جالس في وسط الطريق. - إني سأقطع الطريق كله جالسا؛ لأني سأمتطي الحمار.
وضحكت الحاجة بمبة وهي تقول: لا بد أنك ستقع من على الحمار يا حاج والي، لأني أراك جالسا على الأرض!
وضحك الحاج والي قائلا: هذا هو الجديد، لا شك أن هذا هو الجديد. لم يبق إلا أن أقع من على الحمار. - هذا كلام فنجانك. وأراك منصورا والله يا حاج والي، إن شاء الله أنت منصور على أعدائك يا حاج. - ربنا يسمع منك يا حاجة، فأنت طيبة ونفسك طاهر. أفوتك بعافية. - عافاك الله.
وخرج الحاج والي إلى الطريق وقد ركب حماره، وكان الفلاحون في طريقهم إلى حقولهم، وفئوسهم على أكتافهم، وفي أيديهم دوابهم. وتبادل الحاج والي التحايا مع الفلاحين، وقد كان الحديث بينهم عن الثورة المشتعلة في القاهرة والريف، فقد كانت تسيطر على سماء مصر في ذلك الحين أجواء من الحيرة والاضطراب.
أما أبناء مصر أنفسهم فقد كانوا بعيدين عن الحيرة كل البعد؛ فقد عرفوا الغاية والطريق، فهم ينشدون الحرية، والثورة هي سبيلهم إليها، فهم يشعلونها في كل ما تقع عليه أيديهم. تأتيهم الأنباء من مصر فيها قهر من المحتل، وعنف، وعسف، وظلم؛ فلا يزيدهم شيء من هذا إلا إصرارا واندفاعا. فهم التيار الآخذ لا يصده عن متمناه شيء. سمعوا عن اعتقال سعد وصحبه فثاروا، وسمعوا عن مأمور الضبط الذي قبض على الأجانب المستكبرين بالحماية الإنجليزية فأجرى معهم التحقيقات الرسمية ووقعها باسمه ثم استقال من الحكومة؛ فشعروا أن شباب مصر يستطيعون أن يبلغوا الآمال وإن غاب عنهم القادة والزعماء. وكانت الثورة في داخل النفوس، فهي نيران. وكان وجود الإنجليز وحده كافيا أن يمد هذه النيران بوقودها، فهي متأججة دائمة الأوار.
وانقطعت الأنباء عن الفلاحين في قراهم بعد أن قطعوا الخطوط الحديدية، ووقفت السلطات الإنجليزية تعيد الخطوط إلى أمكنتها وتمنع الحوادث؛ فسكن الفلاحون ينتظرون. ولكن الثورة في نفوسهم لم تسكن، فلا حديث لهم إلا عما كان من الحوادث وما يرغبونه من مستقبل. وكان الحاج والي وهو في طريقه إلى العشماوية لا يكاد يمر بجماعة من الفلاحين في طريقهم إلا وسمع كلمة «سعد» أو كلمة «الإنجليز» أو كلمة «الثورة» أو كلمة «القضبان»، لم يسمع الحاج والي فيما سمع كلمة السماد، أو القمح، أو الأرض، أو كلمة من هذه الكلمات التي تعود أن يتبادلها أبناء القرية في مألوف حياتهم.
وبلغ الحاج مشارف المحطة، وعبر مواضع القضبان الحديدة المنزوعة، متعمدا أن يلقي بنظره بعيدا عن الإنجليز. وما كاد يبتعد عنهم حتى أطلق تنهدة مستريحة، وهو يقول: الحمد لله.
وكأنه خرج من مأزق حرج. وبلغ الحاج والي مقصده وتقاضى دينه، وعاد طريقه. وعبر موضع القضبان مرة أخرى وأوشك أن يبتعد ويطلق التنهدة، ولكن طلقا ناريا كان أسرع من تنهدته! وفي لحظة خاطفة كان الحاج والي جالسا في الطريق فوق الحمار المتهاوي تحته، ومر بذهنه أنه أصيب؛ فلبث مكانه ينتظر أن ينبثق الألم من أي مكان في جسمه، وطال لبثه، ولكنه لم يتألم، فأخذ يتحسس ما تصل إليه يده، فعادت إليه يده كما أطلقها لم يعلق بها شيء يؤكد شكه، ففكر أن يعتدل؛ فحرك جسمه فتحرك معه، وتهيأ ليقف. وأخذ يرسم حركاته قبل أن يتحركها؛ فراح جسمه يطاوعه في كل ما يحاوله حتى استقام أمره أخيرا واعتمد رجليه، ووقف. ونظر إلى حيث كان جالسا فتبين الحادث بأكمله؛ لقد أطلق الإنجليز الرصاص على الجزء الأعلى من ذيل الحمارة. لو لم يكن الحاج والي مشغولا بما أصابه، ولو لم يكن ضجيج الذهول والاضطراب محيطا به من كل جانب؛ لسمع القهقهات العالية التي كان الإنجليز يطلقونها بعد عيارهم. وقصد إليهم الحاج والي في ثورة عاتية يمسك بأطرافها في نفسه، خوفا من عيار ناري آخر يصوب إليه هو في هذه المرة، وما أرخص الأرواح عند الإنجليز! وما ضر أن يموت هو كما مات الحمار! فما كانوا يقيمون كثير فرق بين إنسان مصري وحمار. قصد إليهم يفكر فيما يقول أو يفعل، وتقدم إليه قبل أن يصل شاب مصري يرافقهم من قبل مصلحة السكك الحديدية وقال: على رسلك يا شيخ.
