هذه المعاني السامية هي تعاليم النبي العربي وتعاليم الإسلام، وهي ما توحيه آثاره
صلى الله عليه وسلم
إلى من يقف عندها في بلاد العرب، ولقد كان من أثر هذه التعاليم أن صارت بلاد العرب محط أنظار العالم كله في حياة الرسول وبعد اختياره الرفيق الأعلى، امتد الفتح الإسلامي في عهد أبي بكر وعمر إلى بلاد الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ثم تخطاهما إلى ما وراءهما من أنحاء العالم شرقا وغربا حتى بلغت الحضارة الإسلامية فيما دون المائة من السنين ما لم تبلغه حضارة غيرها في قرون متعاقبة، كان الرجل في أقصى الصين يذكر فتح العرب بلاد المغرب والأندلس، وكان المسلم في مصر وفي بلاد المغرب يتحدث مفاخرا بفتح جيوش الإسلام بلاد البوذية والكنفشيوسية، وحيثما امتد الفتح رفرف لواء الإسلام وشهد الناس أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأخذوا بتعاليم الدين الجديد وتفقهوا فيه، وأبناء العرب في هذه الوثبة الأولى يتيهون فخرا بما يتم على أيديهم كل يوم من معجزات لم يتأت لغيرهم في مختلف العصور أن يأتوا بمثلها، ويكادون يحسبون أن الله قد نصر دينه على الدين كله منذ هذا العهد الأول.
وأقبل أهل شبه الجزيرة على الفتح وجعلوا يزدادون منه ثراء ويزدادون بأنعم المال متاعا، وخيل يومئذ إليهم أن العهد الذهبي الذي فتح الله لهم أبوابه لا نهاية له، وأنهم ناهلون من ورده هم وأبناؤهم وحفدتهم أبد الآبدين ودهر الداهرين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يدر بخلد أحدهم وهو يعب من هذا النعيم أن للزمن دورته، وأن لكل يوم غده، وأن الله مغير ما بقوم يوم يغيرون ما بأنفسهم.
ولقد غيروا ما بأنفسهم فغير الله ما بهم، حتى صاروا إلى حال تبعث الحسرة إلى النفس، أنت اليوم تقطع عشرات الأميال ومئاتها فلا ترى لحضارة - بل لحياة - مظهرا، وفيما خلا المدن القليلة، لا أعرف منها غير مدن الشاطئ وغير مكة والمدينة والطائف، أنت لا تقف على الطريق المأهولة إلا عند نجع هنا ومخيم هناك، فما بالك بما سوى الطرق المأهولة مما ترامى به البادية الفسيحة؟! إنك من ذلك في مهمه لا يعرف غير الأفق حدا، وكلما أغذذت السير أو انطلقت بك السيارة تطوي الأميال إثر الأميال تراجع الأفق أمام ناظرك ولم يكشف جديدا، فإذا مر بك سانح من الطير أو ضارب في البيداء وراء بعيره سعدت بهذه المصادفة من الحياة سعادة راكب البحر شام سفينة تمخر العباب على مرمى النظر، وليس فيما يصادفك من ذلك إلا ما يزيدك حسرة على ما هوت إليه هذه البلاد من درك الهمجية، وهي التي وثب بها الإسلام تلك الوثبة فأضاء العالم بحضارة ظل ينعم بها قرونا عدة متوالية، نقل المسلمون أثناءها آثار التفكير الإنساني في اليونان القديمة وفي الهند وفي فارس، فمهد لهذه الحضارة الحالية التي ينعم العالم اليوم بها، ثم يتهم هذا الإسلام بأنه السبب في تأخر بنيه والذين يدينون به.
وقفت غير مرة إزاء هذه الظاهرة أسائل نفسي وأسائل غيري عن سببها، ولم يكن الاهتداء إلى السبب عسيرا، فهؤلاء العرب الذين وثبوا الوثبة الأولى على عهد النبي وفي صدر الإسلام قد أقام الكثيرون منهم في بلاد غير بلادهم، ولئن لم ينس الكثيرون منهم تعاليم دينهم لقد نسوا الغرض الأسمى الذي يدعو هذا الدين إليه، تفتحت لهم كنوز الأرض وتدفقت عليهم خيراتها فشغلوا بها وبتنظيم شئونها، وبذلوا في ذلك من الجهود ما حسبوه يساوي تثبيت دعائم الإيمان الصادق في نفوس الذين دانوا للإسلام، اكتفوا بأن يعلموا الناس فروض هذا الدين دون أن يفقهوهم فيه، وجعلوا غاية الفقه تنظيم علاقات المال في الحياة وفيما بعد الحياة، أما الإيمان الصادق الذي أضاء العالم ووثب بجزيرة العرب فقد اختص بالنظر فيه أهل الكلام وعلماؤه، من ثم شغل المسلمون بالحياة الدنيا عن الآخرة، وبالعرض عن الجوهر، وبحكم الناس عن سياسة أمورهم في دينهم ودنياهم؛ ولذلك كثرت الثورات وكثر الانتقاض وعم الاضطراب، واتخذ الملوك من العلماء والفقهاء ألسنة دعايتهم للدفاع عن ملكهم، كما اتخذهم الثائرون ألسنة دعايتهم لتسويغ ثورتهم، وإذ كان ما في بلاد العرب من ثروة لا يغني غناء ما في الشام وفارس ومصر والأندلس، فقد انتقل مقر الملك من المدينة إلى دمشق، وإلى بغداد، وإلى القاهرة، وإلى قرطبة.
