فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كلام مخلط في غاية التناقض . أما قولهم عنا بضعف الرواية ، والتعري من الشيوخ ، فلو كان لهم عقول لأضربوا عن هذا ، لأنهم ليسوا من أهل الرواية فيعرفوا قويها ( 1 ) من ضعيفها ، ولا اشتغلوا [ بها ] قط ساعة من الدهر ، وما يعرفون إلا المدونة على تصحيفهم لها ، وما عرفوا قط من الصحابة ، رضي الله عنهم ، رجلا ، ولا من التابعين عشرة رجال ، ولا يفرقون بيت تابع وصاحب ، سوى من ذكرنا ، فلا حياء يمنعهم من أن يتعرضوا للكلام في الرواية . وأكثر المتكلمين في هذا الباب لا يقيمون الهجاء ، ولا يعرفون ما حديث مسند من حديث مرسل ، ولا ثقة من ضعيف ، ولا حديث النبي صلى الله عليه وسلم من كعب الاحبار ، وما منهم أحد يمزج له حديث موضوع مع صحيح فيميزه ( 2 ) ، ثم يقولون : عار من الشيوخ ، وهم ما كان لهم شيخ قط ، ولا عمروا لمجلس حديث ، ولا اشتغلوا [ 177 / أ ] بتفنيده ( 3 ) ، إنما كان عندهم عبد الملك بن سليمان الخولاني ( 4 ) ، فكان ( 5 ) شيخا صالحا لم يكن أيضا ( 6 ) مكثرا من الرواية ، كان ربما ألم به بعضهم إلمام من لا يدري ما يطلب ، يخرجون من عنده كما دخلوا ، لم يعتدوا قط عنه كلمة ، ولا اهتبلوا بما يروي بلفظة ، إنما يقعدون عنده قعود راحة ، إذا لم يكن عليهم شغل . ثم لم يلبث هؤلاء الخشارة أن نقضوا كذبهم خذلانا من الله تعالى ، فشهدوا لنا بأنها كتب أتقناها وضبطناها ، منها مروي رويناها عن شيخ أو شيخين ، ومنها كتب مشهورة ثابتة بأيدينا مثل المسانيد المصنفات ، لا يمترون فيها . وهذا ضد ما حكموا من تعرينا من الشيوخ ومن ضعف الرواية ، فهم لا يدرون ما يقولون ولا يبالون بالكذب والفضيحة ( 7 ) ، لكنا والله نصفهم بما هم ( 8 ) أهله من انهم ماضبطوا قط كلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صاحب ولا عن تابع ، ولا يحسنون قراءة حديث لو وضع بأيديهم ، ولا يفرقون بين جابر بن عبد الله وجابر بن زيد ولا يفرقون بين رأي ورواية ( 1 ) . وأما أن من كتبنا ما خفي على المحتج لعدم الراوي لها ( 2 ) وقلة استعمالها ، فما خفاء العلم على الحمير حجة على أهل العلم ، ولا قلة طلبهم لرواية السنن دليلا على عدم الراوي ، بل الرواة ولله الحمد موجودون . فمن ( 3 ) أراد الله تعالى به خيرا وفقه لطلب ما يقرب منه ، ولم يشغله عما يعنيه ما لا يعنيه وما لا يغني عنه من الله شيئا ؛ وكذلك ليس قلة استعمالهم لتلك الكتب عيبا على الكتب ، إنما ( 4 ) العيب في ذلك على من ضيعها ، وحظ نفسه ضيع لو عقل . وأما ما ذكره من طروئها في بلدهم ، فما بلدهم حجة على أهل العلم ، ولكن هكذا ( 5 ) يكون إزراء السكارى على الأصحاء ، واعتراض أهل النقص على أهل الفضل . والعجب كله قولهم : ' علماء بلدنا ' ، وهذه والله صفة معدومة في بلدهم جملة ، فما يحسنون ولله الحمد لا رأيا ولا حديثا ولا علما [ 177 ب ] من العلوم إلا الشاذ منهم والنادر ممن هو عندهم مغموز ( 6 ) عليه ، ' والجاهلون لأهل العلم أعداء ' ، ومن جهل شيئا عاداه ( 7 ) . والعجب أيضا عيبهم كتب العلم بأنهم لم يسمع ذكرها عندهم ولا سمعوا بها فيما مضى ، فنافروها ولم يقبلوا عليها . إن هذا لعجب ، فإذا نافرت كتب العلم هذه الطبقة المجهولة الجاهلة ، فكان ماذا لقد اذكرني هذا الجنون ما حكاه الأصمعي ( 8 ) ، فإنه ذكر أنه مر بكناسين على حش ، أحدهما يكيل والثاني يستقي ، والأعلى يقول للأسفل : إن المأمون سقط من عيني مذ قتل أخاه ! فما سقوط هذه الكتب عند هؤلاء الجهال إلا كسقوط المأمون من عين الكناس ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . وأما قولهم : إنهم رأوا فيها تغليب أحاديث قد ( 9 ) تركت ، فليت شعري من تركها ؟ لئن كان تركها تارك لقد أخذ بها من هو فوقه أو مثله ، وما ضر الحديث الصحيح من تركه ، بل تاركه هو المحروم حظ الأخذ به ، فإما مخطئ مأجور في اجتهاده ، وإما عاص لله تعالى في تقليده في ترك السنة . وأما قولهم : وسكت عنها الصحابة والتابعون والعلماء الماضون . فقد كذبوا على الصحابة والتابعين ، وعلى العلماء الماضين ، ونسبوا إليهم الباطل ، وكيف سكتوا عنها وهم رووها ونقلوها وأقاموا بها الحجة على من بعدهم كالذي يلزمهم . وأما قولهم : ومخالفة أحكام قد حكم بها السلف الصالح : ما خالفوا قط حكما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وغن كان واحد منهم أو اثنان خالفوا بعض ذلك ، فقد وافقه غير المخالف ممن هو ربما فوق المخالف له أو مثله ، والحجة كلها هي القرآن والسنة لا ترك تارك ولا أخذ آخذ ، والحق حق أخذ به أو ترك ، والباطل باطل أخذ به أو ترك ، وما عدا هذا فهذر وهذيان ، وبالله تعالى التوفيق . وما نعلم أشد خلافا لما حكم به الصحابة والتابعون [ 178 / أ ] منهم - كم قصة في الموطأ خاصة لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان وغيرهم رضي الله عنهم خالفوها ! ! فمن السلف الصالح إلا هؤلاء لو عقلوا ونعوذ بالله من الخذلان والجبن
9 - ثم قالوا : ' ثم رأوا تصنيفا وتمثيلا واشتقاقا وتعريفا ونتائج تلزم المرء على سبيل طريق الاحتجاج ، وظاهر القول مما يحكمه البيان ، وينطلق به اللسان وتصوبه اللغة وتقيمه ( 1 ) [ الحجة ] وتصرفه الألحان من الكلام والأفانين من النحو وتحبير المعاني باللفظ وإشعارها بالحس وتنبيهها بالجرس ، فأنكروا ( 2 ) ذلك وفروا عنه ، إذ ( 3 ) لم يكن ذلك طريقة من مضى ولا سنن [ من به ] يقتدى ، فوقع النفار في النفوس ، وجعلوا ذلك كله بدعة وحدوث شرع ، وزيادة وتنميقا أحدثوه ( 4 ) أصحاب الكلام ، وأهل البدعة ' .
Shafi 84