وقال الشيخ في غضبته: أيرضي الله هذا؟ - وهل يعرف هؤلاء الله؟! - ماذا فعلت حتى يفعلوا بي هذا؟ - لا شيء، لقد تراهن أحدهم مع آخر على أنه يستطيع أن يصيب الحمارة التي تركبها دون أن يصيبك، وها هو ذا يضحك لأنه كسب الرهان. الحمد لله أنه كسب الرهان. - الحمد لله؟! - لو كان خسر الرهان؛ لخسرت أنت حياتك. - لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
अज्ञात पृष्ठ
ونادى أحد الإنجليز الشاب المصري فذهب إليه، وأوشك الحاج والي أن ينصرف، ولكن الشاب ناداه: انتظر يا عم الشيخ.
فانتظر الحاج والي، وجاء إليه الشاب وفي يده جنيه ذهبي وقال: خذ هذا. - ما هذا؟ - يقولون إنه ثمن الحمار.
وقال الحاج والي في غيظ: قطعت يدي إن أخذته. - خذه بالله؛ فإن أولاد الكلب هؤلاء لا يرحمون وقد يغضبون ويطلقون عليك أنت النار. وما أسهل أن يقولوا بعد ذلك أنك حاولت أن تعتدي عليهم. خذ ... خذ ...
وأمسك الحاج والي الجنيه الذهبي، وألقى به إلى الأرض في شيء من الخوف، وفي كثير من الحزم، مراعيا أن يسقط الجنيه بحيث يرى الإنجليز أنه رماه، وبحيث يجدونه أيضا إن تفقدوه. وأولى الجمع ظهره وأخذ سمته إلى القرية منتظرا في الخطوات الأولى أن ترديه رصاصة محكمة التصويب فيقول في نفسه: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله». ويملأ نفسه شعور بالكرامة، فهو يستأني في خطوه، وكأنما يتحدى، حتى إذا وثق أنه صار بمنأى عن مرمى الرصاص منهم؛ سار طريقه في خطوات متفلتة يحمد الله أن نجا، يملؤه شعور بأنه انتصر، ويملؤه شعور آخر بأنه مظلوم، تختلط في نفسه ألوان من الغيظ ومشاعر من العزة.
الفصل الرابع
لم يكن بيت زين العابدين بك باذخ الفخامة، وإنما كان رحب اللقاء تستقبل الداخل إليه شرفة واسعة ليست مرتفعة عن الأرض إلا ببعض درجات قلائل، ثم هي تفضي إلى بهو كبير تحيط به من الجانبين حجرات واسعة للاستقبال، وأما الطابق الأعلى منه فهو حجرات للنوم.
وتحرص بهية هانم زكي على العناية بالمنزل بغاية ما تستطيع من نظافة، وإن كانت الفيران كثيرا ما تعدو على نظافتها بما لا تحب، فهي تطاردها ما وسعها الجهد؛ فبهية هانم سيدة نشأت في بيت النظافة فيه قطعة من الدين، والدين فيه هو كل شيء. فهي لم تقل يوما لزوجها إلا ما يرضيه؛ شأنه أن يأمر، وشأنها أن تطيع، دون أن تحاول تعليل أوامره أو مناقشتها. ولولا ما يشغلها من إنجاب الأطفال لسعدت بحياتها في ظله كل السعادة، فما ينقصها من حياتها شيء إلا أن تصبح أما، فهي تسعد حين تنظر إلى المرآة غاية السعادة، إنها جميلة القسمات؛ فم متسع بعض الشيء، يعلوه أنف صغير، تحيط به وجنتان فيهما امتلاء وفيهما نعومة وإشراق، يغطي الشعر الأصفر أذنيها الصغيرتين، بادئا من رأس متسع، تاركا بينه وبين العينين السوداوين جبهة صافية عريضة. وبهية ممتلئة القوام في غير إفراط، وإنما هو القوام كما يشتهيه زوجها طولا وعرضا. ولم تكن بهية قد أدركت الخامسة والثلاثين من عمرها؛ وهكذا كان أملها في الإنجاب تمهد له هذه السن الباكرة أن يزدهر ولا يتضاءل.
