تقديم الكتاب
الكتاب الأول: فرض الحج
عزم السفر
بين المرفأين
العمرة بمكة
وقفة عرفات
أيام التشريق
الكتاب الثاني: البلد الحرام
مكة الحديثة
ابن السعود بمكة
Shafi da ba'a sani ba
الجمعة في الحرم
في جوف الكعبة
آثار مكة
في غار حراء
في غار ثور
ظاهر مكة
الكتاب الثالث: الطائف وآثارها
طريق الطائف
الطائف
بادية الطائف
Shafi da ba'a sani ba
أسواق العرب
الكتاب الرابع: بين الحرمين
طواف الوداع
طريق المدينة
وحي المدينة
الكتاب الخامس: مدينة الرسول
في المسجد النبوي
المدينة الحديثة
آثار المدينة
جنة البقيع
Shafi da ba'a sani ba
على قبر حمزة
أمام الحجرة النبوية
ظاهر المدينة
زيارة الوداع
الكتاب السادس: أوبة الرضا
بدر وشهداؤها
أوبة الرضا
خاتمة الكتاب
تقديم الكتاب
الكتاب الأول: فرض الحج
Shafi da ba'a sani ba
عزم السفر
بين المرفأين
العمرة بمكة
وقفة عرفات
أيام التشريق
الكتاب الثاني: البلد الحرام
مكة الحديثة
ابن السعود بمكة
الجمعة في الحرم
في جوف الكعبة
Shafi da ba'a sani ba
آثار مكة
في غار حراء
في غار ثور
ظاهر مكة
الكتاب الثالث: الطائف وآثارها
طريق الطائف
الطائف
بادية الطائف
أسواق العرب
الكتاب الرابع: بين الحرمين
Shafi da ba'a sani ba
طواف الوداع
طريق المدينة
وحي المدينة
الكتاب الخامس: مدينة الرسول
في المسجد النبوي
المدينة الحديثة
آثار المدينة
جنة البقيع
على قبر حمزة
أمام الحجرة النبوية
Shafi da ba'a sani ba
ظاهر المدينة
زيارة الوداع
الكتاب السادس: أوبة الرضا
بدر وشهداؤها
أوبة الرضا
خاتمة الكتاب
في منزل الوحي
في منزل الوحي
تأليف
محمد حسين هيكل
Shafi da ba'a sani ba
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
تقديم الكتاب
ثلاثمائة مليون من المسلمين أو يزيدون تهفو قلوبهم جميعا إلى منزل الوحي، ويهزهم الحنين إليه، يولون وجوههم شطره خمس مرات كل يوم أينما أقاموا الصلاة، وإلى البيت العتيق تهوي أفئدتهم رغبة في أداء فريضة الحج، وإلى قبر الرسول النبي العربي يحثهم الشوق ابتغاء زيارته، ومنهم من يود لو يقف عند كل مكان وقف فيه الرسول ليتمتع ما وسعه المتاع بما توحيه هذه المواقف من جلال روحي خلقي وإنساني يأخذ بمجامع النفس، ومنهم من يدعوه تطلعه العلمي إلى البحث عن أسرار هذه البيئة العربية التي اختارها القدر، فجعل منها منزل الوحي بالتوحيد إلى محمد عبد الله ورسوله في أكثر صور التوحيد سموا وصفاء: ماذا كانت قبل الرسالة؟ وكيف كانت حياة الرسول؟ وإلام صارت على توالي العصور؟
بلاد ذلك مبلغها من عناية العالم بها جديرة بأن تتعلق بها أفئدة الكتاب والشعراء والمؤرخين والعلماء، تتلمس أسرارها وتستلهم من روحها، وهي لا ريب قد استوقفت منهم كثيرين من أهل الأمم المختلفة، بل لقد استوقفت كثيرين من غير المسلمين في مختلف العصور وفي عصرنا الحاضر، على أن ما تحتفظ به من تراث دائم الجدة، بالغ غاية الدقة في تشعبه خلال التاريخ واتصاله بأرجاء العالم المختلفة، قد حال بين طائفة من الأدباء والشعراء والباحثين وبين التنقيب في كنوز هذا التراث، وذلك لما لها في نفوس الباحثين المسلمين من قداسة روحية تصدهم عن الغوص فيها إلى غاية أعماقها، ولما يغيب من أسرارها عن غير المسلمين بسبب هذه القداسة الروحية ذاتها، هذا إلى أن ما صارت إليه بلاد العرب منذ قرون طويلة من تأخير واضمحلال قد لوى الكثيرين عنها، ومال بهم عن التفكير في أمرها، شأن الناس إذ يرغبون عن كل ما انطفأ بريقه، وإن حوى في طياته أثمن النفائس؛ ومن ثم قل ما كتب عن بلاد النبي العربي في القرون الأخيرة مما له قيمة علمية تكشف الغطاء عن حقيقة هذه البلاد واختبار القدر إياها للوحي والرسالة على نحو يقنع تفكير هذا العصر، وكان ما كتبه العلماء الأجانب بعيدا عن تناول الظاهرة الروحية التي تغير لها وجه التاريخ منذ أربعة عشر قرنا، والتي ستظل عاملا خالد الأثر في حياة العالم ما كان للقوة الروحية في توجيه العالم أثر وسلطان.
ولقد حرصت على أن أقف ما استطعت عند البحوث التي تناولت بلاد العرب من هذه الناحية، منذ بدأت أكتب السيرة وأنشرها تباعا في فصول كتابي «حياة محمد»، ولقد وفقت لبعض ما أردت في الكتب العربية التي كتبت في العصور الإسلامية الأولى، وفيما كتب بالعربية من بحوث في هذه العصور الأخيرة، كما وفقت لناحية أخرى منه فيما كتبه علماء الغرب ورجال الرحلات فيه، لكنني شعرت آخر الأمر بأنني سأظل ينقصني جوهر ما أبحث عنه إذا أنا لم أذهب إلى بلاد النبي العربي بنفسي، ولم أقف حيث وقف في أدق ما مر به أثناء حياته، ولم أمهد لذلك بأن أحيط - في حدود الطاقة - بالبيئة العامة التي نشأ فيها، وإنما كنت أفكر في هذا لأتم به بحوثي في السيرة، فأما أن أجعله موضوع كتاب مستقل فذلك ما لم يدر بخلدي بادئ الرأي، فلما ذهبت إلى الحجاز وتجولت فيه تبينت أن ما قمت به من بحوث يتعدى السيرة إلى عصرنا الحاضر؛ لذلك رأيت من الخير أن أطالع القراء بكتاب مستقل يتناول ما رأيت، ويتناول ما أحسست به حين كررت بالزمن راجعا إلى عهد الرسول، وما كان بعد ذلك من حياة المسلمين في عهدهم الأول، ثم ما أصاب البلاد الإسلامية المقدسة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر، مع الإشارة الموجزة إلى ما أرجو أن يكون القدر قد خطه في لوحه لهذه البلاد العربية يوم ينصر الله دينه على الدين كله.
وهذه الإشارة الوجيزة التي يجدها القارئ في بعض فصول الكتاب هي مع ذلك أول ما تحركت له نفسي منذ فكرت في الرحلة إلى الحجاز حتى استقر بي العزم عليها، من يومئذ جعلت أسأل الذين سبقوني إلى الحج عن الحال في بلاد العرب، وعما يروى من الأنباء عن الوهابيين فيها، وعن مذهب ابن عبد الوهاب وما ينطوي عليه، أبتغي بذلك التهيؤ للبحث فيما يستطاع عمله لخير هذه البلاد العربية ولخير المسلمين الذين ينزلونها، وإنما عالجت هذا البحث لما أعرفه من أثر الفوارق المذهبية بين أهل الدين الواحد في مختلف البلاد والأديان والعصور، أفيبلغ الاختلاف بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين مبلغا يجعل العمل المشترك والتعاون عليه أمرا غير مستطاع؟ أم أن جوهر العقيدة الإسلامية في هذا المذهب كجوهرها في سائر المذاهب الإسلامية واحد لا يتغير:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ؟ أما الجوهر في المذاهب الإسلامية جميعا فهو التوحيد، أما وكتاب الله هو كتاب المسلمين جميعا، فالرجاء عظيم في تعاون المسلمين على إصلاح ما يتصل بشعائرهم وعقائدهم في بلاد البيت العتيق والقبر النبوي، وفي متابعة هذا التعاون على الزمن حتى يقضي الله بأمره، ويتم على الناس نوره.
وقد استغرق التفكير في هذا الأمر كل انتباهي منذ بدأت رحلتي؛ جعلت أفكر فيه حين ركبت الباخرة، وحين نزلت جدة، وأثناء الطواف والسعي بالعمرة بمكة، وعندما ذهبت أتم فرض الحج في عرفات وأختم شعائره في منى، ولم أعجب حين رأيت الكثيرين من زملائي في الحج يشاركونني في هذا التفكير، فقد رأوا جميعا حاجة مناسك المسلمين إلى الإصلاح، فتحركت لذلك نفوسهم وعقدوا الاجتماعات يلتمسون وجوه الرأي فيه، أما أنا فقد وضعت مقترحات لبعض ما رأيت من الإصلاح ودفعت بها إلى رجال الحكومة العربية، ولعل من بين الذين سبقوني إلى الحج من صنع صنيعي راجيا ما أرجو أن يوفق الله المسلمين لغاية الخير.
على أنني لم أتبسط أثناء هذا الكتاب في بيان ما رأيت وما أرى الآن من وجوه الإصلاح؛ لأنني لم أجعل هذا الغرض غايتي الأولى من وضعه؛ ولأن شئون الإصلاح تتطور في تصويرها تبعا لما تقضي به حاجات العصر، ونحن في زمن تسرع فيه الأشياء إلى التحول، حتى لترى ما كان صالحا أمس قد أصبح اليوم عتيقا، إن حدث بعده ما هو خير منه وأدنى إلى الفائدة، لكني تبسطت في بعض فصول الكتاب في نقد ما رأيته موجبا للنقد من أحوال بلاد العرب الاجتماعية، وفي بيان الأسباب التي أدت إلى تدهور البلاد العربية والإسلامية؛ لاقتناعي بأن النقد فاتحة الإصلاح، وبأن تحري الأسرار التي أدت إلى الضعف تشخيص للمرض يسهل معه وصف علاجه.
ومع وقوفي في موقف الناقد من بعض الشئون الحاضرة في البلاد المقدسة، لقد وجهت أكبر عناية إلى آثار الرسول الكريم فيها، وجعلت جل همي أن أسير حيث سار ؛ ألتمس ما في حياته من أسوة وعبرة، وأرجو أن أقف على شيء من السر الذي هيأ هذه البلاد لتكون منزل الوحي إلى النبي العربي خاتم الأنبياء والمرسلين.
