- 2 - [ 172 / أ ] رسالتان له أجاب فيهما عن رسالتين سئل فيهما سؤال التعنيف والله أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم ، عونك يا الله .
قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رحمه الله : الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وسلم تسليما كثيرا ، ورضي الله عن الصحابة .
أما بعد ، فإن بعض من تكلم بما وقر في نفسه بغير حجة وانطلق به لسانه بغير برهان ، كتب كتابا خاطبنا فيه معنفا على ما لم يفهمه ومتعرضا لما لا يحسنه ، واستتر عنا مدة ، ثم ظهر إلينا ، فلزمنا أن نبين له موضع الخطأ من كلامه ، ونوقفه على مخالفته للحق ، تأدية للنصيحة التي افترضها تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذ يقول ( 1 ) : ' الدين النصيحة . قيل : لمن يا رسول الله قال : لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين عامة ' . ونحن نورد نص ألفاظهم ، على ركاكتها وغثاثتها ، لئلا يظنوا بجهلهم أنها إن أوردت مصلحة قد نسخت ( 2 ) حقها ولم توف مرتبتها ، ونبين ، بعون الله ، عظيم ما فيها من الفساد والهجنة ، وما توفيقنا إلا بالله العلي العظيم
1 - بدأ هؤلاء القوم كتابهم بعد أن قالوا : بسم الله الرحمن الرحيم : ' أما بعد رعاك الله وكلأك - فإن خصمك يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الشيوخ الثقات عنهم ، وتضمن ذلك كتب جمة هي معلومة مشهورة مسموعة رواية رواها الثقات عنهم وهم في جملتهم عدد كثير ، إلى قول واحد يطلب التعليل والاحتجاج ويرد بالمنطقي على الشرعي ' .
Shafi 73
فالجواب - وبال التوفيق - أن خصمنا يحتج أنه لا يلزمه الخروج عما قيده الثقات إلى آخر الفصل ( 1 ) - كلام يشاركهم فيه كل فرقة من فرق الإسلام ، فليسوا أولى بهذه القصة من أصحاب أبي حنيفة ولا من أصحاب الشافعي ، ولا من أصحاب أحمد بن حنبل [ 172 ب ] رحمه الله على جميعهم ، فكل لهم ثقات على الجملة وثقات عندهم ، عن لم يكونوا أكثر من شيوخ المالكيين لم يكونوا أقل منهم ، قد رووا أقوالهم وقيدوها عن الثقات كذلك ، وهم أيضا في جملتهم عدد كبير . وتضمنت تلك الأمور كتب الثقات عنهم ، ليس جهل هؤلاء بها حجة على أولئك ، كما أن أولئك أيضا لا يعرفون كتب المالكيين ، وأكثرهم لم يسمع قط بأسمائها ، فأي فرق بين هذه الدعاوى لو نصحوا أنفسهم وأما قولهم في الخروج عما هذه صفته إلى قول واحد ، فمعاذ الله أن ندعو أحدا إلى قول أحد غير قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يقول الكاره والراضي منهم والمسلم والراغم إنه الحق الذي لا حق في الأرض سواه . وأما قولهم : إنا نرى التعليل والاحتجاج ، فقد مزحوا الكذب بالصدق والباطل بالحق ، وأعوذ بالله أن نرى التعليل ، بل قد رمونا ها هنا برأيهم ، وهم الداعون إلى التعليل لا نحن ، وكتب حذاقهم في إثبات العلل والقول بالتعليل مملوءة ، كما أن كتبنا وكتب أصحابنا مملوءة من إبطال العلل والمنع من التعليل . فلو اتقى الله تعالى هؤلاء القوم لم يتكلموا فيما لا يحسنونه وقد سمعوا قول الله تعالى : { هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } ( آل عمران : 66 ) . وأما قولهم إننا نرد بالمنطقي على الشرعي ، فكذب وجهل ومكابرة ، ونحن الداعون إلى الشرع ، لأننا إنما ندعو الناس إلى كتاب الله تعالى الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } ( فصلت : 42 ) وإلى بيان رسوله صلى الله عليه وسلم ، الذي أمره الله تعالى بالبيان عنه ، وإلى إجماع الصحابة رضوان الله عليهم ، فكيف يرد على الشرعي من هذه صفته إنما يرد على الشرعي من يدعى إلى كلام الله تعالى وكلام نبيه محمد صلى عليه وسلم ، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فيعارض [ 173 / أ ] ذلك برأيه ويعرض عن ذلك إلى قياسه ، إن ( 2 ) كان عند نفسه ممن يفهم ، أو إلى تقليده إن تقليده إن كان مقصرا معترفا بتقصيره . فلينظروا هم ونحن في هاتين الصفتين : من الجاهل لكل صفة منهما ( 1 ) ثم لينظر كل واحد منا الجزاء من الملي بالمجازاة ، من الذي لا إله إلا هو
2 - ثم قالوا : ' والشرع إنما هو مسموع متبع معمول به ' . فالجواب : إن هذا حق صحيح ، ولكن يلزمهم تبيين من هو الشرع منه مسموع ومن هو المتبع في الشرع ، وشرع من هو المعمول به . فإن ( 2 ) قالوا : إنه لا يسمع الشرع إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ، ولا يتبع في الشرع أحد سواه عليه السلام ، ولا يجوز العمل إلا بشرعه ، صدقوا وهو قلنا ، ولله الحمد ، ووافقونا وانقطع الخلاف . فإن قالوا غير هذا لزمهم ما لا يخفى على أحد من أهل الإسلام ، فإن قالوا : هو مسموع من العلماء وهم المتبعون فيه ، قيل لهم : هل اتفق العلماء أو اختلفوا فإن قالوا : اتفقوا ، كذبوا كذبا لا يخفى على ذي عقل ، ولا يرضي بالكذب إلا خسيس لا دين له ولا مروءة . وغن قالوا : بل اختلفوا ، قيل لهم : فلا تموهوا بإجمال ذكر العلماء من أهل الأمصار
Shafi 75
3 - ثم قالوا : ' فمن الشرع ما قد عمل به ، ثم ترك لحديث وارد نسخه ، أو لوهن في طريقه فلم يصح ، أو لم يقع الإجماع على استعماله من أجل ذلك ' . الجواب - وبالله التوفيق - عن قولهم : فمن الشرع ما قد عمل به ، ثم ترك لحديث وارد نسخه ، فينبغي لمن تعاطى هذا يورد ( 3 ) ذلك الحديث الذي نسخ ذلك الشرع ، فإن أورده لزم الانقياد له ، وغن عجز عن ذلك فليتق الله على نفسه ، ولا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يقول عليه بظنه ما لا يعلم صحته ، فان الله تعالى يقول : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } ( يونس : 36 ) ، وقد صح أن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتبوأ مقعده من النار ( 4 ) ، ومن [ 173 ب ] ترك شرعا صحيحا لدعواه الكاذبة أن ها هنا حديثا قد نسخه ، ولا يدري صحة ذلك ولا يعرفه ، فقد أتى أكبر الكبائر ، ونعوذ بالله من الخذلان . وأما قولهم : لوهن في طريقه فلم يصح ، فهذا علم ما يدرى منهم أحد يدري فيه كلمة فما فوقها ، ومن تكلم فيما لا يدري فقد تعرض لسخط الله ، إذ يقول : { وتقولون لأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } ( النور : 15 ) . ثم أطرف شيء قولهم : ' أو لم يقع الإجماع على استعماله ' ؛ نسأل هذا الجاهل الذي أتى بهذه الطامة عن كل ما يدينون ما خالف فيه مالكا سائر العلماء ، وربما بعض أصحابه : هل وقع الإجماع على استعماله ( 1 ) أم لا فغن قالوا : وقع الإجماع على استعماله ، كابروا أسمج مكابرة ، وناقضوا بادعائهم الإجماع على ما فيه الاختلاف بإقرارهم . وغن قالوا : لم يقع الإجماع على استعماله ، قيل لهم : فكيف تعيبون القول بما لم يقع الإجماع على استعماله وأنتم تقولون في أكثر أقوالكم بما لم يقع الإجماع على استعماله ولو أن من هذا مبلغه من العلم سكت ، لكان أولى به وأسلم ، والحمد لله على مننه
4 - ثم قالوا : ' وليس يشك أن المتقدمين من الصحابة والتابعين والسلف الماضين قد بحثوا عنه ووقفوا منه على حقيقة أوجبت تركه أو استعماله ( 2 ) ، فسكتوا عن ذلك للمعرفة الثابتة التي وردتهم ( 3 ) ، وإنهم في غير الثقة والقبول غير متهمين ' .