كان الوقت مساء، وقد صعد زين العابدين مبكرا من الطابق الأدنى، وقال لها مبتسما: هيه، ما رأيك لو سافرنا إلى مصر في باكر؟ - صحيح، هل أصلحت السكة الحديد؟ - سيمر بنا أول قطار إلى مصر صباح غد. - ولكن لي شرط. - ألك شروط أيضا؟ - شرط واحد. - آخذك معي إلى مصر لتري أباك وأمك، وتملي شروطك أيضا. - قلت لك إنه شرط واحد. - أمرك يا ستي. قولي شرطك. - أذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ. - ماذا؟! - دكتور مشهور في مصر سمعت عنه من زوجة مأمور المركز؛ ظلت عشر سنوات بلا خلف، حتى كتب لها الدكتور محفوظ دواء فأصبح لها ولد وبنت. - أمرك يا ستي، أمرك. ولكن لي أنا الآخر شرط. - أمرك. - لا تطلبي مني أن أقيم معك في بيت والدك. - لماذا؟! - لا أرتاح هناك. - أمرك. - اتفقنا.
وكان الصباح، ونزل زين العابدين إلى الطابق الأسفل بعد أن أوصى زوجته ألا تتأخر في إعداد الحقائب. وكان في انتظاره الحاج والي الذي جاء بناء على موعد سابق. - صباح الخير يا حاج والي. - صباح الخير يا سعادة البك. - هيه، هل أحضرت المبلغ؟ - المائة جنيه معي، إلا أن لي كلمة. - لا تقلها. - لا بد أن أقولها. - يا حاج والي إن لم أتمتع بمالي فلمن أتركه؟ ها أنت ذا ترى، لا ولد ولا بنت. - يا سعادة البك العمر أمامك طويل، وقد بعت حتى الآن ما يقرب من الخمسين فدانا، ماذا تفعل غدا إذا رزقك الله الولد أو البنت؟ - هل كان أحد يصدق أنني سأخلف؟ ها أنا ذا أنتظر مولودي. اعمل معروفا يا زين العابدين بك، كفاك بيعا. - ربنا يسمع منك يا حاج. لك حق من يدري، فها نحن أولاء سنذهب إلى الدكتور نجيب محفوظ في القاهرة. - إن شاء الله ربنا يستجيب لدعائنا. - ربنا يهيئ الخير يا حاج. - على بركة الله، تفضل المبلغ. - العقد الذي معك سليم؟ - نعم، أبقاك الله. نحن جميعا نشهد لك بأن بيوعك شريفة، وعقودك نظيفة والحمد لله. - الحمد لله. - أستأذن أنا. - مع السلامة يا حاج والي. - وقام الحاج والي وخرج، وظل زين العابدين وحده يفكر فيما قال له الحاج، ثم ما لبث أن أبعده عن ذهنه، وقام إلى شرفة داره يذرعها في انتظار موعد القطار، وألقى نظرة إلى الشجر الذي يحيط ببيته، فوجد طيورا كثيرة مطمئنة الجلسة فوق أعرافه؛ ما الذي يمسك بهذه الطيور هنا؟ لماذا لا تذهب إلى القاهرة ولها أجنحة؟ أهو الأمن الذي يشيع حول بيته، فهو لا يصيد الطير، فليس ثمة صوت قذيفة يسمع؟ وهل يكفي الأمن حتى تستقر الطير فوق أشجاره؟ ما لها لا ترود السماء والأشجار؟ إنها غبية هذه الطيور ، غبية.
ومال زين العابدين بك فجأة فأمسك بحجر وألقاه على شجرة حافلة بالطير؛ فانبعث الحمام واليمام صاعدا في السماء، وحوم مرة ثم أتبعها بأخرى، ثم عاد إلى الشجرة، واطمأن به المقام، وزين العابدين ما يزال يقول: غبي هذا الطير، غبي.
अज्ञात पृष्ठ
حان موعد القطار، ونزلت بهية هانم تتقدمها الحقائب. واستقل الزوجان العربة إلى المحطة، وأقبل القطار بعد قليل، بطيئا في قدومه، وكأنه يتحسس طريقه ليستوثق أن الإصلاح قد تم بإتقان. وحين بارح القطار المحطة بطيئا، نظر زين العابدين إلى السماء، وارتاحت نفسه حين رأى يمامة تسير بجانب القطار وكأنها تسابقه، ثم ما لبث أن انشغل عن السماء بالأرض، وعاد ينظر إلى الطريق الذي انقطع عن السير فيه أشهرا طوالا، وشاركته بهية هانم في الصمت والنظر إلى الطريق حتى إذا وصلا إلى القاهرة طلبت بهية في تردد أن يذهبا إلى الطبيب أولا ما داما قد وصلا في موعد مناسب، والتقى طلبها برغبة زين العابدين الذي أراد أن ينتهي من هذه المهمة ليفرغ بعد ذلك إلى القاهرة التي بلغ شوقه إليها أقصى مداه. وتم لهما ما أرادا، وعادا من عند الطبيب، وقد كتب الدواء للست، واستقبلت التذكرة بأمل عريض مشرق، واستقبلها زين العابدين كما تعود أن يستقبل كل وصفة جديدة يجيء بها إلى زوجته.
واشترى لها الدواء، وذهب بها إلى بيت أبيها، وقبل أن يدخل قال سائق العربة الأجرة: هل أنتظر سعادتك؟
وبدون وعي قال زين العابدين: نعم.
وصعد فأدى زيارة عاجلة ثم استأذن وخرج، إلى القاهرة.