Shafi da ba'a sani ba
ولم أتقيد في تفكيري وتأملي أمام شيء مما رأيت بغير منطقي وعقيدتي الذاتية اللذين كونتهما الطريقة العلمية الحديثة، فأنا لا أسلم بالعقيدة الموروثة إذا لم يكن لها أساس غير ما وجدنا عليه آباءنا، ما لم أمتحنها وأمحصها، وما لم أصل من أمرها إلى الإيمان بأنها هي الحقيقة كما يسيغها عقلي ويطمئن إليها ضميري، وأنا لا أحسب الذين يدينون بعقيدة ما لغير شيء إلا أنهم وجدوا عليها آباءهم مؤمنين حقا، بل أرى واجبا على الإنسان لكرامته الإنسانية أن يحاول ما استطاع فهم ما يلقى إليه، اتصل ذلك بالعقيدة أو بالتشريع أو بالعلم والفن، فإن اهتدى إلى الحق فيه فذاك، وإلا فليلتمس الهدى عند أهل العلم وليطالبهم بإقناعه، والعالم الجدير باسم العالم هو من أقنع سامعه بالحقيقة التي اهتدى إليها عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن، فلا إكراه في الدين، ولا يماري في الحقيقة متى تبين الرشد من الغي إلا من أضله هواه.
ولقد جعلت السير في إثر الرسول غرضي من يوم أتممت مناسك الحج، فقد كنت شديد التوق إلى هذا السير من سنوات، ومذ كنت أتابع الرسول خلال الكتب أبحث فيها سيرته، وكنت أحسب السبيل ميسرة، وأني سأجد عند كل موقف من مواقف الرسول أثرا يدل عليه ويشهد به، ولم يزعزع من ذلك في نفسي ما علمته من هدم الوهابيين القباب التي أقامها من حكموا الحجاز في العصور التي سبقتهم، فالوهابيون إنما استقروا فيه لعشر سنوات خلت، وهذا زمن لا يتيح للنسيان أن يجني على آثار خلدتها أربعة عشر قرنا متعاقبة، هذا إلى أن القباب ليست كل ما يمكن أن يقام من الآثار، وإذا كنا نحتفظ في مصر بآثار ناهضت الدهر خمسين قرنا متوالية؛ فما أحرى المقيمين ببلاد النبي العربي أن يحتفظوا بآثاره وهي أقرب من ذلك عهدا، وأبلغ دلالة، وأبقى على التاريخ ذكرا ، والوهابيون هم بعد مسلمون، إن أنكروا القباب فلا ينكروا ما سواها من دواعي الذكر والأسوة.
والحق أني لم أجد مشقة في تعرف الآثار التي هدم الوهابيون قبابها، فالأسف على ما صنعوا قد جعل الذين يخالفونهم في الرأي أشد ذكرا لها وحرصا على إشهاد الناس ما حل بها، ولقد شاركت هؤلاء في أسفهم من ناحية لا يفكر أحدهم فيها، فقد كان بين هذه القباب التي هدمت آثار بارعة في الفن، لم يكن يجمل بيد تقدر الفن أن تمتد إليها بسوء، لكني إنما وجدت المشقة في الاهتداء إلى آثار لها في تاريخ المسلمين الأولين أثر بالغ، ولا ترضى أمة تقدر تاريخها أن تذرها للنسيان يعبث بها ويجني عليها، من ذلك اختلاف الأقوال على موقع حنين حيث كانت الغزاة التي تركت في تاريخ الإسلام أثرا قل كمثله أثر، ومنه اختلافهم على موقع عكاظ سوق العرب جميعا في الجاهلية وفي صدر السلام، وإنما سوغ الجهل الذي خيم على بلاد العرب من عصر العباسيين هذه الجناية النكراء، كما سوغ أمرا لا يقل عنها نكرا، فقد أقيمت آثار لحوادث وقعت وليس في التاريخ ما يدل على أنها وقعت حيث تقوم هذه الآثار، وأقيمت آثار لحوادث لا يعرف التاريخ الحق من أمرها شيئا، وتحقيق ذلك كله وبيان قيمته العلمية أمر جدير بكل من يريد الحقيقة، وقد حاولت من ذلك ما استطعت، لكن هذا التحقيق يحتاج إلى أضعاف الزمن الذي قضيته بالحجاز، ويحتاج مع الزمن إلى بحوث ينقطع لها صاحبها ليقابل بين ما جاء في الكتب المختلفة؛ لعله يبلغ من المقابلة إلى ما تستقيم به النتيجة التي يتوخاها، وليس يخامرني ريب في أن هذا العمل لو قامت به بعثة جامعية لوجدت فيه من الفائدة ومن المتاع العلمي ما تهون معه كل مشقة.
وكان حديث الآثار الصحيحة التي وقفت عندها كله البلاغة في التعبير عما تدل عليه وتوحيه إلى النفس من آي الجلال والعظمة، فجبل حراء والغار في قمته، ومسجد عداس بالطائف، ومسجد العقبة وجمرتها، وجبل ثور ومختبأ رسول الله وأبي بكر بالغار فيه، والطريق الذي سلكه النبي إلى المدينة حين هجرته من مكة، ومسجد قباء، والمسجد النبوي والآثار الكثيرة المختلفة بالمدينة، وميدان بدر حيث وقعت الغزوة الأولى بين قريش والمسلمين، هذه المواقع وما إليها كانت تثير أمام ذهني ذكريات مليئة بالحياة كأنما حدثت بالأمس، وكانت توحي إلي معاني الإكبار والإعظام وتزيدني إجلالا لهذه الأماكن في صمتها العميق لم يغير منه توالي القرون، ولقد كان ما أوحته هذه الأماكن مما حاولت تصويره في هذا الكتاب أبلغ من كل ما استطاع قلمي أن يصفه أضعافا مضاعفة.
ولقد كشفت لي هذه الآثار عن صورة لبلاد العرب حين بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق تختلف أشد الاختلاف عن صورتها في الوقت الحاضر، وتختلف عما وقر في نفس الكثيرين من صورتها في آخر أيام الجاهلية، كانت بلاد العرب يومئذ ذات حضارة لا شيء يشبهها في شبه الجزيرة اليوم، كانت مكة وبعض بلاد الحجاز مدنا تجارية عامرة مزدهرة، وكانت الطائف ذات الخصب موضع عناية من أهلها بحسن استغلال خصبها وبصيانة سلامتها، وكان أهل تهامة وأهل الحجاز أولي ثقافة وحكمة وأدب، وكان العرب على اتصال بالعالم ينقلون تجارته بين الشرق والغرب مما زادهم علما وزادهم براعة في التجارة وأساليبها، لكنهم كانوا يحيون حياة سياسية أشبه بحياة اليونان القديمة وبحياة بعض بلاد الغرب، ومنها إنجلترا، منذ قرون قليلة، كانوا قبائل ومدائن تحتفظ كل منها بوحدتها وبسلطانها، وتدفع عن حياضها كل من يحاول الاعتداء على سيادتها أو على ثروتها، فلما بعث الله النبي العربي داعيا إلى التوحيد، ألفى في هذه القبائل قوة في الجدل وصلابة في الاستمساك بعقائدهم ونظمهم، فلما هدى الله الكثيرين من أهل يثرب إلى الإسلام، وهاجر النبي إليهم وانتصر بهم، وجمع كلمة العرب تحت لواء الدين الجديد، استطاعت هذه الأمة الفتية المستعدة بحضارتها للنهوض أن تثب إلى حيث وثبت، وأن تبث في العالم حضارة هذا الدين الذي اختارها الله لتكون وطنه الأول.
كشفت لي هذه الصورة عن جانب من السر الذي كنت ألتمسه، والذي كان خفيا عني حين كنت أتصور بلاد العرب كلها - كما يتصورها الكثيرون - واديا غير ذي زرع لا تصلح مقرا لحضارة يضيء نورها العالم، كان أهلها شديدي المحافظة على عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكانوا ذوي بأس وقوة في هذه المحافظة، وقد كانت عقائدهم الوثنية تمسكهم دون الوثوب إلى دعوة العالم المفكك الأوصال يومئذ ليستظل بحضارة أجدر بالإنسانية مما كانت تدعو إليه بزنطية وفارس، فلما هدى الله العرب إلى الإسلام كانت تعاليم هذا الدين منارة الهدى للعالم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
الأسوة والمثل بأدبه وخلقه وقوته على الحياة لنشر هذه التعاليم، وإحياء الإنسانية بروحها السامي، وهذه الأسوة هي ما تحدث به آثاره في بلاد العرب حديثها البليغ الذي تهتز له النفس وتسمو به الروح إلى مراتبها العليا حيث تشرق الأرض بنور ربها، ويرى الإنسان فيها فضائل الكون مجتمعة.
والواقع أن ما توحيه آثار الرسول من هذه المعاني بالغ غاية القوة، وأنت تستطيع أن تجمع هذه المعاني في عبارة موجزة: تكريس الحياة لمثل أعلى يوجه الإنسان إلى جهوده فيبلغه أو يموت دونه مستشهدا في سبيله، وحسبك أن تقف عند كل واحدة من كلمات هذه العبارة لترى الجلال والقوة والسمو على الحياة متضافرة كلها إلى خير غاية، فالمثل الأعلى في الإسلام ما هو؟ رضا الله بالبر والتقوى، وحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، صور هذه المعاني النفسية صورة مادية، واجعل منها مثلك الأعلى الذي تكرس له جهود حياتك، هذا التصوير وحده عظيم شاق يقتضيك مجهودا جسيما، أنت تريد الغنى مثلا أعلى لك، فليكن؛ لكن يجب أن تبتغي به رضا الله، وأن تكون في تحصيله برا تقيا، وألا تعامل الناس في تحصيله إلا بما تحب أن يعاملك به من أراد منهم مثل غايتك، وذاك يرى جاه الحكم مثلا أعلى له، فليكن؛ لكنه يجب أن يبتغي بالحكم رضا الله، وأن يكون فيه برا تقيا لا يعامل غيره إلا بما يحب أن يعامله الغير به إذا ولي أمره، فإذا صور المرء مثله الأعلى وجب عليه أن يسعى إليه غير وان، ويوجه إليه كل جهوده، وأن يستهين في سبيله بكل تضحية وإن كانت بالحياة، ولا عليه إن أصابه مكروه ما دام رضا الله مبتغاه، فكان لذلك برا تقيا مؤمنا بالأخوة الإنسانية، محبا لإخوانه المؤمنين ما يحب لنفسه، راجيا لهم الخير، وأن يبلغ كل من مثله الأعلى ما يود هو أن يبلغه من المثل الذي جعله نصب عينيه وغرض حياته.
