لقد تركت نفسي على سجيتها، تتوجه بوحي روحي وتستلهم الحق مما حولي، وتستعرض ما تستلهم على حكم عقلي وتقدير ضميري، ثم سطرت ما اجتمع من ذلك لا أبغي به إلا رضا الله وحسن ثوابه، فليقل هذا أو ذاك من كتاب المسلمين أو غير المسلمين عن أي من هذه المواقف ما شاء، وليستند في حكمه أو رأيه إلى أي سند يطيب له أن يستند إليه، إنما ذلك قول له عندي احترامه ما اطمأننت إلى حسن القصد فيه، لكن لحكمي المكان الأول من الاحترام عندي، وإذا لم يكن من حسن القصد أن نعجل بالحكم قبل أن نطمئن إليه وقبل أن تتم بين أيدينا أسبابه، وكانت العجلة طيشا غير جدير بمفكر يحترم عقله، فليس من حسن القصد ولا من احترام المفكر عقله أن ينحل نفسه حكم غيره قبل أن يمحصه حتى يطمئن ضميره إليه، ومن الجمود الذي لا يقاس إليه طيش أن نأبى تقليب الأمور على وجوهها جميعا حتى نطمئن إلى بلوغ غاية ما نستطيعه من الحق فيها.
وأقف هنا لأدفع زعما حسب الذين زعموه أنه مغمز غمزوني به بعد تأليف كتابي «حياة محمد»، حسب هؤلاء أنني انقلبت بكتابة السيرة رجعيا، وكنت عندهم قبلها في طليعة «المجددين»، وكيف لا أنقلب عندهم رجعيا وقد جعلت القرآن حجتي، وما جاء فيه عن السيرة سندي، ولم أضعه كما يقولون موضع النقد العلمي؟! وكيف لا أنقلب عندهم رجعيا وقد دفعت بالحجة ما طعن به على النبي العربي جماعة المستشرقين ومن تابعهم من شباب المسلمين؟! وكيف ساغ لي بعد ذلك أن أزعم أمامهم في «حياة محمد»، وأن أزعم اليوم ها هنا أنني طليق من القيود، عدو للجمود، نصير للبحث العلمي الحر، وأنني أومن بحرية الرأي وأعتبرها الأساس، لا أساس غيره، لمن يريد معرفة الحقيقة، هم يرون ذلك خداعا يأباه العلم والبحث الحر، وأنا بعد عندهم رجعي انقلبت إلى الجمهور أتابعه ابتغاء رضاه، وكنت قبل ذلك أتقدمه أريد توجيهه وهدايته.
وأقف لأدفع هذا القول، وما أتلمس في دفعه سبيلا غير مواجهته، لا أقول: إن قوما غمزوني بنقيضه وزعموني خارجا عن الإجماع والتمسوا الحجة لتأييد قولهم، وليس يستقيم في المنطق أن يغمزني هؤلاء وأولئك، لا أقول ذلك وأنا ما كتبت أبتغي رضا قوم أو أتقي سخط آخرين، إنما كتبت للحق أبتغيه وحده، لكني أسائل أصدقائي أحرار الرأي عن غايتنا جميعا حين ننتج: ألسنا نبتغي التقدم خطوة جديدة في سبيل الكمال؟ فالعالم يبتغي مزيدا من العلم ومن الدقة فيه، ورجل الفن يبتغي سموا في الفن وفي إلهامه، وطالب الحقيقة يريدها أجلى سنا وأعم نورا، ومن الناس من يحسب أنا نحاول من إنتاجنا أن نبلغ السعادة لأنفسنا وللعالم، ومنهم من يعتقد أن السعادة لفظ مبهم يصور الوجدان مدلوله على هوى صاحبه، وأنا إنما نحاول من إنتاجنا أن نزيد في معارف الإنسان القليلة الضئيلة حين تقاس إلى هذا العالم الذي لا يعرف الزمان، ولا يعرف المكان له حدا؛ لنطوع للإنسان أن يزداد بالكون اتصالا، وأنا بين هؤلاء، أرى رأيهم، وأعتقد كما يعتقدون أن التماس المزيد من المعرفة والطموح من ذلك إلى أبعد غاية هو وحده المطمح الخليق بالجانب الإنساني فينا.
وإنما مطمعنا حين نلتمس المزيد من المعرفة أن نسمو بهذا الجانب الإنساني في الأفراد والجماعات، ولطالما التمسنا في شرقنا الأدنى أسباب النهوض بعلمنا لنقف إلى جانب الإنسانية المهذبة لا ينكس الخجل رءوسنا، ولا يحز في نفوسنا ذلك الشعور الممض بأنا دون الغرب مكانا، ولقد خيل إلي زمنا، كما لا يزال يخيل إلى أصحابي، أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى هذا النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، فتاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته.
خضع الغرب للتفكير الكنسي على ما أقرته «البابوية» المسيحية منذ عهدها الأول، وبقي الشرق بريئا من الخضوع لهذا التفكير، بل حوربت المذاهب الإسلامية التي أرادت أن تقيم في العالم الإسلامي نظاما كنسيا أهول الحرب، فلم تقم لها فيه قائمة أبدا، بذلك بقي الشرق مطهرا من الأسباب التي أدت إلى اضطراب الغرب الروحي وإلى ثوراته السياسية التي نشأت عن هذا الاضطراب، وبقي المسيحيون المقيمون بالشرق في جوار المسلمين في طمأنينة لا يصلون من نيران الثورات والحروب الأهلية ما كان يصلاه إخوانهم في الغرب، كان الخروج عن الكنيسة المسيحية في الغرب إعلانا للثورة على السلطان، وكانت الثقافة الروحية لذلك في قبضة رجال الدين يبرمون من أمرها ما يشاءون إبرامه، وينقضون ما يشاءون نقضه.