كان «بار الأنس» هو البيت الحقيقي الذي يقطنه زين العابدين حين يأتي إلى القاهرة، وكانت صديقته فاطمة العراقية؛ فتاة أتقنت إرضاء الرجال، فنصيبها من زوار البار هم الأغنياء الذين يحبون أن يبذلوا أموالهم في كرم وإسماح. وقد كانت في هذه الشهور التي غاب فيها زين العابدين قد وطدت صداقتها بوجيه آخر من وجهاء القاهرة الذين لم تمنعهم الثورة وتقطيع الخطوط الحديدية من زيارة البار. وهكذا كان دخول زين العابدين إليها أمرا لا تستقبله بالحفاوة والترحاب في دخيلة نفسها، وإن كانت قد أبدت له كل ما تعلمته طوال حياتها العريضة من حفاوة وترحاب. جلست إليه بضع دقائق، ثم استأذنت وقامت إلى زميلتها أنيسة ولعة وقالت: هذا السوار يعجبك من زمان. - نعم. - وهذا القرط؟ - ما شأنك؟ - الذي أحضر السوار والقرط هو هذا الرجل الجالس هناك. - نعم أعرفه زين العابدين. - يدي مشغولة في هذه الأيام بغيره. - فأنت تتنازلين لي عنه؟ - بعينك. - فماذا تريدين؟ - كم تدفعين لأتركه لك؟ - أعطيك أول هدية يحضرها. - وإذا كنت خائبة، ولم تستطيعي أن تنالي منه هدية مناسبة فماذا أعمل أنا؟ - وماذا أعمل أنا؟ - تدفعين فيه ما أطلبه الآن، والله يهنيك به بعد ذلك. - قولي، ماذا تريدين؟ - هذا المصحف الذي يتدلى على صدرك. - هذا! لقد ثمنته بعشرين جنيها. - أنت تعرفين أنني أستطيع الاحتفاظ برجلين وبعشرة عند اللزوم. - النهاية، أمري إلى الله. خذي.
وخلعت أنيسة المصحف وتقدمت هي وفاطمة من مائدة زين العابدين وجلستا، وقالت فاطمة في دلال: يا زين العابدين بك، أنت فاجأتني بزيارتك، وأنا الليلة مشغولة في فرح، وقد رجوت أنيسة أن تصاحبك الليلة. - يا ستي أهلا بأنيسة.
وتم الاتفاق دون أي اعتراض من زين العابدين، فما كان يمكن أن يعترض بمشهد من أنيسة، وهو بعد ليس حريصا كل الحرص على أن تطول صلته بفاطمة أكثر مما طالت، وما كادت فاطمة تقوم عنهما حتى سارع هو يسألها: أين نتعشى الليلة؟
وكانت خبيرة بما يرضي الرجال، خبيرة أيضا بالأمكنة التي يمكن أن تقصد إليها إذا كان معها زبون على هذا الغنى الذي يتمتع به زين العابدين. وسرعان ما اكتشف فيها زين العابدين هذه المواهب، فهو يسألها بعد العشاء: وأين الغداء؟ - غداء! أي غداء يا رجل، ونحن ما نزال في العشاء؟! - أقصد غدا. ماذا بك، لماذا لا تفهمينني؟ - غدا! أي غد يا سعادة البك؟! الكلام كان عن ليلة واحدة، وأنا لا أعرف لليلة واحدة. - وأنا لا أعرف على ضرة. - فماذا أنت فاعل بفاطمة؟ - من باعك بعه. - يا راسي. - يا ستي، كم من أفراح أحيتها ونحن أصدقاء ولم تعتذر! - تعجبني. - عارف. - نتغدى غدا في روض الفرج. - يا بنت! في الهواء الطلق على النيل. - فاهمني. - وغدا سأكون فهمتك أكثر وأكثر.
وفي الغد قصد هو وأنيسة روض الفرج، واختار منضدة على النيل وأمر بالغداء، وطلب زين العابدين حمامة مشوية، وطلبت هي كبابا، وفي انتظار الأكل أن يأتي نظر زين العابدين إلى السماء وكأنما يريد أن يرى مقدار سطوع الشمس، ولكن أدهشه أن وجد حداءات كثيرات تحوم حول المكان. وقال لأنيسة: ماذا تفعل كل هذه الحداءات هنا؟ - كل مخلوق يبحث عن رزقه.
وسكت، وجاء الطعام، واستقر على المائدة، وبدأ زين العابدين يأكل، فقطع لنفسه لقمة خبز غمسها في سلطة الطحينة، حتى إذا ابتلعها، مد يده للحمامة المشوية، وقد أخذ به الجوع مأخذه، ولكن لم يكد يمد يده حتى انقضت على الحمامة حدأة بارعة، فإذا الحمامة المشوية في مخالبها، وإذا هي في السماء مرة أخرى قبل أن يفيق زين العابدين من المفاجأة المذهلة.