Shafi 76
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إنه جرى ( 4 ) أيضا في هذا الفصل أيضا من البرد والغثاثة على مثل ما جرى عليه قبل هذا . ويقال لهم : هل اتفقوا - [ اعني ] الصحابة والتابعين والسلف الماضين - على كل شيء من مسائل الدين حتى لم يختلفوا ، أو اختلفوا فان هم ( 5 ) قالوا : لم يختلفوا في كل مسألة ، ظهر كذبهم على جميعهم وصاروا في نصاب من يرجم لعظم ما تقحم [ 174 / أ ] فيه . وإن قالوا : اختلفوا في كثير من المسائل ، قيل لهم : صدقتم ، فأما ما اجتمعوا عليه فنحن الذين اتبعوا إجماعهم ، ولله الحمد كثيرا ، وإنما خالف إجماعهم من دعا إلى تقليد إنسان بعينه ، كما فعل هؤلاء في تقليدهم مالكا دون غيره ، ولم يكن قط في الصحابة ، ولا في التابعين ، ولا في القرن الثالث واحد فما فوقه فعل هذا الفعل ، ولا أباحه لفاعل ، فهم المخالفون حقا للإجماع حقا في هذا وفي مسائل ( 1 ) أخر قد أوضحناها في كتبنا . وأما ما اختلفت فيه الصحابة ، رشي الله عنهم ، فليس قول بعضهم أولى من قول بعض ، ولا يحل تحكيم إنسان ممن دونهم في الاختيار في قولهم ، ولا يجوز في ذلك إلا ما أمر الله تعالى به ، إذ يقول : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ( النساء : 95 ) ، فمن رد الاختلاف إلى اختيار مالك ( 2 ) وأبي حنيفة والشافعي أو إنسان بعينه ، فقد خالف القرآن والإجماع المتقدم من الصحابة والتابعين ، وهو الإجماع الصحيح . وأما قولهم : إن الصحابة والتابعين بحثوا عنه ووقفوا على حقيقة أوجبت تركه ، فهذه صفة معدومة فيما لم يصح نسخه ، ولا سبيل إلى وجوبها إلا فيما تيقن نسخه كالقبلة إلى بيت المقدس ، وما أشبه ذلك . وأما ما اختلفوا ، فحاشا لله أن يكون إجماعا فيما قد صح فيه الخلاف . وأما الطامة فقولهم : ' فسكتوا عنه للمعرفة الثابتة التي وردتهم ' ، فهذه عظيمة نعوذ بالله من أن يظن مثلها بالصحابة ، رضي الله عنه ، من أن سكتوا عن تبليغ ناسخ صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومن فعل هذا فقد وجبت عليه اللعنة وحقت ، قال الله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك [ 174 ظ ] أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } ( البقرة : 159 - 160 ) ، فكيف يحل لمن يدري ما الإسلام أن يظن أن الصحابة والتابعين اتفقوا على السكوت عن ذكر حديث ناسخ لعمل شرعي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما لا يظنه بهم إلا الروافض الملعونون ، ونعوذ بالله من الخذلان . وأما قولهم : ' وإنهم في غير الثقة والقبول غير متهمين ' ، صحيح ، وهو قولنا لا قولهم ؛ لأنا نحن الذين ندين لله تعالى بكل ما أسنده لنا الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا ما صح نسخه وعلم ( 3 ) ناسخه ، أو ثبت تخصيصه ونقل ما خصه ؛ ونحن الذين قبلنا منهم حقا ، وإنما ترك توقيفهم ( 1 ) ورفض القبول منهم واتهمهم من اطرح جميع أقوالهم ، ولم يلتف إليها ، ولا اشتغل إلا قول مالك وحده ، وحكم عليهم رأي مالك واختياره ، فهذا هو المتهم لهم حقا ، لا من لم يخالف إجماعهم ولا حكم في اختلافهم أحدا ( 2 ) غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلأي أقوالهم حكم النبي صلى الله عليه وسلم قال به ، والحمد لله رب العالمين
5 - ثم قالوا : ' فوجب لهذا الطالب المجتهد الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم والأخذ بسيرتهم إذ عنهم أخذ دينهم ، وهم الناقلون إليه شريعته نقل كافة عن كافة ، ونقل واحد عن كافة ، ونقل كافة عن واحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكرم ' .
Shafi 78
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن قولهم : وجب لهذا الطالب المجتهد الاقتداء بهم ، وسلوك طريقتهم ، والأخذ بسيرتهم فصحيح إن فعلوه ، وحق إن عملوا به ، ونحن نسألهم ونناشدهم الله ما الذي يدينون به ربهم تعالى : أهو ما ( 3 ) وردهم عن الصحابة والتابعين ، أو ما وجدوا في المدونة من رواية ابن القاسم عن مالك فغن قالوا : بما جاءنا عن الصحابة ، كذبوا كذبا يستحقون به المقت من الله تعالى ، ومن [ 175 / أ ] كل من سمعهم . فإن قالوا : بل بما جاءنا من رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة ، فليعلموا أنهم لم يقتدوا بالصحابة والتابعين والسلف المرضيين ، ولا سلكوا طريقهم ، ولا أخذوا بسيرتهم . وإن قالوا : إن مالكا ( 4 ) لم يخالف طريقة الصحابة والتابعين ، قيل لهم : ما مالك بهذا أولى ممن خالفه كسفيان الثوري والليث والأوزاعي وأحمد بن حنبل ، وغيرهم ، ومن ادعى على هؤلاء وغيرهم أنهم ( 5 ) كلهم خالفوا الصحابة والتابعين ، حاشا مالكا وحده ، قالوا الكذب والباطل ، ولم ينفكوا ممن عكس عليهم هذه الدعوى الكاذبة فنسب إلى مالك ما نسبوه هم إلى غير مالك ، وحاشا لله من هذا ، بل كل امرئ منهم مجتهد لنفسه يصيب ويخطئ ، وواجب عرض أقوالهم على القرآن والسنة ، فلأيها شهد القرآن والسنة أخذ بقوله وترك ما عداه . وقد بينا ان سيرة الصحابة والتابعين وطريقهم هي الاجتهاد ، وطلب سنن النبي صلى الله عليه ولسم ولا مزيد ، وترك تقليد ( 1 ) إنسان بعينه . فهم قد خالفوا جميع سيرة الصحابة والتابعين ، وخالفوا طريقهم ، ولم يقتدوا بهم ، ونحن مقتدون بهم حقا ، والحمد لله رب العالمين . وأما قولهم : ' فعنهم أخذ دينه ' ، فلو اتقوا الله تعالى ولم يكذبوا كان أسلم لهم في الدنيا والآخرة ، ولو رجعوا إلى أنفسهم فنظروا هل رووا ما يدينون به عن الصحابة والتابعين أو لم يشتغلوا قط بشيء من ذلك فأن كان عندهم الصحابة والتابعون ( 2 ) إنما هم مالك وحده ، فهذه حماقة ( 3 ) لا يرضاها لنفسه ذو مسكة . وأما قولهم : ' وهم المبلغون والناقلون إليه شريعته نقل كافة عن كافة ( 4 ) ونقل واحد عن كافة ، ونقل كافة عن واحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ' ، فهذه والله طريقتنا لا طريقتهم ، وسبيلنا لا سبيلهم ، هذا أمر لا يستطيعون إنكاره ؛ لأنهم لا يشتغلون بحديث أصلا ، ولا بأثر ، إنما هو قول مالك وابن [ 175 ب ] القاسم ، وهذا رأي ، ولا مزيد إلا في الندرة فيما لا يعرفون صحته من سقمه ، وفيما يأخذون بعضه ، ويخالفون بعضه تظارفا ( 5 ) ولا مزيد ، ونسأل الله التوفيق
6 - ثم قالوا : ' ففي الخروج عن الثقات وعن الجماعة إلى رأي واحد إن كان ذلك الواحد من جملة الجماعة لا مزية له عليه ، فهو والله شذوذ ، وخطأ لا يحل ' ، وهذه صفتهم في خروجهم عن أقوال جميع الصحابة والتابعين ، وسائر الفقهاء لهم إلى رأي مالك وحده ، إن كان ذلك الواحد هو الذي أجازه الله تعالى برسالته ، واستصفاه لوحيه وعصمه ، وافترض طاعته على الجن والأنس ، فقد وفق ( 6 ) من خالف بأهل الأرض كلهم له ، فكيف وجميع ( 7 ) الصحابة والتابعين مجموعون على وجوب ترك قول كل قائل لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه طريقتنا ، والحمد لله رب العالمين كثيرا . فانظروا الآن من الزائر منا ومنهم ، ومن الشاذ نحن أم هم وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل .
Shafi 79
7 - ثم قالوا : ' ولاسيما أن هذا المدعي الحق فيما يمتثله ويؤثره ويصوبه من الترتيب ، والهيئات ، والاشتقاق ، والتفتيق ، وتغليب الظاهر ، وإعماله على مفهوم خطابه على ما يبدو للسامع ، وترك الأخذ بالتأويل ، والأحكام الماضية من السلف الصالح ' .
Shafi 80
فالجواب - وبالله التوفيق - إن هذا كلام مخلط يشبه كلام الممسوسين ( 1 ) لأنه ناقص غير تام ، وما ندعي الحق إلا فيما لا يقدر أي واحد ( 2 ) منهم أن ينكر ان الحق فيه من القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط ، وأما ذكر هيئات واشتقاق وتفتيق ، فحمق صفيق ، وهذيان عتيق ، ومن عند الله يكون التوفيق . وأما تغليبنا الظاهر وإعماله ، على مفهوم خطابه ، فكلام لا يعقل لاستعمال الظاهر دالا بمفهوم خطابه ، وهو نفسه الذي يبدو للسامع منه ، لا معنى للظاهر غير ذلك . فلو عقل هؤلاء المساكين [ 176 / أ ] ما تكلفوا ما يفتضحون فيه من قرب ، لكن من يضل الله فلا هادي له . وأما ترك الأخذ بالتأويل ، فلا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما تأويل يشهد بصحته القرىن ، أو سنة صحيحة أو إجماع ، فبه نقول إذا وجدناه ، وإما تأويل دعوى لا يشهد بصحته ( 3 ) نص قرآن ، ولا إجماع ، فهذا الذي ننكره وندفعه ونبرأ إلى الله تعالى منه . فإن كانوا أنكروا إنكارنا هذا الباطل ، فما يحتاج معهم إلى تطويل أكثر من أن نقول لهم : ما الفرق بين تأويلكم العاري من شهادة القرآن والسنة ، وبين تأويل غيركم من الحنفيين ( 4 ) والشافعيين إذا عري أيضا من تصحيح القرآن والسنة وهذا ما لا سبيل إلى فرق بينه ، ولا يتبع شيئا مما هذه صفته بعد قيام الحجة ووصول البيان إليه إلا ( 5 ) محروم التوفيق محروم البصيرة . وأما الأحكام الماضية بين السلف الصالح ، رضى الله عنهم ، فإنها لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أحكام لم يختلفوا فيها ، وإما أحكام اختلفوا فيها : فأما الأحكام التي لم يختلفوا فيها ، فهم الذين يخالفونها كخلافهم إعطاء أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما - بحضرة الصحابة دون خلاف من أحد منهم - ارض خبير اليهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر إلى غير أجل ، فخالفوا هذا الحاكم ، وقالوا : هذا باطل لا يجوز . وغير هذا كثير جدا قد جمعناه عليهم مما لا ينكرون صحته . وأما الأحكام التي فيها [ اختلاف ] ، فإنا حكمنا فيما امرنا الله تعالى أن يرد إليه ما تنازع العلماء فيه من القرآن ، ومن السنة الصحيحة ، فلأيهما شهد القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحة أخذناه . وأما هم فحكموا على الصحابة رضي الله عنهم رأى مالك ، واختيار ابن القاسم ، فلينظر الناظر أي الطريقين أهدى فإن قالوا : ما يتهم مالك ولا بن القاسم . قيل لهم : ولا يتهم سفيان ولا ابن المبارك ولا الأوزاعي ولا الوليد بن مسلم [ 176 ب ] ولا الليث ومن روى عنه ، ولا أحمد بن حنبل ولا سائر الفقهاء ، فأي فرق بين تحكيم أولئك فيما اختلف فيه السلف ، وبين تحكيم هؤلاء ومن فوقهم من التابعين .
8 - ثم قالوا : ' وهو مع ذلك ضعيف الرواية عار من الشيوخ ، وإنما هي كتب حسنها وأتقنها وضبطها ؛ فمنها مروي مما قد رواها ( 1 ) على شيخ أو شيخين لا أكثر ، ومنها كتب مشهورة ثابتة بيده صحيحة ، مثل المسانيد ، والمصنفات والصحيح كمسلم والبخاري ، لا يمترى في شيء منها ، ومنها ما قد خفي على المحتج لعدم الراوي لها ، وقلة استعمالها أو لطروئها ( 2 ) وحدوثها في بلدتنا لم يروها علماء بلدنا ، ولا شغلوا ( 3 ) بها ، ولا سمعوا بها فيما مضى عمن مضى ، فنافروها ولم يقبلوا عليها ، فهم لا مكذبون ( 4 ) لها ، ولا عاملون [ بها ] ، ثم إنهم رأوا فيها تغليب أحاديث قد تركت وسكت عنها الصحابة والتابعون ، والعلماء الماضون ، ومخالفة أحكام قد حكم بها السلف الصالح وقضوا بها واستمر الحكم عليها ' .
Shafi 81
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا كلام مخلط في غاية التناقض . أما قولهم عنا بضعف الرواية ، والتعري من الشيوخ ، فلو كان لهم عقول لأضربوا عن هذا ، لأنهم ليسوا من أهل الرواية فيعرفوا قويها ( 1 ) من ضعيفها ، ولا اشتغلوا [ بها ] قط ساعة من الدهر ، وما يعرفون إلا المدونة على تصحيفهم لها ، وما عرفوا قط من الصحابة ، رضي الله عنهم ، رجلا ، ولا من التابعين عشرة رجال ، ولا يفرقون بيت تابع وصاحب ، سوى من ذكرنا ، فلا حياء يمنعهم من أن يتعرضوا للكلام في الرواية . وأكثر المتكلمين في هذا الباب لا يقيمون الهجاء ، ولا يعرفون ما حديث مسند من حديث مرسل ، ولا ثقة من ضعيف ، ولا حديث النبي صلى الله عليه وسلم من كعب الاحبار ، وما منهم أحد يمزج له حديث موضوع مع صحيح فيميزه ( 2 ) ، ثم يقولون : عار من الشيوخ ، وهم ما كان لهم شيخ قط ، ولا عمروا لمجلس حديث ، ولا اشتغلوا [ 177 / أ ] بتفنيده ( 3 ) ، إنما كان عندهم عبد الملك بن سليمان الخولاني ( 4 ) ، فكان ( 5 ) شيخا صالحا لم يكن أيضا ( 6 ) مكثرا من الرواية ، كان ربما ألم به بعضهم إلمام من لا يدري ما يطلب ، يخرجون من عنده كما دخلوا ، لم يعتدوا قط عنه كلمة ، ولا اهتبلوا بما يروي بلفظة ، إنما يقعدون عنده قعود راحة ، إذا لم يكن عليهم شغل . ثم لم يلبث هؤلاء الخشارة أن نقضوا كذبهم خذلانا من الله تعالى ، فشهدوا لنا بأنها كتب أتقناها وضبطناها ، منها مروي رويناها عن شيخ أو شيخين ، ومنها كتب مشهورة ثابتة بأيدينا مثل المسانيد المصنفات ، لا يمترون فيها . وهذا ضد ما حكموا من تعرينا من الشيوخ ومن ضعف الرواية ، فهم لا يدرون ما يقولون ولا يبالون بالكذب والفضيحة ( 7 ) ، لكنا والله نصفهم بما هم ( 8 ) أهله من انهم ماضبطوا قط كلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صاحب ولا عن تابع ، ولا يحسنون قراءة حديث لو وضع بأيديهم ، ولا يفرقون بين جابر بن عبد الله وجابر بن زيد ولا يفرقون بين رأي ورواية ( 1 ) . وأما أن من كتبنا ما خفي على المحتج لعدم الراوي لها ( 2 ) وقلة استعمالها ، فما خفاء العلم على الحمير حجة على أهل العلم ، ولا قلة طلبهم لرواية السنن دليلا على عدم الراوي ، بل الرواة ولله الحمد موجودون . فمن ( 3 ) أراد الله تعالى به خيرا وفقه لطلب ما يقرب منه ، ولم يشغله عما يعنيه ما لا يعنيه وما لا يغني عنه من الله شيئا ؛ وكذلك ليس قلة استعمالهم لتلك الكتب عيبا على الكتب ، إنما ( 4 ) العيب في ذلك على من ضيعها ، وحظ نفسه ضيع لو عقل . وأما ما ذكره من طروئها في بلدهم ، فما بلدهم حجة على أهل العلم ، ولكن هكذا ( 5 ) يكون إزراء السكارى على الأصحاء ، واعتراض أهل النقص على أهل الفضل . والعجب كله قولهم : ' علماء بلدنا ' ، وهذه والله صفة معدومة في بلدهم جملة ، فما يحسنون ولله الحمد لا رأيا ولا حديثا ولا علما [ 177 ب ] من العلوم إلا الشاذ منهم والنادر ممن هو عندهم مغموز ( 6 ) عليه ، ' والجاهلون لأهل العلم أعداء ' ، ومن جهل شيئا عاداه ( 7 ) . والعجب أيضا عيبهم كتب العلم بأنهم لم يسمع ذكرها عندهم ولا سمعوا بها فيما مضى ، فنافروها ولم يقبلوا عليها . إن هذا لعجب ، فإذا نافرت كتب العلم هذه الطبقة المجهولة الجاهلة ، فكان ماذا لقد اذكرني هذا الجنون ما حكاه الأصمعي ( 8 ) ، فإنه ذكر أنه مر بكناسين على حش ، أحدهما يكيل والثاني يستقي ، والأعلى يقول للأسفل : إن المأمون سقط من عيني مذ قتل أخاه ! فما سقوط هذه الكتب عند هؤلاء الجهال إلا كسقوط المأمون من عين الكناس ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . وأما قولهم : إنهم رأوا فيها تغليب أحاديث قد ( 9 ) تركت ، فليت شعري من تركها ؟ لئن كان تركها تارك لقد أخذ بها من هو فوقه أو مثله ، وما ضر الحديث الصحيح من تركه ، بل تاركه هو المحروم حظ الأخذ به ، فإما مخطئ مأجور في اجتهاده ، وإما عاص لله تعالى في تقليده في ترك السنة . وأما قولهم : وسكت عنها الصحابة والتابعون والعلماء الماضون . فقد كذبوا على الصحابة والتابعين ، وعلى العلماء الماضين ، ونسبوا إليهم الباطل ، وكيف سكتوا عنها وهم رووها ونقلوها وأقاموا بها الحجة على من بعدهم كالذي يلزمهم . وأما قولهم : ومخالفة أحكام قد حكم بها السلف الصالح : ما خالفوا قط حكما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وغن كان واحد منهم أو اثنان خالفوا بعض ذلك ، فقد وافقه غير المخالف ممن هو ربما فوق المخالف له أو مثله ، والحجة كلها هي القرآن والسنة لا ترك تارك ولا أخذ آخذ ، والحق حق أخذ به أو ترك ، والباطل باطل أخذ به أو ترك ، وما عدا هذا فهذر وهذيان ، وبالله تعالى التوفيق . وما نعلم أشد خلافا لما حكم به الصحابة والتابعون [ 178 / أ ] منهم - كم قصة في الموطأ خاصة لأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان وغيرهم رضي الله عنهم خالفوها ! ! فمن السلف الصالح إلا هؤلاء لو عقلوا ونعوذ بالله من الخذلان والجبن
9 - ثم قالوا : ' ثم رأوا تصنيفا وتمثيلا واشتقاقا وتعريفا ونتائج تلزم المرء على سبيل طريق الاحتجاج ، وظاهر القول مما يحكمه البيان ، وينطلق به اللسان وتصوبه اللغة وتقيمه ( 1 ) [ الحجة ] وتصرفه الألحان من الكلام والأفانين من النحو وتحبير المعاني باللفظ وإشعارها بالحس وتنبيهها بالجرس ، فأنكروا ( 2 ) ذلك وفروا عنه ، إذ ( 3 ) لم يكن ذلك طريقة من مضى ولا سنن [ من به ] يقتدى ، فوقع النفار في النفوس ، وجعلوا ذلك كله بدعة وحدوث شرع ، وزيادة وتنميقا أحدثوه ( 4 ) أصحاب الكلام ، وأهل البدعة ' .
Shafi 84
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - : إن في هذا الكلام عبرة لمن اعتبر ، فأول ذلك إقرارهم لنا بأنهم رأوا لنا تصنيفا وتعريفا ( 5 ) ونتائج تلزم المرء على طريق الاحتجاج وظاهر القول مما يحكمه ( 1 ) البيان وينطق به اللسان وتصوبه اللغة وتقيمه الحجة وبصرفه ( 2 ) اللحن بأفانين النحو وتحبير المعاني في اللفظ ، وإشعارها بالحس وتنبيهها بالجرس . وهذه - ولله الحمد - نعمة جليلة لله تعالى علينا لا نقوم بشكرها ، وهل الحق إلا في النتائج اللازمة للمرء على طريق الاحتجاج أما سمعوا قول الله تعالى { فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } ( الرحمن : 33 ) ، ولا خلاف أن السلطان هو الحجة ، وقوله تعالى : { فلله الحجة البالغة } ( الأنعام : 149 ) وإذا شهدوا لنا بالبيان فلله الحمد كثيرا ، { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان } ، ( الرحمن : 1 - 2 ) ، أما علموا أن القرآن بيان من الله تعالى وإذا شهدوا لنا باللغة تصوب ( 3 ) قولنا ، فقد فزنا - ولله الحمد - بالقدح المعلى ( 4 ) ، قال تعالى : { قرآنا عربيا } ( يوسف : 2 / طه : 113 / الزمر : 28 / فصلت : 3 / الشورى : 7 / الزخرف : 3 ) ، فإذا اللغة تشهد [ 178 ب ] لنا ، والقرآن بأيدينا ، فقد فلجنا ( 5 ) - ولله الحمد - وخاب وخسر من خالفنا . وأما قولهم في خلال ذلك إنهم رأوا لنا تمثيلا واشتقاقا ( 6 ) فكذب بحت . أما الكذب فدعواهم علينا التمثيل ، فلسنا نقول به ولله الحمد ، لأنه من باب القياس الذي هو عندنا عين الباطل ، لكنا نريهم بالتمثيل الذي يقرون به تناقض أقوالهم وإفساد بعضها بعضا . وأما الاشتقاق ، فقد عرف أهل المعرفة أننا ( 7 ) لا نقول به فيما عدا الأوصاف من الصفات فقط . وأما قولهم ( 8 ) إنهم أنكروا كل هذا وقد فروا عنه : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير . وإن من أنكر البيان والحجة وما يصوبه النحو واللغة وأشعر بالحس ، لمخذول مسخم الوجه ، ونعوذ بالله من الضلال . وكذلك إخبارهم بوقوع النفار لهذا الحق ، وأنهم جعلوا كل ذلك بدعة ، فلا جرم قد قيل في القرآن : { إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر } ( المدثر : 24 - 25 ) . وأطرف من هذا كله ، جعلهم القرآن والسنة بدعة وإحداث شرع ؛ فهل في الحيوان أكثر ممن يجعل قول من قال : لا آخذ إلا بما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمعت عليه الصحابة ، إحداث شرع فليت شعري هل إحداث الشرع إلا في الحكم في التحريم والتحليل ، والرأي والظن ، لو عقلوا وأما قولهم ( 1 ) : لم يكن هذا طريقة من مضى ، ولا سنن من به يقتدى ، فقد كذبوا وأفكوا ، وهل طريقة من مضى ومن به يقتدى إلا التمسك بالقرآن ، والأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الطريقة التي لم تكن قط طريقة من مضى ، ولا من به يقتدى ، هي طريقتهم في تقليد إنسان بعينه ، فهذه البدعة المنفية التي لم تكن قط صدر الإسلام ، وإنما حدثت في القرن الرابع ، ونعوذ بالله من الحدثان كلها
10 - ثم قالوا : ' وان معنى الفقه غير معنى الكلام ' لأ 179 / أ ] . فالجواب - [ وبالله تعالى التوفيق ] - أن هؤلاء القوم ليسوا من أهل الفقه ولا من أهل الكلام ، ولا يحسنون شيئا غير التناغي والقول ( 2 ) الفاسد ، نحو ما أوردنا من كلامهم آنفا . وطريقة الفقه والكلام الصحيح ، إنما هي اتباع القرآن والسنن فقط ، وما عدا ذلك فباطل لا يجوز اتباعه ، وبالله تعالى التوفيق
11 - ثم قالوا : ' فخلوا كتاب حدا المنطق ( 3 ) لأجل ذلك ، ولما فيه التعمق والعرض ، وترتيب الهيئات ' .