أما والإسلام لا يعرف الكنيسة، وأقرب الناس فيه إلى الله أتقاهم، ولا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فقد بقيت الثقافة الروحية في الشرق حرة طليقة لم تقيد إلا حين قعد الجهل بالناس؛ ففترت الأذهان، وخمدت القرائح، وجمدت القلوب، لم تعرف عصور الازدهار الإسلامي قيدا لحرية الفكر ما كان صاحبه بريء القصد يبتغي برأيه سبيل الحق، ولم يعرف المسلمون أن الذنوب يغفرها غير الله، كيف نستطيع أن ننقل ثقافة الغرب الروحية لننهض بهذا الشرق وبيننا وبين الغرب في التاريخ وفي الثقافة الروحية هذا التفاوت العظيم؟ لا مفر إذن من أن نلتمس في تاريخنا وفي ثقافتنا، وفي أعماق قلوبنا وفي أطواء ماضينا هذه الحياة الروحية نحيي بها ما فتر من أذهاننا وخمد من قرائحنا وجمد من قلوبنا.
هذا كلام واضح بين، ومن عجب أن يخفى على أصحابي فلا يرونه، وأن يكون خفاؤه سبب تثريبهم علي، ولكن لا عجب، فقد خفي هذا الكلام عني سنوات، كما لا يزال خفيا عن كثيرين منهم، وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذهما جميعا هدى ونبراسا، ولكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعين موئلا لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذرا لنهضة جديدة، وروأت فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين.
والفكرة الإسلامية المبنية على التوحيد في الإيمان بالله تنزع في ظلال حرية الفكر إلى وحدة الإنسانية، وحدة أساسها الإخاء والمحبة، فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور الله بينهم؛ وهم لذلك أمة واحدة تحيتها السلام وغايتها السلام، وهذه الفكرة الإسلامية تخالف ما يدعو إليه عالمنا الحاضر من تقديس القوميات وتصوير الأمم وحدات متنافسة يحكم السيف وتحكم أسباب الدمار بينها فيما تتنافس عليه، ولقد تأثرنا - معشر أمم الشرق - بهذه الفكرة القومية واندفعنا ننفخ فيها روح القوة نحسب أنا نستطيع أن نقف بها في وجه الغرب الذي طغى علينا وأذلنا؛ وخيل إلينا في سذاجتنا أنا قادرون بها وحدها على أن نعيد مجد آبائنا، وأن نسترد ما غصب الغرب من حريتنا وما أهدر بذلك من كرامتنا الإنسانية، ولقد أنسانا بريق حضارة الغرب ما تنطوي هذه الفكرة القومية عليه من جراثيم فتاكة بالحضارة التي تقوم على أساسها وحدها، وزادنا ما خيم علينا من سجف الجهل إمعانا في هذا النسيان.
على أن التوحيد الذي أضاء بنوره أرواح آبائنا قد أورثنا من فضل الله سلامة في الفطرة هدتنا إلى تصور الخطر فيما يدعو الغرب إليه، وإلى أن أمة لا يتصل حاضرها بماضيها خليقة أن تضل السبيل، وإلى أن الأمة التي لا ماضي لها لا مستقبل لها، من ثم كانت الهوة التي ازدادت عمقا بين سواد الأمم في الشرق، والدعوة إلى إغفال ماضينا والتوجه إلى وجهة الغرب بكل وجودنا، وكان النفور من جانب السواد عن الأخذ بحياة الغرب المعنوية مع حرصه على نقل علومه وصناعاته، والحياة المعنوية هي قوام الوجود الإنساني للأفراد والشعوب؛ لذلك لم يكن لنا مفر من العود إلى تاريخنا نلتمس فيه مقومات الحياة المعنوية؛ لنخرج من جمودنا المذل، ولنتقي الخطر الذي دفعت الفكرة القومية الغرب إليه، فأدامت فيه الخصومة بسبب الحياة المادية التي جعلها الغرب إلهه.
لم ألبث حين تبينت هذا الأمر أن دعوت إلى إحياء حضارتنا الشرقية، ومصدر الحضارة سنا الأرواح المضيئة، وقوامها وثبة النفوس القوية، والأرواح تضيء ما اتصلت بروح أقوى سلطانا وأبهر سنا، كما يضيء سلك البلاتين إذ يصهره تيار الكهرباء، وكم في ماضينا من أرواح ذات سنا باهر قادرة بقوتها على أن تبعث الحضارة الإسلامية خلقا جديدا، كما بعث فلاسفة اليونان الحضارة الغربية الحديثة، ومحمد بن عبد الله هو النور الأول الذي استمدت هذه الأرواح منه ضياءها، وهو الشمس التي أمدت كل هذه الأقمار بسناها؛ لذلك جعلت سيرته موضع دراستي في «حياة محمد»، وجعلت مواقفه في «منزل الوحي » مصدر إلهامي؛ لما تنطوي عليه من تعاليم أوحاها الله إليه، كلها السمو والقوة والجلال والعظمة، فأين هذا من تملق الجمهور أو متابعته التماسا لرضاه؟
Shafi da ba'a sani ba