अज्ञात पृष्ठ
خرج زين العابدين من الفندق يريد أن يقصد حي الصاغة؛ فقد كان لا بد له أن يشتري هدية للصديقة الجديدة، ووقف ينتظر عربة أن تمر به، ولكن طال به الوقوف دون أن تمر به عربة، وسئم زين العابدين الانتظار، فراح يمشي آملا أن يلتقي بعربة، ولم يمر بذهنه أنه من العسير أن يجد هذه العربة؛ فقد ترك القاهرة حين تركها قبل الثورة، وقائدو العربات يلحقون على المارة أن يركبوا، وحين نزل في أمسه من القطار لم يجد صعوبة تذكر في الحصول على عربة، وقد ظلت العربة معه حتى عاد إلى الفندق، وسأله السائق إن كان يريده في اليوم التالي، ودهش من السؤال، ولكنه وافق، وظن أن سائق العربة يريد أن يضمن رزق غده، ولم يشأ أن يحطم آماله، فوافق، وظلت معه العربة طوال اليوم التالي حتى عاد إلى الفندق، فهو إذن يجهل كل الجهل ما ألم بالمواصلات حتى في القاهرة، وقد أوقعه هذا الجهل في خطأ يدفع ثمنه الآن، فهو لم يطلب إلى السائق أن يعود في يومه هذا ، فما كان يتصور أنه لن يجد عربة في أية لحظة يشاء. ومرت به عربة كارو، وتولته الدهشة، ولكن لم تكد تمر من أمامه حتى ظهرت عربة أخرى كارو أيضا، ولم تكن مزدحمة، فإذا سائقها يقف بجانبه ويقول: تفضل يا بك. - ماذا؟!
وأوشك أن يغضب، ولكنه نظر فوجد الراكبين لا يقلون عنه وجاهة.
وقال أحدهم وهو أفندي أنيق: تفضل يا بك. يظهر أنك حديث القدوم من الريف.
وقال زين العابدين، وهو لا يزال في دهشته: نعم. - هذه هي وسيلة المواصلات الرسمية الآن؛ فسائقو الحنطور مضربون.
وقال السائق: أتحب أن تجلس في الدرجة الأولى؟ - ماذا؟! وهل عندك درجة أولى؟! - نعم، هنا في المقدمة. تجلس على وسادة، وستجد الجلسة مريحة ونظيفة. - وكم الأجر؟ - قرشان. إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى الصاغة. - تفضل.
ودفع زين العابدين القرشين، وركب واستأنف الحديث: ولكني ركبت بالأمس عربة حنطور.
وقال السائق: لا بد أنك ركبتها من المحطة. - نعم. والترام؟ - أضرب عماله أيضا.
وقال أحد الراكبين من الوجهاء: لقد وجدنا «الكارو» أمتع.
وقال السائق: إنها ركبة سلطاني!
وقال زين العابدين: ولكن لماذا الاستمرار في الإضراب، وقد سمح للوفد بالمفاوضة وتألفت وزارة رشدي، وأوشكت الأمور أن تستقر؟
अज्ञात पृष्ठ
وقال الأفندي الذي حادثه أولا: لجنة الموظفين لا تزال مضربة، وقد وضعت شروطا للعودة للعمل، وهكذا استمر الإضراب.
وقال آخر: الإضراب مستمر وإن كانوا قد أخذوا يجمعون الاكتتاب للوفد. - أعانهم الله. لا بد أن ينجح الوفد في مهمته.
واستمر الحديث بين الراكبين حتى بلغ زين العابدين الصاغة فنزل واختار سوارا من الذهب الثقيل دفع فيه عشرين جنيها، وعاد وقد عرف طريقه فوقف إلى موقف العربات الكارو فركب الدرجة الأولى، وصعد معه شاب يلبس الملابس البلدية، وأفندي لا تبدو عليه مظاهر الغنى، كما ركب إلى جواره في الدرجة الأولى وجيه يرتدي ملابس الفقهاء، وإن كان يبدو عليه أنه تاجر. وسارت العربة، وبدأ الأفندي غير الأنيق حديثه مع الذي يلبس الملابس البلدية: يا ليتني كنت أملك أكثر من هذا كنت قدمته. - وما له؟ كل إنسان يقدم ما يستطيع. أنا لم أجد شيئا، ولولا زوجتي لظللت حزينا طول العمر. - وما له يا أخي! ألستما زوجين؟ - نعم، ولكنها عروس جديدة، ولم أحضر لها إلا هذا العقد. - والله إنها عاقلة. - رأت مقدار ضيقي، فقالت لي بعه، وحين يأتي المال تشتري لي غيره. - هل بعته؟ - لا، سأقدمه إلى لجنة الاكتتاب، فإني أخشى إن بعته أن يبخسوا ثمنه؛ أنا اشتريته بعشرة جنيهات، ومعي عقد شرائه، سأقدمه هو والعقد إلى اللجنة، واللجنة ستبيعه بثمنه.
وسمع زين العابدين الحديث فعجب له، وراح يفكر في هذه القاهرة التي انتفضت هذه الانتفاضة، فلم يعد يسمع شيئا، إنما هو طنين من الدماء الفوارة في عروقه، إنه البعث. ووقفت العربة فما درى أين وقفت، ونزل الأفندي والشاب فوجد زين العابدين نفسه ينزل معهما، وسارا فسار خلفهما ودخلا بيتا وقدم كل منهما اكتتابه، وأخذ كل منهما إيصالا وانصرفا، وتقدم هو فقدم السوار الذي اشتراه ومعه العقد الذي يثبت ثمنه، وسأله الذي يتولى جمع الاكتتاب: اسم حضرتك؟
ودون وعي قال: أنيسة ولعة.