Shafi 86
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا من ذلك الباطل ( 4 ) . ليت شعري أدخل حد المنطق في السنن إن هذا لعجب عجيب ؛ ومن كانت هذه منزلته من الفهم ما كان حقه أن يعود إلا إلى كتاب الهجاء . ومن طرائف الدهر قولهم : إن في حد المنطق ترتيب الهيئات ، وهذا أمر ما علمه قط أحد في حد المنطق ، ونسأل هؤلاء السعوات ( 5 ) عن حد المنطق هذا الذي يذمونه : هل عرفوه أم لم يعرفوه فإن كانوا عرفوه فليبينوا لنا ما وجدوا فيه من المنكرات . وإن كانوا لم يعرفوه ، فكيف يستحلون ( 1 ) أن يذموا ما لم يعرفوه ( 2 ) ألم يسمعوا قول الله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } ( يونس : 39 ) ولكن إعراضهم عن القرآن إلى ما يطول عليه ندمهم يوم القيامة ، [ هو ] الذي أوقعهم في الفضائح والقبائح ، ونعوذ بالله من الخذلان
12 - ثم قالوا : ' ولو صح ما ذكرته من أمثال هذه الطرائق وإقامتها بالحجة والكلام ، فقام بذلك أمثالك ، ورووها ( 3 ) عن الثقات والمشاهير ، وأقاموها بالأسانيد الصحاح والرواية الصحيحة ، حتى يوصلوها إلى من لا يهتم من التابعين ، لوجب لخصمك اتباعهم فيه ولزومه والعمل به ' .
Shafi 87
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - عن هذا شهادة منهم على أنفسهم ، فليعلموا ( 4 ) أن كل ما نقوله لهم بأجمعهم منقول بالأسانيد الصحاح عن الرواة الثقات موصلة إلى النبي صلى الله عليه [ 179 ب ] وسلم فواجب عليهم ما التزموه من الرجوع إلى الحق . فإن شكوا في ذلك ، فالميدان بيننا وبينهم ، وهذه كتبنا حاضرة مروية عنا ، مثبتة بخطنا وخط الثقات ، ممن أخذها عنا ، قد شرقت وغربت ، فهم بين خيرتين ( 5 ) : إما أن يحضروا معنا ، ويسألوا عن كل خبر أوردناه ( 6 ) ، فإن كان عندهم علم يعترضون به فليعترضوا ، وإن لم يكن عندهم فليسكتوا . وإما أمنا لهم ( 7 ) ، وإن كرهوا ذلك ، فليمحصوا ( 8 ) كتبنا . فغن كان فيها شيء غير الحق فقد مكناهم من مقابلتنا ، أو كفيناهم المؤنة في إثبات ما يريدونه . هيهات هيهات ، يأبى الله إلا أن يتم نوره ، ولا تستر الشمس بالأكف ، وما يعارض الحق بالجهل . نعم ، فليعلموا أنا لم نأت بحديث إلا من تصنيف البخاري أو تصنيف مسلم أو تصنيف أبي داود أو تصنيف النسائي أو تصنيف ابن أيمن أو تصنيف ابن أصبغ أو مصنف عبد الرزاق ، أو تصنيف حماد أو تصنيف وكيع أو مصنف ابن أبي شيبة أو مسنده أو حديث سفيان بن عيينة أو حديث شعبة أو ما جرى هذا المجرى ، مما لا يقدر عدو الله على القدح ( 1 ) فيها ، وأضربنا عن الحديث المستور من رواتنا . صيانة لأقدار الأئمة عن تعريضهم لمن لا يعبأ الله به شيئا ، إلا في الندرة مما لابد من إيراده . وكل هذه الدواوين عندنا - ولله الحمد - روايتنا وضبطنا وتصحيحنا ، وذلك فضل الله ومنته ؛ لكنهم بكم إذا ضمنا وإياهم مجلس ، فإذا غابوا أتوا بمثل هذه البلاغم العفنة المضحكة ، ونعوذ بالله مما امتحنهم به
13 - ثم قالوا : ' لكن بشرع زائد وعلم مبتدع انفردت به أنت من طريق نقلتها ، وخالفت فيها من مضى من طريق ما ظهر إليك واطلعت عليه من وهلة أو غفلة أو تضييع أو عي أو بلادة أو قلة فهم نسبته إلى الرواة المؤلفين للدواوين الراسخة ، لاتساعك في الكلام ، ومعرفتك في اللغة ، وتصديقك كتاب حد المنطق ' .
Shafi 88
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - [ 180 / أ ] أن هذا مما قد أخزيناهم ( 2 ) فيه ، وبينا أن الشرع الزائد والجهل المبتدع هو ما هم عليه من التقليد الذي قد نهى عنه من قلدوه ، والذي هم مقرون بأنه لا يجوز ، وكفى ضلالا وبدعة وشرعا مهلكا لمن يدين الله تعالى بشيء يقر بأنه باطل ، وهذا يكفي من عقل ، وبالله تعالى التوفيق . وأما قولهم : إننا انفردنا به وخالفنا من مضى ، فكذب منهم بحت لم يستحيوا فيه من عاجل الفضيحة . وما انفردنا قط بقول ولله الحمد ، بل نحن أشد موافقة للصحابة والتابعين ، رضي الله عنهم ، منهم . فقد ألفنا كتابا ضخما فيما خالفوا فيه الطائفة من الصحابة رضي الله عنهم بآرائهم ، دون تعلق بأحد من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم . وهم لا يجدون لنا هذا ، إلا أن يجدوه في الندرة ، ومما تعلقوا فيه من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فشتان بين الأمرين . وأما قولهم : إننا نسبنا إلى الرواة المؤلفين للدواوين الراسخة الوهلة ( 3 ) والغفلة والتضييع والعي والبلادة وقلة الفهم ، فقد كذبوا . وغنما بينا بالبرهان الحق خطأ من اخطأ وصواب من أصاب فقط ، وما العائب للصحابة إلا هم في ازورارهم ( 4 ) عن كل ما جاء عنهم ، وإطراحهم لجميع أقوال الصحابة استغناء عنهم برأي مالك وحده دون جميع فقهاء أهل الإسلام ، سالفهم وخالفهم . وأما إقرارهم لنا بالاتساع في الكلام والمعرفة باللغة ، فأمر لا نحمدهم عليه في الإقرار ، لأنا ( 1 ) لم نزد بذلك فضلا ، ولا يغضنا ( 2 ) جحدهم لذلك إن جحدوا وحسبنا الله ونعم الوكيل
14 - ثم قالوا : ' وصنعت دواوين وحبرتها على ما قد ظهر إليك ، لم تقتنع بتواليفهم ولا صوبتها ولا رضيتها ، فخالفتهم وعبتهم فيما ألفوه وخطأتهم فيما صوبوه ( 3 ) ، استنقاصا لحقهم ، وتنكبا عن [ 180 ب ] قصدهم ' .
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - أن هؤلاء القوم لا يستحيون من الكذب والبهتان ، يطلقون أننا رغبنا عن تواليفهم ولم نصوبها ولا رضيناها ، وخالفناها ، وعبناها ( 4 ) وخطأناها ، استنقاصا لحقهم ( 5 ) ، وتنكبا عن قصدهم ، فهلا بينوا هذا الضمير إلى من يرجع وهذه التواليف ما هي لكننا نحن نبين - بحول الله تعالى - كل ذلك ببيان نشهد الله تعالى وملائكته وكل من سمعه بأنه الحق ، وذلك أن الناس ألفوا : فألف أصحاب الحديث تواليف جمة ، وألف الحنفيون تواليف جمة ، وألف المالكيون تواليف ، والشافعيون تواليف ، فلم يكن عندنا تأليف طبقة من هذه أولى أن يلتفت إليه من تأليف غيرها ، بل جمعناها ولله الحمد وعرضناها على القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلأي تلك الأقوال شهد القرآن والسنة أخذنا به ، وتركنا ما عداه . وأما هم ( 6 ) فخالفوا تواليف جميع أهل الإسلام أولها عن آخرها ، ولم يقنعوا بها ولا صوبوها ( 7 ) ولا رضوها ، بل خالفوها وعابوها وخطأوا أصحابها استنقاصا لجميع أهل العلم من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم في مشارق الأرض ومغاربها ، حاشا المدونة والمستخرجة فقط . فمن أشد استنقاصا للعلماء ، ولكتب العلماء ، هم أم نحن وهل في هذا خفاء على ذي بصيرة والحمد لله رب العالمين .