من يومئذ بقيت بلاد العرب يحكمها من تئول إليه الخلافة وإمارة المؤمنين، ولقد حرص هؤلاء الملوك في العهد الأول على استرضاء العرب وإغراقهم في الأعطيات وفي الجاه، كذلك فعل بنو أمية، وكذلك فعل الأولون من بني العباس، ولم يكن لهم محيص من أن يفعلوا وبلاد العرب كانت بعد ذات حضارة لم تقوض دعائمها، وأبناء العرب كانوا بعد أولي الأمر في المملكة الإسلامية، فلما اشترك الفرس والتتار في بلاط بني العباس ونازعا العرب الحكم، بدأ المال ينقبض عن أهل شبه الجزيرة باعتباره حقا من حقوقهم، وبدأ الملوك والأمراء ينعمون عليهم بألوان من الإحسان مختارين مشكورين، ولم يعن أهل بلاد العرب بالتفريق بين الحق والإحسان بعد أن نزح الأكثرون من أبنائها الأصليين عنها، وحل الأجانب من رقعة المملكة الإسلامية محلهم فيها، وزاد في عدم عنايتهم بالتفريق أن بدأ الجهل يخيم عليهم كما بدأ يخيم على غيرهم من بلاد المسلمين، على أن بلاد العرب كانت أسرع من غيرها انحدارا إلى هاوية الجهل بعد أن فقدت بهجرة أبنائها العنصر الأساسي من مقومات الحياة القومية، وبعد أن نزح العلماء والفقهاء والأدباء إلى العواصم التي بعدت عن بلاد العرب حتى صارت العلوم والفنون جميعا غريبة عنها.
ولم تنهض البلاد الإسلامية المقدسة من بعد ذلك إلى يومنا الحاضر؛ لأن الدولة الإسلامية هوت إلى حضيض الجمود والجهل، فأما اليوم ففي بلاد العرب توثب إلى نهضة جديدة تكاد تضارع ما في غيرها من البلاد الإسلامية الأخرى.
وقفت عند هذه الظاهرات غير مرة أحاول تحليلها، لكني لم أقصد من هذا التحليل إلى تفصيلها، فالتفصيل يتناول تاريخ الأمة العربية الإسلامية، أو الأمم الإسلامية إن شئت، خلال ثلاثة عشر قرنا متوالية، وهذا جهد عظيم لا يتسنى لفرد أن يقوم به، وميدانه ما يزال بكرا في حاجة إلى تنظيم علمي دقيق، والغاية التي أبتغيها من وقوفي عند هذه الظاهرات لا تتناول من هذا الميدان إلا جانبا عاما يتصل ببلاد العرب، وأسباب تأخرها على القرون منذ العهد الإسلامي الأول إلى زمننا الحاضر، ثم إني لم أرد فيما ابتغيته من ذلك سرد تاريخ العرب وهجرتهم من بلادهم، أو ذكر من حل محلهم فيها، إنما اكتفيت بالإشارة إلى ذلك لأبين أن التأخر مرجعه إلى أسباب سياسية واجتماعية لا أثر للعقيدة ولا للدين فيها، وإلى أن العقيدة والدين تأثرا - كما تأثر العرب والمسلمون - بهذه الأسباب السياسية والاجتماعية، وأن من اليسير لذلك أن يعود العرب والمسلمون سيرتهم الأولى، وحسبهم أن يغيروا ما بنفوسهم ليغير الله ما بهم.
ليس هذا الكتاب إذن مرجعا من مراجع التاريخ الإسلامي، ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب، إنما هي وقفات وقفتها في بلاد الوحي ومنزله أستوحي فيها مواقف محمد عبد الله ونبيه ورسوله، وهناك في هذه المواقف تجردت نفسي، وسمت روحي، وكررت بالعصور والقرون أطويها، ورحت أتمثل هذا الهادي الكريم، وأتمثل المسلمين من حوله، ألتمس في ذلك الأسوة والعبرة آملا أن أشرك فيهما إخواني المؤمنين بالله وبما جاء من عند الله، ولم أتقيد في هذه المواقف بما جاء في كتاب غير كتاب الله الكريم، ولم أخضع تفكيري لحكم غيري، وما كان لي أن أخضعه وقد كنت أحس في كثير من هذه المواقف أنني بين القوم أسمع وأرى، وأتمنى لو كنت أجاهد معهم فأفوز فوزا عظيما، وما كان لي أن أفعل ثم أخدع نفسي فأزعم أنني إذ أحدث الناس إنما أقص عليهم ما رأيته وما أحسست به، في حين لا أقص إلا ما رآه غيري وما سبقني إلى تسطيره.
Shafi da ba'a sani ba