وقال الرجل مدهوشا: ماذا؟!
وانتبه زين العابدين ليقول: اكتب الإيصال باسم أنيسة ولعة.
وحين التقيا قدم لها الإيصال، فنظرت إليه نظرة عميقة، واحتضنته وهي تقول: هذه أعظم هدية نلتها، بل أظنها أعظم هدية سأنالها في حياتي؛ لقد جعلت مني إنسانة لها وطن وعليها واجب نحوه. أطال الله عمرك.
الفصل الخامس
كانت الحاجة بمبة جالسة في بهو بيتها تنتظر الحاج والي أن يعود، فهي تريده في أمر قد يدهش له، ولكنها تراه عدلا، ولا بد أن تقوم به.
अज्ञात पृष्ठ
وكان يجلس إلى جانبها طفل في الخامسة من عمره دقيق القسمات، دقيق الجسم أسمر البشرة، رغم المجهود الكبير الذي بذلته يد رحيمة لتزيل عنه قذر أيام، إن لم يكن قذر شهور طويلة. وكان يرتدي جلبابا من القماش الرخيص، وإن كان يبدو هو الآخر أنه انفلت من النظافة منذ لحظات.
وكان الطفل جالسا ذاهل النظرات، في عينه اليسرى دمعة منسابة لا يدري لانسيابها سببا، وإنما هي تلازم عينه، كلما أزالها عادت تنسكب في إلحاح وإصرار، ولكن عينه تزجي مع الدمعة إشعاعا من الذكاء لا يخفى، وقد حاول الطفل في عزم ألا يبدو منه إلا الهدوء والطاعة؛ فقد كان جديدا على هذا المنزل، جديدا على هذه النظافة التي تواكبت عليه فجأة، فكان مجالها جسمه وملبسه في آن معا. فهو واجف صامت، في نظرته انتظار لمجهول ودهشة بادية على محياه جميعا، وقد حاولت الحاجة بمبة أن تطمئن وحشته وتؤنس غربته؛ فيلجأ الطفل فيها إلى هذه الطيبة لجوء اللاهف الغريب، يستشف الحنان ويتلمس اليد الرحيمة أو الكلمة العطوف، لا يبحث عن مصادرها، ولا يهتم ببواعثها. وينشغل الطفل حينا من الزمن ببعوضة تلح على يده فينظر إليها طويلا، وهي مستقرة لا تبارح مكانها. ويحرص الطفل ألا يحرك يده، وكأنما يحاذر أن يقلق البعوضة فتلدغه، ولكن البعوضة لا تقابل عطفه بغير عضة في يده؛ فتختلج يده خلجة مذعورة داهشة تطيح بالحشرة بعيدا، ولكنها ما تلبث أن تعود إلى يده الأخرى، فيتكرر ما حدث من الطفل والبعوضة، وتجلو البعوضة عنه فيبحث عن شيء آخر يشغله، فلا يجد إلا نور المصباح المتراقص لا يقر له قرار.
وما تلبث صالحة أن تدخل إلى البهو قادمة من حجرتها، يتقدمها جنينها ولسانها وهو لا يكف عن الدعاء للحاجة بطول العمر والهناء والسعادة، والحاجة تتقبل هذا الدعاء في تواضع وتهوين من شأن المعروف الذي تلهج بذكره صالحة. وتحاول صالحة في إخلاص أن تتلمس أوامر الحاجة، فهي تسألها إن كانت تريد شيئا أي شيء، وتجيب الحاجة أنها تريدها أن تستريح وتريح هذا الجنين الذي ترهقه معها في الذهاب والمجيء ذارعة به غرفات البيت، لا تهدأ ولا تجعله يهدأ. والطفل يسمع ما بينهما من نقاش لا يدري من أسبابه شيئا، ويهم أن يسأل علام الشكر، ثم تمسك بلسانه وحشة الغريب فيبتلع استفساره مع أحاديث كثيرة تتوارد على ذهنه، ما إن تبدو على صفحة عقله حتى يقمعها فتعود مختفية متراجعة إلى واد من النسيان، حيث لا يعلم الطفل، ولا يعلم أحد، أين تذهب.
ويأتي الحاج من الخارج ويرى الطفل فيدهش لحظة، ثم يقول في ترحيب طيب: أهلا حسين. مساء الخير يا حاجة. كيف حالك يا صالحة؟ وتجيب الزوجتان التحية، ويتقدم حسين إلى الحاج والي فيقبل يده، ويقعد الحاج على الأريكة بجانب بمبة، وتقوم صالحة وهي تقول: تعال يا حسين.
