يقول الذين يغمزونني: لك رأيك، فما لك لم تقف عند ما آخذ به المستشرقون محمدا؟! وما لك جعلت القرآن سندك الأول في السيرة، وسندك الأول في هذا الكتاب دون أن تمحص ما فيه تمحيص العلم وتنقده نقده؟! إنما فعلت لأنك خفت الجمهور فجاريته، وخشيت الناس فملقتهم، ولم تخش العلم ولم ترع حقه. غفر الله لكم أيها الصحب! وبم آخذ المستشرقون المنصفون النبي العربي؟ وما الذي نقدوا القرآن به؟ لست أريد العود إلى ما ذكرته عن ذلك في «حياة محمد» وفي تقديم طبعته الثانية، وحسبي أن أقول: إن ثلاثة عشر قرنا انقضت وتنصف القرن الرابع عشر منذ وفاة النبي ولم تستر هذه المآخذ من ضيائه إلا ما يستر كلف الشمس من ضياء الشمس، ولم يغير هذا النقد من سلطان الحق في كلام الله إلا ما تغير الرياح من سنن الطبيعة.
وها هم أولاء علماء العالم يعود اليوم أقدرهم وأكثرهم يعترفون بعجز العالم، ويقولون: ربنا، لا علم لنا إلا ما علمتنا، فإن يكن ذلك مبلغ العلماء من العلم فأخلق بالذين يتحدثون عن النقد العلمي، إذ يذكرون القرآن أن يكونوا أكثر تواضعا، وأن يخشوا الله أكثر من خشيتهم غرورهم، وأن يذكروا أن ما في النفس الإنسانية من قوى يتوسمها العلم، ولما تزل خفية عليه يعدل أضعاف ما كشف العلم حتى اليوم عنه، وأن ملايين الشموس والكواكب المنثورة في فضاء هذا العالم أضخم قوة وأخفى، وإني إن تحدثت عن شيء من هذه القوى التي لم أبلغ من العلم بها بعض ما بلغ العلماء، فليس ذلك متابعة للجمهور ولا خشية منه، ولكنه الإقرار بالضعف والعجز، وبأنا إذا وجب علينا أن نجاهد ما استطعنا لنبلغ من العلم ما يؤتيه الجهد، فواجب كذلك علينا أن نقر بأنا لم نبلغ من العلم ما يطوع لنا كل هذا الغرور.
أويجد أولئك الأصحاب - عفا الله عنهم - ما يفسرون به كيف استطاع «ماركوني»، وكيف استطاع «أديسون» أن يكشفا في عصرنا ما اكتشفا مما لم يستطعه غيرهما، وأضرابهما في العلم والمعرفة كثيرون؟ ما هذه القوة التي أرتهما ما لم يره غيرهما؟ ولماذا لم ينسج أضرابهما على منوالهما كما ينسج الصانع على غرار الصانع، والزارع على غرار الزارع؟ وهل يجدون ما يفسرون به لماذا ظل أرسطوطاليس وأفلاطون أئمة في الفكر، وقد تقدم العلم بالإنسانية نحو ثلاثمائة وألفي سنة؟ وما قولهم في الظاهرات التي يسجلها العلم اليوم، ولا يجد لها فيما اهتدى إليه من سنن الكون تأويلا؟
لا يسعك إذ تقف أمام هذه الأسماء والظاهرات إلا أن تقف موقف تواضع وإكبار، ولكن أين هذا من موقفي أمام آثار الرسول الكريم في منزل الوحي؟! ما كان أعظمه في تحنثه! وما كان أعظمه في دعوة قومه إلى الهدى، وفي صبره على أذاهم، وفي تأديبه المسلمين بأدب القوة على الحياة! وما كان أعظمه في هجرته وفي غزواته، وفي عفوه وحلمه، وفي تقواه وعدله! نعم ... ما كان أعظمه في كل صفاته وفي كل أعماله! لكن هذه العظمة التي لا تدانيها عظمة تصبح أمرا إنسانيا إذا ذكر الوحي وذكر اتصاله بربه وما رأى من آياته الكبرى، وهنا يبلغ السمو إلى حيث لا تدرك الإنسانية منه بعض المدى، ولا يسع الإنسان إلا أن يكرر قوله - تعالى:
والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
وهنا يحاول العقل أن يسمو فوق نفسه ليدرك هذا الأفق الأعلى، وهيهات أن يدركه والعلم ما يزال إلى اليوم محدود الأفق، قاصرا دون تفسير الكثير مما يقع عليه الحس، أفرجعية أن يقف الإنسان في منزل الوحي يحاول السمو إلى أن يفهم كيف كانت صورته؟! أم رجعية أن يقف الإنسان عند آثار صاحب الوحي يلتمس فيها الأسوة والعبرة؟! إن يكن ذلك ظن أصحابي فأحبب إلي بها رجعية أستسيغها.