لكن الأمثال العليا تتفاوت تفاوتا عظيما، وأسمى الأمثال - لا ريب - ما بعث الله به نبيه هدى للناس ونورا، ولقد بلغ من إيمان العرب في الصدر الأول بهذا المثل أن جعله كل منهم غرض حياته، وأن أخضع له كل ما في الحياة من غرض دونه، وأن كان الاستشهاد في سبيله أملا يتمنى أن يجعله الله نصيبه، فهذا الذي اتخذ التجارة حرفة له في الحياة ووقف لها جهوده كان يجعل في تجارته حظا معلوما للسائل والمحروم، وكان يهب نفسه لله يوم يدعو الداعي إلى الجهاد في سبيله؛ ذلك لأن الدين الجديد علمهم أن الأمة يجب أن يكون لها، كما يجب أن يكون للفرد، مثل أعلى، وأن المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة لكل منهم على الآخر ما للأخ على أخيه من حق، فيجب أن يكونوا يدا واحدة في سبيل الله يتحابون بنوره بينهم، ويبذلون في سبيله مهجهم وأرواحهم، يعلمون الناس بذلك أنه لا إله إلا هو، لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه - جل شأنه - برأ الناس ليتعاونوا على البر والتقوى حتى يبلغوا بالإنسانية كمالها، فإن بغت طائفة منهم فقد وجب عليهم جميعا أن يقاتلوا الباغي حتى يفيء إلى أمر الله.
Shafi da ba'a sani ba
هذه المعاني السامية هي تعاليم النبي العربي وتعاليم الإسلام، وهي ما توحيه آثاره
صلى الله عليه وسلم
إلى من يقف عندها في بلاد العرب، ولقد كان من أثر هذه التعاليم أن صارت بلاد العرب محط أنظار العالم كله في حياة الرسول وبعد اختياره الرفيق الأعلى، امتد الفتح الإسلامي في عهد أبي بكر وعمر إلى بلاد الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ثم تخطاهما إلى ما وراءهما من أنحاء العالم شرقا وغربا حتى بلغت الحضارة الإسلامية فيما دون المائة من السنين ما لم تبلغه حضارة غيرها في قرون متعاقبة، كان الرجل في أقصى الصين يذكر فتح العرب بلاد المغرب والأندلس، وكان المسلم في مصر وفي بلاد المغرب يتحدث مفاخرا بفتح جيوش الإسلام بلاد البوذية والكنفشيوسية، وحيثما امتد الفتح رفرف لواء الإسلام وشهد الناس أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأخذوا بتعاليم الدين الجديد وتفقهوا فيه، وأبناء العرب في هذه الوثبة الأولى يتيهون فخرا بما يتم على أيديهم كل يوم من معجزات لم يتأت لغيرهم في مختلف العصور أن يأتوا بمثلها، ويكادون يحسبون أن الله قد نصر دينه على الدين كله منذ هذا العهد الأول.
وأقبل أهل شبه الجزيرة على الفتح وجعلوا يزدادون منه ثراء ويزدادون بأنعم المال متاعا، وخيل يومئذ إليهم أن العهد الذهبي الذي فتح الله لهم أبوابه لا نهاية له، وأنهم ناهلون من ورده هم وأبناؤهم وحفدتهم أبد الآبدين ودهر الداهرين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يدر بخلد أحدهم وهو يعب من هذا النعيم أن للزمن دورته، وأن لكل يوم غده، وأن الله مغير ما بقوم يوم يغيرون ما بأنفسهم.
ولقد غيروا ما بأنفسهم فغير الله ما بهم، حتى صاروا إلى حال تبعث الحسرة إلى النفس، أنت اليوم تقطع عشرات الأميال ومئاتها فلا ترى لحضارة - بل لحياة - مظهرا، وفيما خلا المدن القليلة، لا أعرف منها غير مدن الشاطئ وغير مكة والمدينة والطائف، أنت لا تقف على الطريق المأهولة إلا عند نجع هنا ومخيم هناك، فما بالك بما سوى الطرق المأهولة مما ترامى به البادية الفسيحة؟! إنك من ذلك في مهمه لا يعرف غير الأفق حدا، وكلما أغذذت السير أو انطلقت بك السيارة تطوي الأميال إثر الأميال تراجع الأفق أمام ناظرك ولم يكشف جديدا، فإذا مر بك سانح من الطير أو ضارب في البيداء وراء بعيره سعدت بهذه المصادفة من الحياة سعادة راكب البحر شام سفينة تمخر العباب على مرمى النظر، وليس فيما يصادفك من ذلك إلا ما يزيدك حسرة على ما هوت إليه هذه البلاد من درك الهمجية، وهي التي وثب بها الإسلام تلك الوثبة فأضاء العالم بحضارة ظل ينعم بها قرونا عدة متوالية، نقل المسلمون أثناءها آثار التفكير الإنساني في اليونان القديمة وفي الهند وفي فارس، فمهد لهذه الحضارة الحالية التي ينعم العالم اليوم بها، ثم يتهم هذا الإسلام بأنه السبب في تأخر بنيه والذين يدينون به.
وقفت غير مرة إزاء هذه الظاهرة أسائل نفسي وأسائل غيري عن سببها، ولم يكن الاهتداء إلى السبب عسيرا، فهؤلاء العرب الذين وثبوا الوثبة الأولى على عهد النبي وفي صدر الإسلام قد أقام الكثيرون منهم في بلاد غير بلادهم، ولئن لم ينس الكثيرون منهم تعاليم دينهم لقد نسوا الغرض الأسمى الذي يدعو هذا الدين إليه، تفتحت لهم كنوز الأرض وتدفقت عليهم خيراتها فشغلوا بها وبتنظيم شئونها، وبذلوا في ذلك من الجهود ما حسبوه يساوي تثبيت دعائم الإيمان الصادق في نفوس الذين دانوا للإسلام، اكتفوا بأن يعلموا الناس فروض هذا الدين دون أن يفقهوهم فيه، وجعلوا غاية الفقه تنظيم علاقات المال في الحياة وفيما بعد الحياة، أما الإيمان الصادق الذي أضاء العالم ووثب بجزيرة العرب فقد اختص بالنظر فيه أهل الكلام وعلماؤه، من ثم شغل المسلمون بالحياة الدنيا عن الآخرة، وبالعرض عن الجوهر، وبحكم الناس عن سياسة أمورهم في دينهم ودنياهم؛ ولذلك كثرت الثورات وكثر الانتقاض وعم الاضطراب، واتخذ الملوك من العلماء والفقهاء ألسنة دعايتهم للدفاع عن ملكهم، كما اتخذهم الثائرون ألسنة دعايتهم لتسويغ ثورتهم، وإذ كان ما في بلاد العرب من ثروة لا يغني غناء ما في الشام وفارس ومصر والأندلس، فقد انتقل مقر الملك من المدينة إلى دمشق، وإلى بغداد، وإلى القاهرة، وإلى قرطبة.
من يومئذ بقيت بلاد العرب يحكمها من تئول إليه الخلافة وإمارة المؤمنين، ولقد حرص هؤلاء الملوك في العهد الأول على استرضاء العرب وإغراقهم في الأعطيات وفي الجاه، كذلك فعل بنو أمية، وكذلك فعل الأولون من بني العباس، ولم يكن لهم محيص من أن يفعلوا وبلاد العرب كانت بعد ذات حضارة لم تقوض دعائمها، وأبناء العرب كانوا بعد أولي الأمر في المملكة الإسلامية، فلما اشترك الفرس والتتار في بلاط بني العباس ونازعا العرب الحكم، بدأ المال ينقبض عن أهل شبه الجزيرة باعتباره حقا من حقوقهم، وبدأ الملوك والأمراء ينعمون عليهم بألوان من الإحسان مختارين مشكورين، ولم يعن أهل بلاد العرب بالتفريق بين الحق والإحسان بعد أن نزح الأكثرون من أبنائها الأصليين عنها، وحل الأجانب من رقعة المملكة الإسلامية محلهم فيها، وزاد في عدم عنايتهم بالتفريق أن بدأ الجهل يخيم عليهم كما بدأ يخيم على غيرهم من بلاد المسلمين، على أن بلاد العرب كانت أسرع من غيرها انحدارا إلى هاوية الجهل بعد أن فقدت بهجرة أبنائها العنصر الأساسي من مقومات الحياة القومية، وبعد أن نزح العلماء والفقهاء والأدباء إلى العواصم التي بعدت عن بلاد العرب حتى صارت العلوم والفنون جميعا غريبة عنها.
ولم تنهض البلاد الإسلامية المقدسة من بعد ذلك إلى يومنا الحاضر؛ لأن الدولة الإسلامية هوت إلى حضيض الجمود والجهل، فأما اليوم ففي بلاد العرب توثب إلى نهضة جديدة تكاد تضارع ما في غيرها من البلاد الإسلامية الأخرى.
وقفت عند هذه الظاهرات غير مرة أحاول تحليلها، لكني لم أقصد من هذا التحليل إلى تفصيلها، فالتفصيل يتناول تاريخ الأمة العربية الإسلامية، أو الأمم الإسلامية إن شئت، خلال ثلاثة عشر قرنا متوالية، وهذا جهد عظيم لا يتسنى لفرد أن يقوم به، وميدانه ما يزال بكرا في حاجة إلى تنظيم علمي دقيق، والغاية التي أبتغيها من وقوفي عند هذه الظاهرات لا تتناول من هذا الميدان إلا جانبا عاما يتصل ببلاد العرب، وأسباب تأخرها على القرون منذ العهد الإسلامي الأول إلى زمننا الحاضر، ثم إني لم أرد فيما ابتغيته من ذلك سرد تاريخ العرب وهجرتهم من بلادهم، أو ذكر من حل محلهم فيها، إنما اكتفيت بالإشارة إلى ذلك لأبين أن التأخر مرجعه إلى أسباب سياسية واجتماعية لا أثر للعقيدة ولا للدين فيها، وإلى أن العقيدة والدين تأثرا - كما تأثر العرب والمسلمون - بهذه الأسباب السياسية والاجتماعية، وأن من اليسير لذلك أن يعود العرب والمسلمون سيرتهم الأولى، وحسبهم أن يغيروا ما بنفوسهم ليغير الله ما بهم.
ليس هذا الكتاب إذن مرجعا من مراجع التاريخ الإسلامي، ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب، إنما هي وقفات وقفتها في بلاد الوحي ومنزله أستوحي فيها مواقف محمد عبد الله ونبيه ورسوله، وهناك في هذه المواقف تجردت نفسي، وسمت روحي، وكررت بالعصور والقرون أطويها، ورحت أتمثل هذا الهادي الكريم، وأتمثل المسلمين من حوله، ألتمس في ذلك الأسوة والعبرة آملا أن أشرك فيهما إخواني المؤمنين بالله وبما جاء من عند الله، ولم أتقيد في هذه المواقف بما جاء في كتاب غير كتاب الله الكريم، ولم أخضع تفكيري لحكم غيري، وما كان لي أن أخضعه وقد كنت أحس في كثير من هذه المواقف أنني بين القوم أسمع وأرى، وأتمنى لو كنت أجاهد معهم فأفوز فوزا عظيما، وما كان لي أن أفعل ثم أخدع نفسي فأزعم أنني إذ أحدث الناس إنما أقص عليهم ما رأيته وما أحسست به، في حين لا أقص إلا ما رآه غيري وما سبقني إلى تسطيره.