ويتبع حسين أمه إلى حجرتها. وتقول الحاجة: لي طلب عندك. - طلبك أمر يا حاجة. - أريد أن يقيم حسين معنا. - ماذا؟! وأنت التي تطلبين؟! - ومن يطلب هذا إذا لم أطلب أنا؟ إن زوجتك صالحة على وشك الوضع، ولا شك أنك ستربي ابنك أحسن تربية، وحسين أخوه على كل حال، وأنا لا أحب أن يكون أحد الأخوين متعلما، والآخر جاهلا. - ربنا يعطيك بقدر طيبتك يا حاجة. - لو أقام حسين عند جده؛ لما استطاع أن يعلمه، وليس بكثير عليك أن تربي ابن زوجتك كأنه ابنك؛ فهو يتيم، ويستحق العطف. - يا حاجة أنت طيبة وصالحة. - ماذا قلت؟ - البيت يا حاجة بيتك، لك أن تقبلي فيه من تشائين وتخرجي منه من تشائين. وقد كان الأجدر بي أن أطلب أنا هذا الطلب؛ إكراما لصالحة، إنما أنت دائما تسبقين إلى الخير.
الفصل السادس
كانت الريح عاصفة يشتد عصفها كل حين، بدأت أول ما بدأت بذرات الرماد تحملها، ثم قويت فأصبحت تحمل الأوراق الجافة المتساقطة على الأرض، ثم راحت تخلع عن أشجار الكافور أوراقها، ثم اشتد ساعدها فإذا هي تحطم أعراف الشجر لا تفرق بين الكافور أو غيره من الأشجار، وراحت تحمل الأعراف في سرعة مجنونة تندفع إلى حيث لا تدري مقصدا.
رياح عمياء مجنونة معربدة ليس فيها من الثبات إلا أنها تندفع إلى هدف واحد، وإن كانت لا تدركه، ولا تدري لماذا اختارت هدفها هذا، وهي مع ذلك تتردد أحيانا في الاندفاع إلى متجهها؛ فهي تدور حول نفسها بما تحمله في دوامة عنيفة من الهواء والرماد وأعراف الشجر، ولكن قليلا ما يدوم ترددها، ثم هي تمضي في سبيلها لا تلوي على شيء، ريح قل أن تعرفها مصر. وسارع المطر ينهمر، فهو السيل الجارف ينسكب أنهارا من السماء، فهو أنهار في الأرض فياضة تحتفر المجرى في إصرار وإلحاح. وكأنما أرادت السماء أن تنير الطريق للأنهار الناشئة الصغيرة؛ فالبرق يخطف الأبصار إن وجدت في العراء أبصار، فالناس في بيوتهم يعتصمون من اليوم الراعد والسيول والأعاصير بالجدران الصماء والضلف المغلقة من النوافذ، ويستعينون في القرية بالمواقد والأفران على البرد الزمهرير القارس.
أما الحاج والي وأهل بيته فهم في شأن غير شأن الناس، فقد كانت صالحة تعاني آلام الوضع، تقف إلى جانبها قابلة القرية الحاجة زينب أم عوضين، والحاجة بمبة تعين بكل خبراتها التي تلقتها من المواقف المماثلة مع الصديقات أو قريباتها. بينما انتبذ حسين مكانا قصيا يحاذر أن يعرقل الأرجل المتسارعة غدوا ورواحا بين جنبات البيت، تنسكب من عينه تلك الدمعة التي لا تفارقها، والتي تعود إلى الانسكاب كلما أزالها حسين بيده. أما الحاج والي فقد جلس إلى الأريكة ممسكا بمسبحته يتمتم عليها بذكر الله، محاولا ما وسعه الجهد أن يبدو في هدوء الرجل، وإن كانت طبيعة الإنسان تأبى عليه الهدوء أو القرار.
وخرجت القابلة فطلبت تبنا، وذهل الحاج والي، ولكنه لم يسأل عما يدعوها إلى طلب التبن، وإنما قام وصحب حسينا إلى المتبن فملأ قفة وعاد هو وحسين يحملانها، ويحملان على ملابسهما كميات كبيرة من ماء المطر، وفي أقدامهما ألواح كاملة من الطين؛ فقد كان لا بد لهما أن يخرجا إلى العراء ليصلا إلى المتبن.
अज्ञात पृष्ठ
وعاد الحاج والي إلى أريكته وحسين إلى مكانه القصي، وعادت المسبحة إلى أصابع الحاج، والدمعة إلى عين حسين.
ولكن آلام صالحة لا تنقطع، تتنفسها في آهات ينشق عنها كيانها كله، والغرفة ذات الباب المقفل صماء لا تفلت أحدا من داخلها ليخبر الحاج والي ماذا يحدث في الداخل، وأخيرا انشق الباب عن القابلة وهي تقول: لا بد من طبيب يا حاج، أنا لا أستطيع أن أقوم بولادتها وحدي ...
وقال الحاج والي: طبيب؟! تقولين طبيب؟!
وخرجت الحاجة بمبة وهي تصيح: نعم يا حاج! طبيب! أم نترك البنية تموت؟! - ومن أين آتي بالطبيب الآن، كيف لي به؟! - اطلبه من تليفون العمدة. اطلبه يحضر بأية وسيلة.