Shafi 89
15 - ثم قالوا ( 1 ) : ' وخصمك لا يتهم أحدا ( 2 ) من الآخذين عنهم كذلك ، ولا يقع في نفسه أنك افقه ممن مضى ، ولا أحذق ممن سلف ، ولا أدرى بالمعاني والأحكام والتأويل ، وعلم الناسخ والمنسوخ والأوامر والأفعال ، والعام والخاص والمحظور والمباح ، والفرض والندب ، إذ قد حووا وطالعوا ما لا تحوي أنت عشر معشاره ولا تطالعه أبدا ، لقربهم من دار الهجرة ومعدن الرسالة ، ولصلاحهم ( 3 ) [ 181 / أ ] وإصلاحهم وورعهم ، وأنهم في القرن المحمود الممدوح ، وانهم قد طالعوا دواوين لم تطالعها أنت ، وأن من الدواوين ما لا تقف أنت على أسمائها ' .
Shafi 90
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - اننا قد بينا أنهم هم المتهمون ( 4 ) للصحابة والتباعين حقا ، لأنهم كلهم عندهم ( 5 ) في نصاب من لا ينبغي أن يشتغل به ويطلب أقوالهم ، ولا يلتفت إلى شيء من فقههم إلا ما وافق مالكا ( 6 ) فقط . وأما قولهم : إنه لا يقع بأنفسهم أننا أفقه ممن مضى ، ولا أحذق ممن سلف إلى آخر الكلام ، فهذا أمر لا ندعيه لأنفسنا ، ومعاذ الله أن نظن هذا ، ولكن كما نظروا هذا النظر ، وأصابوا في ذلك ، فلينظروا أيضا أن مالكا وابن القاسم لم يكونوا أفقه ممن مضى قبلهما من الصحابة والتابعين ، ولا أدرى منهم بالمعاني والأحكام والتاويل ، والناسخ والمنسوخ والأوامر والأفعال والخاص والعام ، والمحظور والمباح والفرض والندب ، إذ قد حووا بلا شك من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدته ما لا يحوي مالك وابن القاسم عشر معشاره ، ولا طالعوه قط ، لقرب أولئك من النبوة ومهبط الرسالة ، ولمضمون صلاحهم وورعهم ، وانهم القرنان الفاضلان المقدمان على قرن مالك وابن القاسم . فإذن ( 7 ) لم يكن تأخر مالك عنهم موجبا تقليد رجل منهم . إلا اننا نحن على كل حال ، ولله الحمد ، لا ندعو إلى رأينا ولا قولنا ، وإنما ندعو إلى اتباع المضمون له أنه أفضل جميع الإنس والجن ، والمقطوع بعظمته ، وأنه لا يقول إلا الحق ، والذي امرنا الله باتباعه بإقرارهم إن كانوا مسلمين . وإلى هذا ندعوهم ، وهم يدعوننا إلى ترك ما صح عنه عليه السلام ، واتباع رأي مالك . وإذا كان سائغا لهم عند أنفسهم خلاف سفيان الثوري ، وسعيد بن المسيب ، والزهري لقول مالك ، وساغ ( 1 ) لابن وهب وأشهب والمخزومي وابن الماجشون [ 181 ظ ] وابن نافع وابن كنانة مخالفة مالك في مسائل جمة ، فقد سوغ ( 2 ) ذلك وأوجب لنا وعلينا خلاف مالك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما القبر من دار الهجرة ، فدار الهجرة باقية بفضلها ، لم ينتقص من فضلها شيء أصلا ، وقل غناء ( 3 ) ذلك عن سكانها . وأما قولهم : ' لأنهم في القرن [ الممدوح المحمود ] لورعهم وصلاحهم ' ، فما مالك أولى بذلك من فقهاء زمانه كسفيان والليث والأوزاعي ومعمر وابن عيينة وابن المبارك وغيرهم ممن قبله وبعده ومعه ، والفضل بيد الله تعالى لا بأهواء المتمنين . وأما قولهم : إنهم طالعوا دواوين لم نطالعها نحن ، ومن الدواوين ما لا نقف على أسمائها ، فلعمري ما لشيوخهم ( 4 ) ديوان مشهور مؤلف في نص مذهبهم إلا وقد رأيناه ولله الحمد ، كثيرا ، ككتاب ابن الجهم وكتاب الأبهري الكبير ، والأبهري الصغير والقزويني وابن القصار وعبد الوهاب والأصيلي ( 5 ) ، ولقد كان ينبغي لهم أن يدخلوا فيها هذه الخبايا التي تركنا بها هؤلاء الجهال ، وإن كانت عندهم ولم يذكروها فقد غشوهم وظلموهم . وإن كانوا الغاية في ذلك الذي لم يقدروا على أكثر منها ( 1 ) ، فما بال كلام هؤلاء الجهال بالأهذار المقرة لعيون الشامتين ولكن لو عرف الناقص نقصه لكان كاملا
16 - ثم قالوا : ' وهل تدعي [ انك ] أنت أحطت ( 2 ) بجميعها علما ، وأحصيت ما في جميعها حفظا '
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - انه يعكس عليهم هذا السؤال ، يقال لهم : أتراكم أنتم أحطتم ( 3 ) بجميع تواليف العلماء ، وأحصيتموها ( 4 ) فإن قلتم : نعم ، كذبتم لأنكم لا تدرون شيئا من الكتب ، إلا خواص منكم ، إلا المدونة والمستخرجة فقط . وإن قلتم : لا ، قيل لكم : فمن أين وقع لكم أن تدينوا الله تعالى بقول مالك دون قول من سواه لو نصحتم أنفسكم وأما نحن فقلنا : قد أحطنا ( 5 ) - ولله الحمد - بكل ما يحتج به المخالفون [ 182 / أ ] والموافقون ، جمعنا ولله الحمد صحيح أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلمن وجمهور ما رواه المستورون ممن لم يبغوا مبلغ ان يحتج بنقلهم . هذا أمر نهتف [ به ] ونعلنه على رغم الكاشح وصغار وجهه ، فمن استطاع إنكارا فليبرز صفحته وليناظر مناظرة العلماء ، فمن عجز عن ذلك فليسأل سؤال المتعلمين ، أو ليسكت سكوت أهل الجهل الخبيرين بجهلهم . فإن أبوا إلا الرابعة ، وهي هذر النوكى ، فتلك خطة عائدة على أهلها بالخزي والدمار في الدنيا والآخرة ، والحمد لله رب العالمين
17 - ثم قالوا : ' وإنك تقصيت وأحصيت حديث رسول الله عليه وسلم كله أجمع أكتع حتى لم يفت حظك منه شيء ، فتعمل من [ غير تقليد ] صاحب وتابع '
Shafi 92
فالجواب - وبالله تعلى التوفيق - قد قلنا اننا حصلنا بروايتنا وضبطنا ولله الحمد كل خر صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرهان واضح ، وهو أن المشهور من المسندات والمصنفات الموعية للأخبار ، فقد جمعناها ولله الحمد ، ولا يشذ عنا خبر فيه خير أصلا ، وحتى لو لم نحط بها كلها لما وجب بذلك طرح ما بلغنا منها ، بل كان يلزمنا أن نعمل بما بلغنا ، ولو لم يكن إلا خبر واحد ، لا يحل غير ذلك . ثم نقول لهم : أتراكم أنتم أحطتم بجميع حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعلموا انه شاهد لأقوال مالك ثم نحن ننزلكم درجة : أتراكم أحطتم بجميع أقوال مالك ومسائله حتى لم يفتكم منها واحدة ، فعلمتم أنها كلها حق هذا أمر يدري الله تعالى أنكم كاذبون في كل ما تذكرون فيه ، فما سؤالكم إلا عائد عليكم . وهكذا عادة الله تعالى فيمن عند عن الحق ، وفارق طريق السنة ، وبالله تعالى التوفيق .