Shafi da ba'a sani ba
لقد تركت نفسي على سجيتها، تتوجه بوحي روحي وتستلهم الحق مما حولي، وتستعرض ما تستلهم على حكم عقلي وتقدير ضميري، ثم سطرت ما اجتمع من ذلك لا أبغي به إلا رضا الله وحسن ثوابه، فليقل هذا أو ذاك من كتاب المسلمين أو غير المسلمين عن أي من هذه المواقف ما شاء، وليستند في حكمه أو رأيه إلى أي سند يطيب له أن يستند إليه، إنما ذلك قول له عندي احترامه ما اطمأننت إلى حسن القصد فيه، لكن لحكمي المكان الأول من الاحترام عندي، وإذا لم يكن من حسن القصد أن نعجل بالحكم قبل أن نطمئن إليه وقبل أن تتم بين أيدينا أسبابه، وكانت العجلة طيشا غير جدير بمفكر يحترم عقله، فليس من حسن القصد ولا من احترام المفكر عقله أن ينحل نفسه حكم غيره قبل أن يمحصه حتى يطمئن ضميره إليه، ومن الجمود الذي لا يقاس إليه طيش أن نأبى تقليب الأمور على وجوهها جميعا حتى نطمئن إلى بلوغ غاية ما نستطيعه من الحق فيها.
وأقف هنا لأدفع زعما حسب الذين زعموه أنه مغمز غمزوني به بعد تأليف كتابي «حياة محمد»، حسب هؤلاء أنني انقلبت بكتابة السيرة رجعيا، وكنت عندهم قبلها في طليعة «المجددين»، وكيف لا أنقلب عندهم رجعيا وقد جعلت القرآن حجتي، وما جاء فيه عن السيرة سندي، ولم أضعه كما يقولون موضع النقد العلمي؟! وكيف لا أنقلب عندهم رجعيا وقد دفعت بالحجة ما طعن به على النبي العربي جماعة المستشرقين ومن تابعهم من شباب المسلمين؟! وكيف ساغ لي بعد ذلك أن أزعم أمامهم في «حياة محمد»، وأن أزعم اليوم ها هنا أنني طليق من القيود، عدو للجمود، نصير للبحث العلمي الحر، وأنني أومن بحرية الرأي وأعتبرها الأساس، لا أساس غيره، لمن يريد معرفة الحقيقة، هم يرون ذلك خداعا يأباه العلم والبحث الحر، وأنا بعد عندهم رجعي انقلبت إلى الجمهور أتابعه ابتغاء رضاه، وكنت قبل ذلك أتقدمه أريد توجيهه وهدايته.
وأقف لأدفع هذا القول، وما أتلمس في دفعه سبيلا غير مواجهته، لا أقول: إن قوما غمزوني بنقيضه وزعموني خارجا عن الإجماع والتمسوا الحجة لتأييد قولهم، وليس يستقيم في المنطق أن يغمزني هؤلاء وأولئك، لا أقول ذلك وأنا ما كتبت أبتغي رضا قوم أو أتقي سخط آخرين، إنما كتبت للحق أبتغيه وحده، لكني أسائل أصدقائي أحرار الرأي عن غايتنا جميعا حين ننتج: ألسنا نبتغي التقدم خطوة جديدة في سبيل الكمال؟ فالعالم يبتغي مزيدا من العلم ومن الدقة فيه، ورجل الفن يبتغي سموا في الفن وفي إلهامه، وطالب الحقيقة يريدها أجلى سنا وأعم نورا، ومن الناس من يحسب أنا نحاول من إنتاجنا أن نبلغ السعادة لأنفسنا وللعالم، ومنهم من يعتقد أن السعادة لفظ مبهم يصور الوجدان مدلوله على هوى صاحبه، وأنا إنما نحاول من إنتاجنا أن نزيد في معارف الإنسان القليلة الضئيلة حين تقاس إلى هذا العالم الذي لا يعرف الزمان، ولا يعرف المكان له حدا؛ لنطوع للإنسان أن يزداد بالكون اتصالا، وأنا بين هؤلاء، أرى رأيهم، وأعتقد كما يعتقدون أن التماس المزيد من المعرفة والطموح من ذلك إلى أبعد غاية هو وحده المطمح الخليق بالجانب الإنساني فينا.
وإنما مطمعنا حين نلتمس المزيد من المعرفة أن نسمو بهذا الجانب الإنساني في الأفراد والجماعات، ولطالما التمسنا في شرقنا الأدنى أسباب النهوض بعلمنا لنقف إلى جانب الإنسانية المهذبة لا ينكس الخجل رءوسنا، ولا يحز في نفوسنا ذلك الشعور الممض بأنا دون الغرب مكانا، ولقد خيل إلي زمنا، كما لا يزال يخيل إلى أصحابي، أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى هذا النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، فتاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته.
خضع الغرب للتفكير الكنسي على ما أقرته «البابوية» المسيحية منذ عهدها الأول، وبقي الشرق بريئا من الخضوع لهذا التفكير، بل حوربت المذاهب الإسلامية التي أرادت أن تقيم في العالم الإسلامي نظاما كنسيا أهول الحرب، فلم تقم لها فيه قائمة أبدا، بذلك بقي الشرق مطهرا من الأسباب التي أدت إلى اضطراب الغرب الروحي وإلى ثوراته السياسية التي نشأت عن هذا الاضطراب، وبقي المسيحيون المقيمون بالشرق في جوار المسلمين في طمأنينة لا يصلون من نيران الثورات والحروب الأهلية ما كان يصلاه إخوانهم في الغرب، كان الخروج عن الكنيسة المسيحية في الغرب إعلانا للثورة على السلطان، وكانت الثقافة الروحية لذلك في قبضة رجال الدين يبرمون من أمرها ما يشاءون إبرامه، وينقضون ما يشاءون نقضه.
أما والإسلام لا يعرف الكنيسة، وأقرب الناس فيه إلى الله أتقاهم، ولا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فقد بقيت الثقافة الروحية في الشرق حرة طليقة لم تقيد إلا حين قعد الجهل بالناس؛ ففترت الأذهان، وخمدت القرائح، وجمدت القلوب، لم تعرف عصور الازدهار الإسلامي قيدا لحرية الفكر ما كان صاحبه بريء القصد يبتغي برأيه سبيل الحق، ولم يعرف المسلمون أن الذنوب يغفرها غير الله، كيف نستطيع أن ننقل ثقافة الغرب الروحية لننهض بهذا الشرق وبيننا وبين الغرب في التاريخ وفي الثقافة الروحية هذا التفاوت العظيم؟ لا مفر إذن من أن نلتمس في تاريخنا وفي ثقافتنا، وفي أعماق قلوبنا وفي أطواء ماضينا هذه الحياة الروحية نحيي بها ما فتر من أذهاننا وخمد من قرائحنا وجمد من قلوبنا.
هذا كلام واضح بين، ومن عجب أن يخفى على أصحابي فلا يرونه، وأن يكون خفاؤه سبب تثريبهم علي، ولكن لا عجب، فقد خفي هذا الكلام عني سنوات، كما لا يزال خفيا عن كثيرين منهم، وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذهما جميعا هدى ونبراسا، ولكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعين موئلا لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذرا لنهضة جديدة، وروأت فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين.
والفكرة الإسلامية المبنية على التوحيد في الإيمان بالله تنزع في ظلال حرية الفكر إلى وحدة الإنسانية، وحدة أساسها الإخاء والمحبة، فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور الله بينهم؛ وهم لذلك أمة واحدة تحيتها السلام وغايتها السلام، وهذه الفكرة الإسلامية تخالف ما يدعو إليه عالمنا الحاضر من تقديس القوميات وتصوير الأمم وحدات متنافسة يحكم السيف وتحكم أسباب الدمار بينها فيما تتنافس عليه، ولقد تأثرنا - معشر أمم الشرق - بهذه الفكرة القومية واندفعنا ننفخ فيها روح القوة نحسب أنا نستطيع أن نقف بها في وجه الغرب الذي طغى علينا وأذلنا؛ وخيل إلينا في سذاجتنا أنا قادرون بها وحدها على أن نعيد مجد آبائنا، وأن نسترد ما غصب الغرب من حريتنا وما أهدر بذلك من كرامتنا الإنسانية، ولقد أنسانا بريق حضارة الغرب ما تنطوي هذه الفكرة القومية عليه من جراثيم فتاكة بالحضارة التي تقوم على أساسها وحدها، وزادنا ما خيم علينا من سجف الجهل إمعانا في هذا النسيان.
على أن التوحيد الذي أضاء بنوره أرواح آبائنا قد أورثنا من فضل الله سلامة في الفطرة هدتنا إلى تصور الخطر فيما يدعو الغرب إليه، وإلى أن أمة لا يتصل حاضرها بماضيها خليقة أن تضل السبيل، وإلى أن الأمة التي لا ماضي لها لا مستقبل لها، من ثم كانت الهوة التي ازدادت عمقا بين سواد الأمم في الشرق، والدعوة إلى إغفال ماضينا والتوجه إلى وجهة الغرب بكل وجودنا، وكان النفور من جانب السواد عن الأخذ بحياة الغرب المعنوية مع حرصه على نقل علومه وصناعاته، والحياة المعنوية هي قوام الوجود الإنساني للأفراد والشعوب؛ لذلك لم يكن لنا مفر من العود إلى تاريخنا نلتمس فيه مقومات الحياة المعنوية؛ لنخرج من جمودنا المذل، ولنتقي الخطر الذي دفعت الفكرة القومية الغرب إليه، فأدامت فيه الخصومة بسبب الحياة المادية التي جعلها الغرب إلهه.