وقام الحاج والي يريد أن يخرج، وحينئذ تقدم حسين وهو يقول في صوت واهن حازم: أنا قادم معك يابا الحاج.
ويقول الحاج في صوت طيب، ولكنه حازم أيضا: لا، ابق أنت هنا يا حسين.
ويخرج الحاج إلى الطريق، يشق سبيله في الرياح العاصفة يكاد لا يبصر ما أمامه من شدة الرياح وانسياب الماء حتى يصل آخر الأمر إلى بيت زين العابدين، ولا يعرج إلى البيت، وإنما يقصد إلى دار سائق العربة محمود أبو عبد الهادي، فيطلب إليه أن يجهز العربة ليذهب إلى المركز، ويوشك محمود أن يقول إن الخيل لا تستطيع المشي في هذه الأنواء العاصفة، ولكنه يرى لهفة الرجل ويقدر أيضا ما سيناله من عطاء فيطيع، ويركب الحاج العربة وتأخذ سبيلها إلى المركز ولكنها - على رغم قوة الخيل - تمشي بطيئة متمايلة تغرس عجلاتها في الطين كلما سارت. وحين عادت العربة بالطبيب كان الفجر قد أوشك يرسل نوره، وكانت السماء قد أقلعت عن المطر، وكانت الريح تبدو وكأنما مسها الكبر، ولكنها مع ذلك تأبى أن تعترف بالوهن؛ فهي تجر الأشياء التي كانت تحملها في صدر النهار بخفة واستهزاء، ولكن البرد كان ما يزال شديدا قارسا.
ودخل الحاج والي والطبيب إلى البيت، ونادى الحاج والي: يا حاجة بمبة.
وخرجت إليهما الحاجة، وما لبثت أن قالت: الحقنا يا دكتور. تفضل.
ودخل الطبيب ودخل معه الحاج والي، وكانت صالحة تلقف أنفاسها في ضعف وإصرار، وكأنما هي تنتزع الهواء من الحياة انتزاعا. ومرت بذهن الحاجة بمبة خاطرة عجبت لها في هذا الموقف الضنك؛ لقد رفضت أن يراها طبيب رجل، وخطبت لزوجها هذه الفتاة لتلد له، ولكن الله أراد - لحكمة لا يعلمها إلا هو - ألا يأتي الولد - إن هو جاء - إلا على يد طبيب رجل. وصحت الحاجة من خاطرتها على صوت الطبيب: اتركونا أرجوكم. لا أريد إلا القابلة. أيصح يا حاجة زينب أن تعملي التبن؟! كم مرة أنهاك عن هذه القذارة! أرأيت نتيجة عملك؟ اتركونا أرجوكم.
अज्ञात पृष्ठ
وخرج الحاج والي، وخرجت من ورائه الحاجة، واقتعدا الأريكة ولم يخرج الحاج سبحته، وإنما راح يسأل الحاجة بمبة في إشفاق: هل الحالة خطيرة؟ - ربنا يسلم يا حاج. أنا لم أر في حياتي ولادة كهذه.
وأراد أن يعيد السؤال، فوجد أنه سيصبح سخيفا، كما وجد أنه لن يسمع الجواب الذي يتلمسه، فلم يجد مناصا من أن يعود إلى مسبحته، فهو يخرجها ويأخذ في إسقاط حباتها الواحدة بعد الأخرى في محاولة فاشلة للهدوء أو الاطمئنان، وحسين ينظر إلى الحاج والحاجة والدمعة في عينه، وشعور بالخطر يملأ جوانحه، وإن كان لا يدري ما وجه الخطر أو أسبابه.
وطال غياب الطبيب وطال، وباب الحجرة مقفل لا يند عنه إنسان يعرف منه الحاج ما يجري داخل الغرفة.
وأطل الصباح في تباشيره الأولى وتهيأ الحاج للصلاة، ولكن الصوت الخالد الذي يستقبل به الأطفال الحياة ند عن الغرفة المقفلة ببكاء. وتوقف الحاج باهتا وراح ينظر إلى الغرفة، ولكن بابها ظل صامتا إلا عن البكاء، ولم يطق الحاج صبرا فاندفع إلى الباب وفتحه وقبل أن يقتحم الحجرة واجهه الطبيب مرتبكا لا يدري ما يقول. وعاجله الحاج والي: هيه، خير يا دكتور؟
وصمت الطبيب وقالت القابلة: أصبح لك ولد يا حاج.
وقال الحاج: وهي ... صالحة ... كيف هي؟
واستخذت القابلة حسيرة، وألقت بنظرها إلى الأرض، وقال الطبيب: تعيش أنت يا حاج.
وذهل الحاج وأقدم على سرير زوجته ثم أحجم، وترك الغرفة ثائر النفس ممزق المشاعر بين أمل تحقق وروح أزهقت في سبيل تحقيقه. لا يدري ماذا يفعل إلا أنه دون وعي استقبل القبلة وكبر وانتوى الصلاة ودمعات تموج في عينيه وقرأ الفاتحة ثم وجد نفسه يتلو الآية الكريمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب
अज्ञात पृष्ठ