18 - ثم قالوا : ' فخصمك لا يرى في معتقده أن يتهم ( 1 ) صاحبا ، ولا أن [ 82 ب ] يخطئه وينسب إليه غفلة أو تقصيرا ( 2 ) ، وكيف وهم القدوة المرضيون الذين بهم قامت الشرائع وبينت الحقائق '
Shafi 93
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إننا ما نعلم أحدا أشد اتهاما للصحابة كلهم من هؤلاء المقلدين ، ولا أعظم تخطئة لهم منهم ، لأنهم طرحوا جميع أقوال الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا يرونهم في نصاب من يستحق أن تكتب أقوالهم إلا ما وافق رأي مالك ، فقد اعترفوا مخالفة الذين قامت بهم الشرائع ، وثبتت بتبليغهم الحقائق . ونحن نسألهم فنقول لهم : أخبرونا ، إذا أوجدناكم ( 3 ) في الكتب التي أنتم مقرون بها كالموطأ والبخاري أقوالا صحاحا عن الصحابة والتابعين [ أتقرون بها ] أو بما جاء عن مالك فإن قلتم : بما صح عن الصحابة ، كذبتم وأفكتم : وإن قلتم : بما جاء عن مالك ، صدقتم واعترفتم باتهامكم للصحابة وتخطئتكم إياهم ، بخلاف ما قلتم ها هنا . فإن قلتم : لم يخالف مالك تلك الأقوال إلا بما هو أولى منها . قيل لكم : إذا خفي ذلك العلم الذي وقع عليه مالك على أولئك الصحابة ، فأحرى وأمكن وأوجب على أن يخفى على مالك علم كثير وقفنا نحن عليه ، إذ نسبتنا نحن من مالك ، أقرب من نسبة مالك من أقل صاحب من الصحابة ، لان مالكا وغير مالك لو أنفق مثل أحد ذهبا لم يبلغ نصف مد شعير يتصدق به أقل الصحابة . وليست هذه المنزلة ولا هذه الفضيلة لمالك على أحد من الناس ، بل نحن وهم من جملة المسلمين ، لا نقطع له ولا لنا بنجاة ، ولا نضمن لنا ولا له الجنة ولا العصمة ، بخلاف ضمان ذلك للصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وبالله التوفيق
19 - ثم قالوا : ' ومن أحكامهم ما قضوا بها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستمر الحكم عليها أو تتابع العمل بها وهو حاضر معهم لا غائب ولا متخلف ، فهل كانت تحل لهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن يقضوا [ 183 / أ ] بخلاف ما يرضاه ، أو يبلغهم عنه حكم فيرغبوا عنه ويقتصروا على رأيهم ، أو يؤثروا أقوالهم على قوله بعد علمهم بقوله ، [ فإنه لا يجوز أن يقصدوا إلى خلافه عليه السلام استخفافا بأمره ] ويتجنبوا ( 1 ) ما يستحسنه عليه السلام فمعاذ الله وحاشا لله من ذلك ، فهم المنزهون عن كل شر ، المظنون بهم كل خير ، بهم قامت ( 2 ) أعلام الدين ، ورسخ العلم ، وسطع الحق وأشرق النور ، وأينعت ( 3 ) الحكمة ، واتسعت السنة ، ولاح الدليل ' .
Shafi 94
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذه التمويهات ليس بأيديهم غيرها ، وهي كلها عليهم لا لهم . أما قولهم في أحكامهم التي قضوا بها في عهد رسول الله صلى عليه وسلم ، فنحن الآخذون ، وهم المخالفون في أكثر الأمر ، كقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ، فخالفوهم بآرائهم في هذا القول الظاهر إلى جنب ( 4 ) رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكم علي باليمين في الثلاثة المتداعين في الولد بعلم رسول الله صلى الله وسلم في الإقراع عليه بينهم ، وغير ذلك كثير جدا ، وقد ذكرناه ( 5 ) في كتابنا ( 6 ) ولله الحمد . وأما قولهم : ' فهل كانت ( 7 ) تحل لهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أن يقضوا بخلاف ما يرضاه ، أو يبلغهم عنه حكم فيرغبوا عنه ويقتصروا على رأيهم بعد علمهم بقوله ، فإنه لا يجوز أن يقصدوا إلى خلافه عليه السلام استخفافا بأمره ' هذا ما لا يظن مسلم . لكن قد صح عن الواحد بعد الواحد منهم رضي الله عنهم أنه بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتأول فيه تأويلا ، كما روينا في نهيه عليه السلام عن الحمر الأهلية ، فاختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ، فقال بعضهم : إنما حرمت لأنها كانت حمولة الناس . وقال بعضهم : إنما حرمت لأنه لم تكن حمر ( 1 ) . وقال بعضهم : إنما حرمت لأنها كانت تأكل القذر . وقال بعضهم : بل حرمت ألبتة . فهذه التأويلات [ 183 ب ] كلها لا يجوز أن تكون كلها حقا ، ولا يجوز أن يضاف إلى الله منها شيء دون شيء آخر فيها بغير نص . فمثل هذا قد يتأوله المتأول مقدرا انه الحق ، وهذا ما لا يجوز قبوله ممن وهم فيه ، ومثل هذا كثير جدا . وأما مدحهم الصحابة رضي الله عنه ، فنحن أمدح لهم منهم ، وأعرف بحقوقهم وأشد توقيرا لهم ، ولكن القوم مموهون يهولون بمدح الصحابة وبإنكار خلافهم ، وهم أترك الناس لأقوالهم وأشد خلافا لهم ، لا يلتفتون إلى شيء من أقوالهم ، وإنما يكتبون أقوال مالك فقط . فما الذي ادخل تقليد مالك في مدح الصحابة ، لو نصحوا انفسهم ، وبالله تعالى التوفيق . وإذ يهولون بمدح الصحابة رضي الله عنهم ويعظمون خلافهم ، فنحن نسألهم عن المسائل المأثورة في الموطأ وغيره عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة ، أيأخذون بها أم يتركونها لقول مالك فإن قالوا : نتركها عاد تشغيبهم عليهم ، وإن قالوا : بل نأخذها كذبوا ، فإن قالوا : [ إن ] مالكا كان أعرف بما ترك من أين تركها ، قلنا لهم : يكفيكم بهذا إقرارهم بان مالكا أظفر بعلم خفي عن عمر ، وأمكن أن نعلم نحن كثيرا خفي عن مالك ولم يعرفه ، لما قد ذكرناه من النسبة والنسابة بين جميع الناس وبين مالك وبين أول الصحابة رضي الله عنهم ، وبالله تعالى التوفيق .
20 - ثم قالوا : ' فنفس هذا السائل تنازعه أن الذي عليه الأكثر والجمهور هو الهدى ، وانه الطريقة المثلى ، لاتفاق العلماء ، وائتلاف الجماعة وتتابع العمل ، واستقرار الأمر عليه . ويقوله عليه السلام : إن أمتي هذه لا تجتمع على ضلالة ، وإن أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ' .