لم ألبث حين تبينت هذا الأمر أن دعوت إلى إحياء حضارتنا الشرقية، ومصدر الحضارة سنا الأرواح المضيئة، وقوامها وثبة النفوس القوية، والأرواح تضيء ما اتصلت بروح أقوى سلطانا وأبهر سنا، كما يضيء سلك البلاتين إذ يصهره تيار الكهرباء، وكم في ماضينا من أرواح ذات سنا باهر قادرة بقوتها على أن تبعث الحضارة الإسلامية خلقا جديدا، كما بعث فلاسفة اليونان الحضارة الغربية الحديثة، ومحمد بن عبد الله هو النور الأول الذي استمدت هذه الأرواح منه ضياءها، وهو الشمس التي أمدت كل هذه الأقمار بسناها؛ لذلك جعلت سيرته موضع دراستي في «حياة محمد»، وجعلت مواقفه في «منزل الوحي » مصدر إلهامي؛ لما تنطوي عليه من تعاليم أوحاها الله إليه، كلها السمو والقوة والجلال والعظمة، فأين هذا من تملق الجمهور أو متابعته التماسا لرضاه؟
Shafi da ba'a sani ba
يقول الذين يغمزونني: لك رأيك، فما لك لم تقف عند ما آخذ به المستشرقون محمدا؟! وما لك جعلت القرآن سندك الأول في السيرة، وسندك الأول في هذا الكتاب دون أن تمحص ما فيه تمحيص العلم وتنقده نقده؟! إنما فعلت لأنك خفت الجمهور فجاريته، وخشيت الناس فملقتهم، ولم تخش العلم ولم ترع حقه. غفر الله لكم أيها الصحب! وبم آخذ المستشرقون المنصفون النبي العربي؟ وما الذي نقدوا القرآن به؟ لست أريد العود إلى ما ذكرته عن ذلك في «حياة محمد» وفي تقديم طبعته الثانية، وحسبي أن أقول: إن ثلاثة عشر قرنا انقضت وتنصف القرن الرابع عشر منذ وفاة النبي ولم تستر هذه المآخذ من ضيائه إلا ما يستر كلف الشمس من ضياء الشمس، ولم يغير هذا النقد من سلطان الحق في كلام الله إلا ما تغير الرياح من سنن الطبيعة.
وها هم أولاء علماء العالم يعود اليوم أقدرهم وأكثرهم يعترفون بعجز العالم، ويقولون: ربنا، لا علم لنا إلا ما علمتنا، فإن يكن ذلك مبلغ العلماء من العلم فأخلق بالذين يتحدثون عن النقد العلمي، إذ يذكرون القرآن أن يكونوا أكثر تواضعا، وأن يخشوا الله أكثر من خشيتهم غرورهم، وأن يذكروا أن ما في النفس الإنسانية من قوى يتوسمها العلم، ولما تزل خفية عليه يعدل أضعاف ما كشف العلم حتى اليوم عنه، وأن ملايين الشموس والكواكب المنثورة في فضاء هذا العالم أضخم قوة وأخفى، وإني إن تحدثت عن شيء من هذه القوى التي لم أبلغ من العلم بها بعض ما بلغ العلماء، فليس ذلك متابعة للجمهور ولا خشية منه، ولكنه الإقرار بالضعف والعجز، وبأنا إذا وجب علينا أن نجاهد ما استطعنا لنبلغ من العلم ما يؤتيه الجهد، فواجب كذلك علينا أن نقر بأنا لم نبلغ من العلم ما يطوع لنا كل هذا الغرور.
أويجد أولئك الأصحاب - عفا الله عنهم - ما يفسرون به كيف استطاع «ماركوني»، وكيف استطاع «أديسون» أن يكشفا في عصرنا ما اكتشفا مما لم يستطعه غيرهما، وأضرابهما في العلم والمعرفة كثيرون؟ ما هذه القوة التي أرتهما ما لم يره غيرهما؟ ولماذا لم ينسج أضرابهما على منوالهما كما ينسج الصانع على غرار الصانع، والزارع على غرار الزارع؟ وهل يجدون ما يفسرون به لماذا ظل أرسطوطاليس وأفلاطون أئمة في الفكر، وقد تقدم العلم بالإنسانية نحو ثلاثمائة وألفي سنة؟ وما قولهم في الظاهرات التي يسجلها العلم اليوم، ولا يجد لها فيما اهتدى إليه من سنن الكون تأويلا؟
لا يسعك إذ تقف أمام هذه الأسماء والظاهرات إلا أن تقف موقف تواضع وإكبار، ولكن أين هذا من موقفي أمام آثار الرسول الكريم في منزل الوحي؟! ما كان أعظمه في تحنثه! وما كان أعظمه في دعوة قومه إلى الهدى، وفي صبره على أذاهم، وفي تأديبه المسلمين بأدب القوة على الحياة! وما كان أعظمه في هجرته وفي غزواته، وفي عفوه وحلمه، وفي تقواه وعدله! نعم ... ما كان أعظمه في كل صفاته وفي كل أعماله! لكن هذه العظمة التي لا تدانيها عظمة تصبح أمرا إنسانيا إذا ذكر الوحي وذكر اتصاله بربه وما رأى من آياته الكبرى، وهنا يبلغ السمو إلى حيث لا تدرك الإنسانية منه بعض المدى، ولا يسع الإنسان إلا أن يكرر قوله - تعالى:
والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
وهنا يحاول العقل أن يسمو فوق نفسه ليدرك هذا الأفق الأعلى، وهيهات أن يدركه والعلم ما يزال إلى اليوم محدود الأفق، قاصرا دون تفسير الكثير مما يقع عليه الحس، أفرجعية أن يقف الإنسان في منزل الوحي يحاول السمو إلى أن يفهم كيف كانت صورته؟! أم رجعية أن يقف الإنسان عند آثار صاحب الوحي يلتمس فيها الأسوة والعبرة؟! إن يكن ذلك ظن أصحابي فأحبب إلي بها رجعية أستسيغها.
وأدع الإشارة إلى محاولات قام بها السلف، ولا يزال العلماء من أهل عصرنا يعالجون القيام بمثلها ابتغاء الاتصال بالعالم في وحدته التي تشتمل الزمان والمكان، وإلى محاولات غيرها يبتغي العلماء بها تفسير هذا الاتصال على الطريقة العلمية الحديثة، وأدع الإشارة كذلك إلى أن المذاهب الفلسفية ترمي كلها إلى تصوير الكون بدءا وغاية، وإلى أنها تستمد هذا التصوير من وحي الحياة ما كان منها وما يكون، ما كشف عنه العلم وما يزال مطويا في سر الغيب، وهذه المذاهب تقتتل ويتهم بعضها بعضا بقصور وسائله عن درك الغاية، أو بنزوع وسائله منزعا لا يقف في حدود العلم وطريقته، بل ينحو نحو المنطق التجريدي «الميتافيزيقي» المتهم في نظر الواقعيين بالرجعية، فلو أنني حاولت هذه الإشارة لطال بي الاستطراد إلى ما لا يتسع له هذا التقديم، ثم لرأى القارئ أمثال «برجسون» - صاحب نظرية الإلهام والتطور المنشئ - يغمزون برجعية كالتي أغمز اليوم بها، وحسبي عزاء أن ما غمزوا به لم يحل بين الجمهور المثقف والعناية بمذاهبهم، حرصا من هذا الجمهور على اجتلاء الحق الذي تنطوي هذه المذاهب عليه، بل إن هذا المغمز بالرجعية ليزيدني غبطة بما لقيته بحوثي هذه من عناية القراء والباحثين بها عناية كانت الشهيدة على ما حباني الله من توفيقه في التحدث إلى الناس حديثا يرونه جديرا بالاستماع له.
على أن هذه الرجعية التي زعموا قد أتاحت لي أن أقوم في مواقفي هذه بالبحوث التي أشرت إليها عن شئون من بلاد العرب اختلفت الآراء عليها في عصور الإسلام المختلفة، وإذا لم أكن قد تعمقت في هذه البحوث؛ لأنني لم أقض بالحجاز إلا ستة أسابيع، ولم أنفق للبحث بعد ذلك من وقتي إلا ما قضت به الحاجة لتأليف هذا الكتاب، فلشد ما يسرني لو يمهد مجهودي لبحوث جامعية أدنى إلى الدقة في تصوير الحقيقة، بعد إذ بلغت أنا منها حظا أغتبط له في مسائل شتى خالفت رأي الجمهور في بعضها، وإني لأترك الحكم على هذه النتائج لمن اختصوا ببحث هذه الشئون، كما أترك لهم تقدير ما خالفت الجمهور فيه بعد أن رجعت إلى مصادر البحث العربية والأجنبية التي أتيح لي الرجوع إليها، وبعد أن استعنت في ذلك بمن أمدوني بمعلوماتهم، ومن عاونوني في تقصي المراجع المختلفة.
وليس يسعني وقد ذكرت من عاونوني، بدون التنويه في هذا التقديم بما كان لمعونتهم من فضل جدير بأطيب الثناء، وشبان الحجاز هم أول الأعوان الجديرين بشكري، والحاج عبد الله فلبي، أو سانت جون فلبي، حقيق بمثل هذا الشكر.
ولقد كان لرجال القسم الأدبي بدار الكتب المصرية من فضل معاونتي في كثير من مراجعاتي ما يستحقون من أجله أطيب الثناء، أما دقة الفن في طبع الكتاب فترجع إلى أولي الأمر في مطبعة دار الكتب، والقارئ يشاركني في شكرهم عليها.
Shafi da ba'a sani ba
وسأظل أذكر ما حييت ما بذله الشيخ عبد الحميد حديدي أحد رجال مكة ذوي الفضل والعلم من معاونة صادقة كان لها أبلغ الأثر في اتجاهي، وكان مضيفي بمكة الشيخ عباس قطان أمين العاصمة قد أحدث التعارف بيني وبينه ورجاه أن يصحبني، فصحبني الرجل في تجوالي بمكة وبادية الطائف، وذهب معي إلى المدينة، ولزمني حتى ودعني مسافرا من ينبع، وقد كان في صحبته رفيقا ذكيا ودليلا محيطا بتفاصيل المواقع في مكة، عارفا بما في الطائف والمدينة، وقد أعانه السيد صالح القزاز والشريف حمزة الغالبي في رحلة الطائف، وأعانه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أعظم العون في رحلة المدينة، ولقد حرصت على الإشارة أثناء فصول الكتاب إلى ما قام به هؤلاء الإخوان الأجلاء من جهد في معاونتي جدير بكل تقدير وحمد.
أما ما كان لجلالة الملك ابن السعود ولوزير ماليته الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان ورجال الحكومة العربية من فضل في معاونتي فذلك ما لا يفي الثناء بتقديره.
وإني لأستغفر من نسيت ذكرهم من أولي الفضل ومن كانت لهم يد في معونتي، والله يجزيهم عني أحسن الجزاء.
ويزيد في تقديري لهذه المعاونة وفي ثنائي على الذين أسدوها إلي بما هم أهله أنها طوعت لي أن أقف أنا نفسي عند ما وقفت عليه من قبل في بطون الكتب، وأن أصف ها هنا ما كان لهذه المواقف من أثر مباشر في أطواء روحي، وإني لأعتبر هذه الحرية في الشعور فضلا من الله عظيما، فنحن في حاجة إلى أن نرى الأشياء في كل عصر بعين أهله، وأن نحكم عليها بما بلغنا فيه من تقدم أو تطور في العلم والحضارة، فأما أن نتقيد بما شهده السلف فذلك الجمود الذي لم يرضه الإسلام مذ بعث الله به نبيه، وذلك ما يحب أن نتنزه عنه؛ ولهذا قدمت أنني لم أتقيد أمام شيء مما رأيت بكتاب غير كتاب الله، ولم أجعل لي في التقدير إماما إلا ما رضيه العقل وطابت به النفس، ولم أخش إلا الله، وإلا ضميري فيما أفاضه الحس على القرطاس، فليغمزني من شاء بالرجعية، وليتهمني من شاء بمخالفة الإجماع، وليقدر هذا المجهود من شاء بما يشاء؛ فإنما أبتغي به الجزاء من الله يوم تجزى كل نفس بما كسبت ولا يعرف حميم حميما، والله وحده عليم بذات الصدور.