وأدع الإشارة إلى محاولات قام بها السلف، ولا يزال العلماء من أهل عصرنا يعالجون القيام بمثلها ابتغاء الاتصال بالعالم في وحدته التي تشتمل الزمان والمكان، وإلى محاولات غيرها يبتغي العلماء بها تفسير هذا الاتصال على الطريقة العلمية الحديثة، وأدع الإشارة كذلك إلى أن المذاهب الفلسفية ترمي كلها إلى تصوير الكون بدءا وغاية، وإلى أنها تستمد هذا التصوير من وحي الحياة ما كان منها وما يكون، ما كشف عنه العلم وما يزال مطويا في سر الغيب، وهذه المذاهب تقتتل ويتهم بعضها بعضا بقصور وسائله عن درك الغاية، أو بنزوع وسائله منزعا لا يقف في حدود العلم وطريقته، بل ينحو نحو المنطق التجريدي «الميتافيزيقي» المتهم في نظر الواقعيين بالرجعية، فلو أنني حاولت هذه الإشارة لطال بي الاستطراد إلى ما لا يتسع له هذا التقديم، ثم لرأى القارئ أمثال «برجسون» - صاحب نظرية الإلهام والتطور المنشئ - يغمزون برجعية كالتي أغمز اليوم بها، وحسبي عزاء أن ما غمزوا به لم يحل بين الجمهور المثقف والعناية بمذاهبهم، حرصا من هذا الجمهور على اجتلاء الحق الذي تنطوي هذه المذاهب عليه، بل إن هذا المغمز بالرجعية ليزيدني غبطة بما لقيته بحوثي هذه من عناية القراء والباحثين بها عناية كانت الشهيدة على ما حباني الله من توفيقه في التحدث إلى الناس حديثا يرونه جديرا بالاستماع له.
على أن هذه الرجعية التي زعموا قد أتاحت لي أن أقوم في مواقفي هذه بالبحوث التي أشرت إليها عن شئون من بلاد العرب اختلفت الآراء عليها في عصور الإسلام المختلفة، وإذا لم أكن قد تعمقت في هذه البحوث؛ لأنني لم أقض بالحجاز إلا ستة أسابيع، ولم أنفق للبحث بعد ذلك من وقتي إلا ما قضت به الحاجة لتأليف هذا الكتاب، فلشد ما يسرني لو يمهد مجهودي لبحوث جامعية أدنى إلى الدقة في تصوير الحقيقة، بعد إذ بلغت أنا منها حظا أغتبط له في مسائل شتى خالفت رأي الجمهور في بعضها، وإني لأترك الحكم على هذه النتائج لمن اختصوا ببحث هذه الشئون، كما أترك لهم تقدير ما خالفت الجمهور فيه بعد أن رجعت إلى مصادر البحث العربية والأجنبية التي أتيح لي الرجوع إليها، وبعد أن استعنت في ذلك بمن أمدوني بمعلوماتهم، ومن عاونوني في تقصي المراجع المختلفة.
وليس يسعني وقد ذكرت من عاونوني، بدون التنويه في هذا التقديم بما كان لمعونتهم من فضل جدير بأطيب الثناء، وشبان الحجاز هم أول الأعوان الجديرين بشكري، والحاج عبد الله فلبي، أو سانت جون فلبي، حقيق بمثل هذا الشكر.
ولقد كان لرجال القسم الأدبي بدار الكتب المصرية من فضل معاونتي في كثير من مراجعاتي ما يستحقون من أجله أطيب الثناء، أما دقة الفن في طبع الكتاب فترجع إلى أولي الأمر في مطبعة دار الكتب، والقارئ يشاركني في شكرهم عليها.
Shafi da ba'a sani ba