Shafi 95
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذا من العار والشنار الذي ينبغي أن يستحيي منه من له مسكة حياء وعقل ، لان ما اتفقت عليه الجماعة وائتلفت فيه العلماء واستقر [ 184 / أ ] الأمر عليه ، فلا خلاف فيه بين أحد من الأمة ، ولا هم أولى به من غيرهم . وأما ما اختلف الناس فيهن فليس بعضهم أولى بالحق فيه من بعض ، إلا من وافق قوله القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، فلا أضل ولا أجهل ولا أقل حياء ممن يريد ( 1 ) رأي مالك الذي خالفه فيه غيره من العلماء بان يوجب اتباع الإجماع . وأما قولهم : إن الذي عليه الأكثر فهو الهدى والطريقة المثلى ، فكلام في غاية السخف ، لان الحنفيين كانوا أكثر من المالكيين أضعافا مضاعفة ، ولعلهم اليوم يوازونهم في العدد ، والشافعيين أكثر منهم ، فينبغي أن يتبع الأكثر ، وقد قيل أهل المقالة تعد كثرتهم ، فينبغي أن يعود الهدى لذلك ضلالا . وهذا ( 2 ) كلام مبرسم لا يرضى به [ من له ] مسكة عقل . وقد كان مالك وحده ثم وافقه نفر يسير ثم كثروا . وقد كان القائلون بمذهب الأوزاعي كثيرا ثم انقطعوا ، وكل هذا لا معنى له . ثم يقال لهم : عن التزمتم اتباع الأكثر فإن جميع أهل الإسلام مجمعون على [ أن ] اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو الواجب ، وأنه لا يلزم اتباع أحد دونه ، فلا تفارقوا هذا الإجماع فهو الحق المبين الذي من عاج عنه ضل في الدنيا والآخرة . وأما قولهم : ' أصحابي ( 3 ) كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ' ، فحديث موضوع ( 4 ) ، ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأنهم يلزمهم على هذا أن لا ينكروا على أحد قال بقولة قائلها صاحب ، وقد صح عن بعض الصحابة ألا غسل من الإكسال ، وإباحة الدرهم من الدرهمين ، وإباحة المتعة ، وأكل البرد للصائم ، وغير ذلك كثير لا يقولون به . وبالجملة إن القوم في هذر وعمى لا يحسنون ، ولا يبالون ما يتكلمون به ، والله اعلم
Shafi 96
21 - ثم قالوا : ' ويخشى أن يكون غيرك ببلدة أخرى فيأتيه [ أحدهم ] [ 184 ب ] ببرهان ودليل وحجة تقهره بخلاف ما قد أوضحت أنت وبينته له ، فيقع في نفسه أنه الحق ، فينصرف إليه ويعمل بما قد رواه له وأوضحه ، لحديث ( 1 ) قد صح عنده ورواه لم تطلع أنت عليه ولا أحصاه حفظك ، ولا أحاط به علمك ، فلا يدري بمن ( 2 ) منكما يثق ولا بأيكما يتعلق ، فيظل حيران هائما ، وكل واحد منكم يأتي بحجة وبرهان ودليل ، وإذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم كثير متسع أكثر من أن يحاط به أو يحصى ، ويدعي غيرك أن الحديث الذي ترويه أنت هو [ المنسوخ والذي يرويه هو ] ( 3 ) الناسخ بأصح أسانيد ' .
Shafi 97
فالجواب - وبالله تعالى التوفيق - إن هذه طريق ضلال ، ومن تلاعب الشيطان بمن أراد ( 4 ) الله تعالى به الخذلان ، ولو وجب أن لا يرجع أحد إلى ما قام به البرهان خوف أن يأتيه غيره بحجة أخرى ، لما وجب أن يؤمن كافر أبدا ، ولا أن يتوب مبتدع أبدا ، ولا أن يرجع مخطئ إلى حقيقة أبدا ، لأنه يقول اليهودي والنصراني والمجوسي والثنوي إذا أخذته الحجة ، وقام عليه البرهان : كيف أرجع إليك ولعل غيرك يلقاني يوما ما فيأتيني بحجة وبرهان ودليل يقهرني ، بخلاف ما أوضحت أنت وبينت ، فأرجع إليه أيضا ، وهكذا أبدا ويقول الخارجي والرافضي والمرجى والمعتزلي إذا قامت عليه الحجة ، واثبت له البرهان : كيف أرجع إلى قولك ، ولعل غيرك يلقاني يوما فيأتيني بحجة وبرهان ، ودليل يقهرني بذلك بخلاف ما أضحت أنت وبينت فأبقى حيران ويقول الحنفي والشافعي والحنبلي كذلك أيضا سواء سواء ، فعلى هذا القول الباطل يجب أن يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه ، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي يجب ان يبقى اليهودي على دينه ودين أبيه ، والنصراني كذلك والمجوسي كذلك والثنوي كذلك والمعتزلي كذلك والخارجي كذلك والرافضي كذلك ، فأي قول في الأرض أبعد عن الهدى من قول أدى إلى هذه الطريقة وهذا [ 185 / أ ] باب لا تنجلي الحيرة فيه عن الممتحن بها بكلام يسير ، ولا بد لطالب الحقائق من أن يسمع حجة كل قائل ، فإذا أظهر البرهان لزمه الانقياد والرجوع إليه ، وإلا فهو فاسق . والبرهان لا يجوز أن يعارضه برهان آخر ، فالحق لا يكون شيئين مختلفين ولا يمكن ذلك أصلا ، والحق مبين في الملل والديانات بموجب العقل والبراهين الراجعة إلى أول الحس والضرورة . فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق من طلب العلم المؤدي إلى معرفة البرهان ، والحق يستبين في النحل بالرجوع إلى القرآن الذي اتفقت عليه الفرق ، وإلى الإجماع المتيقن . فلا بد لمن أراد الوقوف على الحقائق في ذلك من الوقوف على ما أوجبه القرآن وصح به الإجماع . والحق يتبين فيما اختلف فيه العلماء بالرجوع إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من أحكام القرآن والسنن المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فواجب على كل مسلم طلب ما يلزمه من ذلك والبحث عنه واعتقاده الحق إذا صح عنده ، وكل هذا لا يدرك بالأماني الفاسدة ولا بالأهذار الباردة ولا بالدعاوى الكاذبة ، لكن بطلب أحكام القرآن والبحث عن الحديث وضبطه والاشتغال به عما لا يجدي ولا يغني ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . [ أما قولهم ] : إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم متسع جدا أكثر من أن يحصى أو يحاط به ، ويدعي غيرك أن الحديث الذي ترويه أنت منسوخ والذي يرويه هو هو [ الناسخ ] بأصح أسانيد - فكلام باطل ؛ بل حديث النبي صلى الله عليه وسلم محصى مضبوط مجموع مستقصى ( 1 ) ولله الحمد . ومن ادعى في حديث انه ناسخ أو منسوخ لم يصدق ألبتة إلا بأن يأتي على ما يدعيه بذلك بنص صحيح يخبر ( 2 ) انه منسوخ ، أو بإجماع صحيح يخبر انه منسوخ ، أو بتقدم تاريخ مع تعذر الجمع بينهما ، وكل هذا سهل ممكن لمن طلبه لا لمن قعد يهذر ويشتغل بالحديث البارد ، وبالله [ 185 ب ] تعالى التوفيق . وأما قولهم : ' إذ كل ما ذكرتم مانع من الرجوع إلى ما قامت به البينة ' ( 3 ) . فالحجة ( 4 ) عندكم فيما اعتقدتم مذهب مالك ولعل غيره أصح منه . فإن قالوا : وجدنا عليه من وثقنا به من شيوخنا . قيل لهم : وهكذا يقول أهل كل مذهب فيما هم عليه ، وهكذا يقول أهل كل ملة فيما هم عليه ، وهكذا يقول أهل كل نحلة فيما هم عليه : انهم كلهم وجدوا على ما هم عليه من وثقوا به ، ومن لا يتهم بأنه ما جهل الحق ، ولا انه قال الباطل . فحصلنا من هذا الجنون على لزوم الضلال وعلى قوله تعالى : { إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } ( الأحزاب : 67 ) . ويقال لهم : لا يخلو السائل عن هذا من أن يكون ممكنا منه طلب العلم وفهمه ، أو يكون غبيا ( 1 ) لا يقدر على الطلب . فإن كان ممكنا منه طلب العلم ، فليطلب وليبحث حتى يقف على البرهان ويعرفه . وإن كان غبيا ، فليقل لمن أفتاه بشيء فيما نزل به : أهكذا أمر الله تعالى ورسوله فإن قال له : نعم ، أخذ به ، وإن قال : لا ، أو قال له : هذا قول فلان ، وذكر أحدا من دون النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب أو تابع أو فقيه أو سكت عنه ، لم يلزمه اتباعه ، وطلب عند غيره ، وبالله تعالى التوفيق
22 - ثم قالوا : ' ومما ( 2 ) يحتج به عليك أيضا أن أسماء الرجال والتورايخ تختلف في الآفاق والأسانيد ، فمنها ما فيه الضعيف قوي ، والقوي ضعيف ، فكيف لك بالتغليب في الأحاديث المتضادة المتعارضة وقد يكون الرجال في الحديث الذي يرونه في طريق النهي ، هم الذين يرونه من طريق الأمر ، أو يتفرقوا فيكونوا هم ثقات لا داخل فيهم ، إن غلبت أصحاب النهي ، فقد كذبت ( 3 ) أصحاب الأمر وليسوا أهلا للتكذيب ' .
Shafi 99