وأختم هذا التقديم راجيا أن يثمر هذا العمل من تقدير قومي ما يدعو جامعات الشرق العربي، وما يدعو الكتاب إلى مزيد من العناية بهذه البلاد الإسلامية المقدسة، ودراسة حاضرها وماضيها دراسة علمية دقيقة، وما يدعو المفكرين والساسة أولي العزم ليعملوا على إصلاح هذه البلاد، وليتخذوا من مكة أم القرى مقرا لعصبة أمم إسلامية، ألا لو فعل هؤلاء وأولئك ليكونن عملهم أعظم فوز لهذا الكتاب، وليكونن فتح الله يومئذ للمؤمنين مبينا.
محمد حسين هيكل
الكتاب الأول
فرض الحج
عزم السفر
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت .
Shafi da ba'a sani ba
في هذه الكلمات الحكيمة تمثل شعور الكثيرين من أصدقائي منذ أعلنت عزمي على الرحلة إلى الحجاز حاجا حتى ودعوني مسافرا، وفيها كان يتمثل شعوري لو أن أحدا حدثني عن هذه الرحلة قبل خمس سنوات من قيامي بها، فلما كانت سنة 1931 وبدأت أكتب «حياة محمد» شعرت بعد التقدم فيها بالرغبة الملحة في الذهاب إلى الحجاز، ولما سيرت شركة مصر للملاحة البحرية باخرتها الأولى «زمزم» إلى الأماكن الإسلامية المقدسة في سنة 1934، علمت أن في نيتها تسيير هذه الباخرة في أكتوبر من تلك السنة كيما تطوع لمن شاء قضاء العمرة في شهر رجب، إذ ذاك لم أتردد وصممت على انتهاز الفرصة لتنفيذ ما اعتزمته، لكن قلة الإقبال على هذه الزيارة الرجبية لم تسمح بتسيير الباخرة فلم تتم الرحلة، وأسفت لفوات الفرصة، وبقيت على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب وأن أقوم فيهما بكل ما أستطيع من الدراسات.
ولئن أسفت على فوات هذه الرحلة لقد أسفت كذلك لإضاعة فرصة عرضت من قبل، ولم يدر بخاطري يوم أضعتها أني سوف آسف عليها، تلك فرصة السفر إلى الحجاز مستهل الشتاء من عام 1930، حين دعت الحكومة السعودية الصحافة المصرية إلى الحجاز لحضور حفلة التتويج للملك ابن السعود، فقد دعيت إلى هذه الحفلة، وكنت أود إجابة الدعوة لولا إقبال مصر يوم ذاك على المفاوضة لعقد الاتفاق بينها وبين إنكلترا، ولما تكن كتابة سيرة النبي العربي قد تمكنت من نفسي لتربط بيني وبين بلاد العرب بصلة تجعلني حريصا على أن أتعجل زيارتها؛ لذلك لم يكن ما يحفزني إلى المفاضلة بين المقام بمصر ومغادرتها في وقت كانت أحوال مصر تدعوني للقيام بواجبي القومي كاملا؛ من ثم رجوت صديقي وزميلي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، فسافر إلى الحجاز ممثلا جريدة السياسة بالنيابة عني، ولو كشف لي يومئذ من الغيب ما يسرتني الأقدار له لما عدل بي عن السفر إلى موطن النبي العربي أي اعتبار، ولكن «ما تدري نفس ماذا تكسب غدا».
أقمت على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب، وآثرت أن يكون ذلك أشهر الحج؛ لأؤدي فرضه وأدرك إدراكا ذاتيا كل حكمته، ووطد عزمي ما عرفت في فرائض الإسلام الأربع الأولى من حكمة بالغة يدرك سمو جلالها وجليل نفعها كل من يؤديها بنفسه أو يعيش بين أهله وإخوانه الذين يؤدونها، ألا يجمل بي أن أقف بنفسي بين الحجيج بمكة ومنى وعرفات، ومع الذين يزورون قبر النبي بالمدينة؟ لأؤدي فريضة الحج فأستبين حكمته، ولأقف على ما يدركه المسلمون اليوم من هذه الحكمة، ولأرى كيف يؤدون هذا الفرض؟
أما فرض الحج ليشهد الناس منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ ولتتيسر لهم بالاجتماع لأداء الفريضة فرصة التعارف والتفاهم؟ فليكن الوقوف على مبلغ تقديرهم لهذه الحكمة بعض ما أشهده في الحج من منافع.
وبدأ التفكير في السفر للحج يساور نفسي ويشغل حيزا من ذهني، ولم أطالع بهذا التفكير بادئ الرأي أحدا؛ إذ كانت شوائب التردد ما تزال تشوبه، فقد انتشرت أمام ذهني في الأيام الأولى منه صورة غير مشجعة لما قد يقوم في سبيل هذا السفر من عقبات، فما عسى أن تكون الحياة في بلاد العرب لرجل تقتضيه عادات الحياة ما لا يتيسر هناك؟ وما عساي أفعل إذا مرضت؟ ولي ابن عم مات على عرفات ودفن بمكة من عامين لعله لو أسعف بالعلاج والطب لما تيتم أبناؤه، وإذا استطاع الإنسان التغلب على مخاوف المرض وحاجات الحياة في غير أشهر الحج، فكيف يغالبها حين يختلط حابل المسلمين بنابلهم بمكة، وحين تكون الأماكن المقدسة معرضة للأمراض الوافدة إليها من الهند ومن جاوة ومن مختلف أقطار الأرض؟ هذا إلى ما تقضي به نظم مصر الصحية من احتياط بالوقاية الطبية قبل السفر، وحجر صحي في العودة.
والإحرام: التجرد من الملابس كلها، والاكتفاء بمئزرين غير مخيطين يلتف الإنسان بهما، ويبقى عاري الرأس ليله ونهاره أياما عدة، كيف يحتمل الإنسان ذلك كله في الحجاز؟! وهو - فيما يصفه الواصفون - بلاد بادية، لا تعرف من صور الحضارة ما تطمئن إليه نفس أحد ممن أصبح جوار الطبيب والصيدلية بعض ضرورات حياته.
ولئن نسيت هذه الاعتبارات وجعلت لي فيمن سبقني إلى الحج أسوة ، أأنسى هذا الاضطراب الدولي القائم بسبب الحرب الناشبة بين إيطاليا والحبشة؟ لقد ألبت إنكلترا الدول المشتركة في عصبة الأمم على عاهل «رومية»، وحشدت في البحر الأبيض المتوسط وعلى حدود مصر من القوات ما ينذر بالحرب بين عشية وضحاها؛ حرب يكون البحر الأحمر وطريق الحجاز فيه بعض ميادينها، فإذا أنا سافرت ثم وقعت الحرب فكيف لي أن أعود إلى وطني وأهلي وأبنائي؟
مر ذلك كله في خاطري فزاد في ترددي، ولقد حاولت الاطمئنان إلى رأي فيه بسؤال أصحابي الذين زاروا الحجاز عن نوع العيش هناك، وبسؤال المشتغلين مثلي بالسياسة عما يتوقعونه من أثر الخلاف بين إيطاليا وإنكلترا، على أنني لم أتجاوز السؤال إلى ما قد يفهم منه عزمي على السفر، فلو أنهم فهموا مني ذلك العزم لأقدمت وسافرت غير عابئ بالنتائج، ذلك مزاجي، ولعله مزاج من يغلب عليهم الحياء في اتصالهم بالناس، يجازفون مخافة أن يقال: خافوا! ولم أتلق من أصحابي بادئ الرأي جوابا أطمئن إليه، فبينا كان قوم يهونون علي أمر العيش بالحجاز كان آخرون يصفون لي من عسره وشدته ما يطير معه اللب شعاعا، ولقد أوجب بعض الأطباء أن يأخذ المسافر معه من صناديق المياه المعدنية ما يكفيه اتقاء تلوث مياه الحجاز، ورأى آخرون أن يحمل المسافر معه كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب.
لم يكن الأمر على هذا التصوير سفرا إلى بلاد قريبة يذهب الإنسان إليها، ويقضي مناسكه بها ويعود منها في أسبوعين أو نحوهما، فالعدة للطواف حول الأرض أو السفر إلى القطب لا تزيد على ما يذكرون، أية عزيمة لا تتضعضع إزاء هذه المخاوف ولا ترد صاحبها عن عزمه؟!
صحيح أن أكثر الذين زاروا الحجاز وحجوا البيت وزاروا المدينة هونوا علي الأمر وجعلوه في صورة من اليسر لا يبقى معها موضع للتردد، بل أضاف بعضهم أن هذه الرحلة جميلة محببة تثير في نفس المثقف من الإحساس والصور الشعرية والفنية السامية ما لا تثيره الرحلات إلى المصايف، أو بلاد الآثار في مصر والغرب، لكن كلام هؤلاء المشجعين لم يمح من نفسي أثر كلام المحذرين، فقد تصورتهم متأثرين بعاطفتهم الدينية أكثر منهم بالواقع، وأنهم يخشون إن ذكروا المشقة، أو ذكروا نقص أسباب الراحة والصحة بالحجاز، أن ينقص أجرهم عن حجهم وعمرتهم، ولولا أن منهم علماء ومثقفين لما بلغت أخبارهم من نفسي أن تغالب أخبار المحذرين، وأن تجعلني أديم التفكير في أمر السفر.
Shafi da ba'a sani ba
وكان الخوف من الحرب وخطر الطريق أبلغ في نفسي أثرا، ولم يقنعني من سألتهم رأيهم في الأمر بما يزيل هذا الأثر من نفسي، فبينما كان بعضهم ينفي احتمال الحرب بين إنكلترا وإيطاليا قبل أن تتضعضع قوات إيطاليا في الحبشة، كان آخرون يؤكدون اقتراب الحرب ويكادون يضربون لوقوعها موعدا، وكان من بين الذين استشرت من اعتزم الحج منذ العام الماضي، فلما استنجزتهم عزمهم اعتذروا بما طرأ من أحوال قد تجر إلى حرب تشترك مصر فيها، وتكون الأراضي المصرية أو المياه المصرية ميدانها، ويتعرض أبناء مصر وتتعرض ثروتها من جرائها لما تجره الحرب وراءها من الدمار والهلاك؛ ولهذا الاحتمال ثارت مصر تطلب إلى إنكلترا أن تعقد معها معاهدة مودة وتحالف كانا قد انتهيا من قبل إلى نصوصها، وأجابت إنكلترا بعد لأي أنها على استعداد للمحادثة من جديد على ضوء ما سمته الأحوال المتغيرة للشئون الحربية الحديثة، وقبلت مصر عرض إنكلترا، وجعلت تعد العدة للمحادثات فالمفاوضات، وبهذه المفاوضات اعتذر بعض الذين نذروا السفر إلى الحجاز من قبل، وحاولوا أن يلقوا في روعي أن السفر في مثل هذه الأحوال يعتبر تنحيا عن أداء ما للوطن من حق على أبنائه، وربما كان موقف مصر من هذه المفاوضات أدعى إلى إرجائي السفر من موقفها سنة 1930، حين اعتذرت عن تلبية الدعوة إلى حفلات التتويج لابن السعود.
فكرت في هذه الأمور مليا، على أن استشارتي أصحابي جعلت غير واحد منهم يسألني: أمسافر أنت حقا لتؤدي فريضة الحج؟ وكان جوابي منذ ألقي هذا السؤال علي لأول مرة: إن شاء الله، ومع أن مشيئة الله يتعلق بها إرجاء السفر كما يتعلق بها السفر، فقد كنت أحس كلما قلت هذه الكلمة كأن دافعا أقوى من تفكيري يدفعني إلى عدم الإرجاء، وإن أمسكني ما قدمت من الاعتراضات في دائرة ترددي، وتركت الأمر معلقا بمشيئة الله وإن لم يمنعني ذلك عن ذكره وتفصيل الحديث فيه كأنه أمر لا محالة واقع.
ومن عجب أني رأيت بعض أصدقائي يزداد حرصا على صدي عن السفر كلما رآني أشد إقبالا عليه، وكان بعضهم يلتمس من أسباب الإرجاء ما يراه مقنعا، قال أحدهم: إن تيسير المواصلات لأداء فريضة الحج يطرد سراعا، فخير لمثلك أن يرجئ أداءها حتى تكون غير مرهقة إياه، أما إن كان مقصدك في السفر استيفاء البحث في سيرة محمد وعصره، فالخير أن تذهب في غير أشهر الحج، فالبحث التاريخي والعلمي بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة ليؤتي ثمره، ومكة في غير أشهر الحج هادئة، يعاون سكونها على البحث من غير عناء بحثا أعود بالفائدة وأدنى إلى الدقة العلمية، فلا تغامر الآن حتى تطمئن إلى سلامة البحر الأحمر، وحتى تنتهي مصر من مفاوضتها إلى موقف حاسم في أمر الاتفاق مع إنكلترا.
على أنني لم أعدم تشجيع قوم استهانوا بمشقة السفر وبخطر الحرب، وأكبروا عزمي واستحثوني على تنفيذه، قال أحدهم: إنك سترى في الأماكن الإسلامية المقدسة تاريخا يمكن التثبت منه والقطع بصحة وقائعه؛ وذلك على خلاف تاريخ المسيحية في فلسطين، حيث تحجب الأساطير كل ما يمكن أن نسميه تاريخا بالمعنى العلمي، وقال آخر: إذا كانت المفاوضات المصرية الإنكليزية هي التي تدعوك إلى البقاء، فأنا الكفيل بأن تسافر وتؤدي فريضة الحج وتحقق ما تشاء تحقيقه ولما تقطع المفاوضات مرحلتها الأولى، وقال ثالت: هب الحرب شبت وتعرضت الملاحة في البحر الأحمر للخطر، ففي مقدورك أن تعود بالسيارة من طريق سيناء، ولن تضن مصلحة الحدود المصرية عليك بالمعونة كي تعود، ولو أن ذلك حدث لكان لك فيه من الحظ أن ترى من الأماكن المقدسة المتصلة بسيرة النبي العربي ما لا تتيسر لك رؤيته إذا عدت بالبحر والبحر آمن.
وأفضيت إلى زوجي بذات نفسي، فكانت أكبر مشجع لي على السفر، قالت: إنك تفكر في الحج وفي السفر إلى الحجاز منذ عام أو أكثر من عام، فسافر على بركة الله وتوكل عليه ما دمت قد عزمت، وسترى في الحجاز لونا جديدا من الحياة يريح مرآه الأعصاب وتطمئن له النفس، وقد شغلت نفسك حتى انتهاء مقامنا في الصيف بالشام بالدرس والبحث، فروح عن نفسك بهذا السفر منهما.
كان حديث زوجي وتشجيع أصدقائي حريين بالقضاء على كل أثر للتردد في نفسي، لكني ظللت أفكر في العقبات وتذليلها، جاهدا لتغليب جانب العزم على جانب الإرجاء، وإنني ذات ليلة لشغل بالأمر أقلبه على وجوهه وأستخير الله فيه، إذ سمعت حديثا كأنه الإلهام قضى على ترددي قضاء مبرما؛ فقد عدت إلى داري بعد انقضاء عملي الصحفي منتصف الليل، وجلست إلى جانب أداة «الراديو»، وجعلت أدير شارته على محطات مختلفة حتى كانت عند «بودابست» عاصمة المجر، و«بودابست» تعزف في مثل هذه الساعة من الليل ألحانا موسيقية تطرب لها النفس، فما كان أشد عجبي حين سمعت الإذاعة فيها غير موسيقية! وحين سمعتها محاضرة باللغة الإنكليزية، وكانت أول عبارة تنفست عنها الإذاعة قول المحاضر: «وسط هذه الجموع الحاشدة حول الكعبة جعلت أسمع: الله أكبر، الله أكبر: فلما انتهيت من الطواف ذهبت أسعى بين ربوتي الصفا والمروة ...» وانطلق المحاضر يتكلم عن الحج وشعائره ومناسكه وما كان له في نفسه من أثر عميق.
لم يخامرني ريب من أول وهلة في أن المحاضر هو صاحبي الأستاذ المجري «جون جرمانوس» الذي أسلم وتسمى باسم عبد الكريم؛ والذي جاء إلى مصر منذ عام فزارني غير مرة، ثم ذهب من مصر إلى الحجاز فقضى بها أشهر الحج وعاد فلقيني وقص علي شيئا مما مر به أثناء رحلته، فلما أتم إذاعته من «بودابست» أقفلت أداة «الراديو» وقد علاني الوجوم، وقلت في نفسي: أويكون هذا الأستاذ الأوروبي الحديث العهد بالإسلام أصدق عزما مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟! وهل تراه يطيق من مشقة الحج ما لا أطيق؟ وشعرت بما في ترددي من تجديف يجب أن يتنزه عنه إيماني بالله وثقتي بنفسي، إذ ذاك نضوت عني كل ما علق من قبل بإرادتي، ولم أرتب لحظة في أن الله قد عزم لي بهذا الحديث من «بودابست» بعد أن استخرته مخلصا واستعنته صادقا.
فلما اطمأن عزمي وقرت إرادتي عدت ألوم نفسي على ما كان من مخاوفها، وكيف أخاف اليوم وعهدي بنفسي أعظم ثقة بالله من أن أحجم دون ما أعتقده الحق أو الخير، أو أرجع عن أمر تعلقت به نيتي، وما البحر الأحمر واحتمال مخاوف الحرب فيه إذا قيس إلى سنة 1914؟! لقد كنت إذ ذاك محاميا بالمنصورة، وكنت قد عقدت العزم مع صديق لي أن نقضي بعض الصيف بلبنان، وحددنا اليوم الثاني من شهر أغسطس موعدا لسفرنا على إحدى البواخر التي تبرح بورسعيد إلى بيروت؟ وبينما كنا نستقل القطار صبيحة ذلك اليوم من المنصورة إلى مرفأ سفرنا طالعتنا الصحف بأن الحرب شبت بين النمسا والصرب وروسيا وفرنسا بعد أن عجزت السياسة عن تسوية حادث «سيراچيڨو» بما يصون السلم ويحقن الدماء.
وقدرت وصاحبي امتداد الحرب إلى عرض البحر الأبيض، ودار بخاطرنا أن نقضي أسابيع رياضتنا في بورسعيد، لكني ما لبثت حين داعبنا هذا الخاطر أن دفعته بأن في مقدورنا أن نركب الصحراء في عودتنا من لبنان إذا خيف البحر وتعذر ركوبه، وركوب الصحراء يومئذ كان معناه امتطاء ظهور الإبل، فلم تكن سكة الحديد قد مدت لفلسطين، ولم يكن السفر بالسيارات مألوفا، وسافرنا إلى لبنان، فإذا تركيا تحشد جنودها، وإذا الأنباء تترى بعد أيام بأن البواخر الذاهبة إلى مصر اضطربت مواعيد سفرها، مع ذلك لم تتغير ابتسامتي للحياة، وبقيت وصاحبي حتى أقلتنا باخرة جمع عليها المصطافون من مصر جميعا فحشروا فوقها زمرا.
ها هي ذي أكثر من عشرين سنة انقضت منذ هذا الحادث وما أزال سعيدا بذكراه، راضيا عن إقدامي، فكيف أخشى اليوم احتمال حرب في البحر الأحمر لا يزيد على أنه احتمال قريب أو بعيد، ولم أكن أخشى يوم ذاك أن تمتد إلى البحر الأبيض حرب شب بالفعل أوارها ، أوبلغ من تقدم السن بي أن أضعف عزمي؟ أم أن الأولاد مجبنة لي اليوم ولم تكن لي مجبنة يومئذ؟ أم أن إغراء الشباب بالمغامرة الرخيصة ليس في شيء من حكمة الكهولة وأناتها في تدبرها الأمور وتقديرها؟ ليرجع ترددي من خوف الحرب في البحر الأحمر إلى أي من هذه الأسباب أو إليها جميعا، فأنا ملوم فيه، فما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، وكل نفس ذائقة الموت كتابا مؤجلا.
Shafi da ba'a sani ba
ولقد رأيت الموت بعيني غير مرة، وها أنا ذا مع ذلك أضرب في الحياة وما أزال أجاهدها؛ سقطت من أعلى دارنا بالريف في سنة 1901، فلولا قدر عفا عني لكنت اليوم في جوار الله، ومرضت في سنة 1924 مرضا خيف منه على حياتي، وصدمتني سيارة في سنة 1928 صدمة قضى مثلها على حياة كثيرين غيري، وانقلبت بي السيارة في سنة 1932 فلم يؤذني انقلابها، وتصادمت ومعي أولادي في سنة 1935 تصادما أزعجنا ولم ينلنا بأذى، ودون هذا وما إليه ما يودي بالحياة إذا حم الأجل، وكم مات أقوياء أصحاء فجأة بلا مرض ولا حادث، فليكن بعض إيماننا بالله أن نقبل على أداء واجبنا في الحياة مطمئنين غير هيابين ولا وجلين؛ فإن بلغنا من أدائه ما نرجو فذلك فضل الله وحسن تيسيره، وذلك هو الفوز العظيم، وإن اخترمتنا المنون أثناء قيامنا به مخلصين، فذلك مجدنا في الحياة ورجاؤنا في الله، وأي مجد في الحياة كأداء ما نؤمن بأنه الواجب؟ وأي رجاء في الله أكبر من الاستشهاد في سبيل الواجب؟
وخجلت وأنا أحاسب نفسي حين ذكرت ما تخيلت من مشقة الحياة بالحجاز، فما المشقة؟ ثم ما قيمة عيش لا مشقة فيه؟! وأين المتاع بالحياة وجمالها إذا نحن قضيناها على نسق مطرد يشابه فيه كل يوم ما قبله، لا يهزنا فيها جديد ولا تفجؤنا فيها فجاءة سارة أو ممضة؟! وكيف نروض أنفسنا على ما قد يمر بنا في الحياة من شدة، وكيف نعرف الصبر في البأساء وفي الضراء وحين البأس إذا أفزعنا شبح المشقة وانخلعت قلوبنا هلعا لتصورها؟ أولسنا نقبل عن طواعية واختيار على فنون من الرياضة فيها من الجهد والمشقة ما لا يقاس إليه كل ما في بلاد العرب مما نتصوره من جهد ومشقة؟ أولا يتسلق جماعة منا جبال الألب بسويسرا معرضين أنفسهم لقسوة الزمهرير في قننها ولأخطار السقوط أثناء تسلقهم إياها؟ بل إننا لنحمل أنفسنا أحيانا على ألوان من الرياضة أشد إجهادا للقوى وأشد تعريضا للخطر من تسلق الألب، ومتاعنا بهذه الألوان من الرياضة خير ما يلذنا من أيام حياتنا، حتى لنجد في ذكره من العذوبة ما يجعل العود إليه حلوا سائغا.
وإني لأذكر من مخاطرات الصبا ومن جولاته بأوروبا وغير أوروبا أياما قضيتها في مثل نسك الزاهد وخشونة صومعته، فأجد لهذه الذكرى لذة ونشوة لا يشبهها في شيء ذكر أيام الدعة والنعيم، وأستعيد بها صورة مشاهد في الطبيعة مما خلق الله أو نظم الإنسان قل لمن لم يعرف الخشونة أن يشهد مثلها، فما لي لا أغتبط لما عسى أن يكون بالحجاز من مشقة أثاب عنها بما أستمتع به بعدها من جمال ذكرياتها العذاب؟ وهل الحياة بنعيمها وبؤسها إلا ذكرى؟ وما لي لا أسارع إلى طلب هذه المشقة أستعيد بها ما عرفت في ماضي حياتي من شئون العيش، وقد كان التقشف خير أستاذ يدرك مريدوه مغزى هذه الكلمة القوية العميقة: «اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.»
نضوت إذن ترددي، ولم أرتب لحظة في أن الله عزم لي بحديث «بودابست» وعمدت منذ الغداة أستشير السابقين في الحج من أهلي وأصحابي في أهبة سفري، وهون بعضهم الأمر، وهوله آخرون، هونه الشيوخ والذين ينعمون بالضراء ابتغاء مغفرة الله لمن حج بيته، وهوله من ليسوا أقل إيمانا وإن كانوا أشد على طمأنينتهم وصحتهم حرصا، كان من رأي هؤلاء أن المياه في موسم الحج مخوفة، وأخوفها ماء منى، وأن الاحتياط لقسوة البرد أثناء الإحرام يقضي بلباس خاص مع مئزريه، وسألت بعض الأطباء رأيهم في ماء الحجاز ووسيلة اتقاء تلوثه، وهون بعض الأطباء الأمر وهوله آخرون، وكان ما يلائم جو الحجاز وتقاليد العيش فيه من أمر الملبس موضع خلاف كذلك، وقدم لي صديق من الأطباء جعبة من الدواء لإسعاف المسافر، وأكملتها بما يتفق وحالي الخاصة، وانتهى بي التفكير في الاحتياط الطبي إلى الاكتفاء بهذه الجعبة تاركا ما سواها مما نصح به الأطباء إلى موجبات الحاجة أثناء السفر، ولعله السأم لاضطراب رأي الأطباء هو الذي حملني على هذا الاكتفاء، أما اللباس فأخذت من ألوانه كل ما نصح الناصحون به، وقد شغل ما يقتضيه الإحرام وحده من عياب المتاع حيزا عظيما.
لست أذكر أني ساورتني مثل هذه الحيرة في أهبة السفر إلا صدر الشباب حين كنت مسافرا في سنة 1909 لإتمام دراسة الحقوق بأوروبا، فقد صحبت منها يوم ذاك ما عرفت من بعد أني في غير حاجة إليه، فأما في هذه الفترة التي انقضت بين سفري الأول إلى أوروبا وسفري الأول إلى الحجاز، والتي تزيد على ربع قرن من الدهر، فقد كنت أتخفف من الأهبة أثناء أسفاري ما استطعت، وما أسفت يوما على هذا التخفف، سافرت مرات إلى أوروبا، وسافرت إلى لبنان والشام، وسافرت إلى السودان، ولم أكن في أسفاري هذه جميعا أحمل من الثقل إلا ما أشعر بمسيس الحاجة إليه، ثقة مني بأني واجد ما ينقصني حيث أنزل، وكيف لا أجده وأهله يعيشون ويجدون حاجاتهم فيه؟ وكان حتما علي أن أصنع هذا الصنيع في السفر إلى الحجاز، وأن أذكر أني واجد في كل بلد ما تقضي به حاجات العيش فيه، لكني نسيت هذا الأمر، وما أنسانيه إلا كثرة ما سمعت ممن استشرتهم، ولعلي إنما طاوعتني نفسي إلى سماع الكثير مما قالوا لقلة من يسافرون لأداء فريضة الحج من الطبقات المستنيرة من المسلمين، ولكثرة ما يقال عن الحجاز والحالة الصحية فيه، وأغلب ظني أنني لو قمت بهذه الرحلة في غير موسم الحج لجريت على عادتي، ولتخففت من أهبة سفري ما استطعت.
ونزلت على حكم الإجراءات الرسمية التي تجب على من يفرض الحج، فقدمت بذلك طلبا إلى الحكومة ودفعت نفقات السفر، وأسلمت نفسي للتطعيم ضد الجدري والحقن ضد الكوليرا والتيفود، وحددت موعد سفري على الباخرة «كوثر» التي تبرح السويس يوم الثلاثاء 25 من فبراير سنة 1936، من يومئذ اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في ترحالي وما سأشهده بالبلد الحرام والبلاد المقدسة، أما أصحابي الذين حاولوا من قبل أن يصرفوني عن سفري، فقد جعلوا يسألونني عن شعوري إزاء هذه الرحلة وإزاء فريضة الحج، مشفوعا سؤالهم بأصدق الرجاء أن أتم الفريضة والرحلة وأن أعود إليهم بخير ما يرجونه لي من صحة وعافية.
وهرع آخرون من أصدقائي ومعارفي يهنئونني بما عزمت، ويؤكدون لي أنه آية فضل الله علي ورضاه عني، وشكرت لهم تأكيدهم مغتبطا به ثقة مني بإخلاصه وصدق النية فيه، وكيف ترقى إلى إخلاصه شبهة وأصحابه من أشد المسلمين تمسكا بدينهم واطمئنانا إليه، وأكثرهم ضليعون في علومه واقفون منه على ما لا يتسنى لغيرهم الوقوف عليه بعد إذ قضوا السنين الطوال في دراسته وتمحيصه والتدقيق في متونه وشروحه؟ وغاية ما رجوت أن يجيب الله دعاءهم فيقبل مني حجي وعمرتي، وييسر لي ما قصدت إليه من سفري.
اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في هذه المناسك وما أنا مشاهده في البلد الحرام، وسرعان أن ملأ هذا التفكير نفسي هيبة ورهبة؛ فقد عدت بذاكرتي إلى حجة الوداع، وتخيلت أمامي النبي العربي يؤديها على رأس مائة ألف أو يزيدون، فطأطأت رأسي لهذا المشهد إكبارا وإجلالا، ما أعظم الفرق بين ما كان يومئذ وما نحن عليه اليوم! كان المسلمون يتحرقون شوقا إلى أداء الفريضة وهم لا يعلمون متى كتب لهم أن يؤدوها مع رسول الله، فلما أذن مؤذنه في الناس بالحج أقبلوا إليه من كل فج وهرعوا من كل حدب ينسلون، وأقاموا بالخيام التي ضربت حول المدينة ينتظرون يوم الرحيل وقلوبهم فياضة بالبشر، وكلهم الغبطة والمسرة، واستفزهم المنادي، فقام جمعهم وراء الرسول الكريم إلى ذي الحليفة بظاهر المدينة، وقد امتلأت من خشية الله قلوبهم، وقد فاضت من هيبته عبراتهم، وكلهم إلى بيت الله هوى، وفي سبيل دينه الحق اندفاع ومحبة.
ونزلوا ذا الحليفة وباتوا ليلتهم بها، ثم أصبحوا فتطهروا وأحرموا وأعلنوا إلى الله أنهم نسوا الدنيا في سبيله، وأنهم نووا الحج إلى بيته يبتغون وجهه، وسوى الإحرام بينهم جميعا، فلم يبق منهم غني وفقير، ولا قوي وضعيف، ولم يبق منهم من يفكر إلا في رضا بائه جل شأنه تعنو له الجباه، ولعظمته يخر من في السموات ومن في الأرض إلى الأذقان سجدا، وانطلقوا من ذي الحليفة في طريق مكة يفكر كل منهم فيما قدم من عمل صالح، وينادون جميعا بصوت رجل واحد ملبين: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وتجاوبت الأودية بصدى هذا النداء فحملته إلى بقاع البادية وإلى فسحة الصحراء، ونزل الجميع حين جن الليل؛ فلما تبسم الفجر عن تباشير الصباح صلوا ولبوا ثم انتشروا وساروا يحدوهم الإيمان، ويدفعهم إلى بيت الله شوق ومحبة، وظلوا في طريقهم إلى مكة اثني عشر يوما، إذا جنهم الليل نزلوا، فإذا أضاء لهم الصبح قاموا متوجهين بقلوبهم إلى الله مصلين ملبين، ناسين عرض الدنيا، مؤمنين بأن لا فضل لأحدهم على صاحبه إلا بالتقوى، فلما بلغوا مكة دخلوا المسجد الحرام يؤمهم محمد، وطافوا سبعا بالبيت العتيق، ثم سعوا سبعا بين الصفا والمروة، طافوا جميعا معا، وسعوا جميعا معا، وهم جميعا في إمامة محمد تسري إليهم من قدس روحه نفحات روحية، لم يعرفوا، ولم يعرف أحد قبلهم، ما يشابهها سموا وقوة.
وآن لهم أن يرتقوا إلى عرفات ليتموا حجهم، فاتبعوا النبي إلى منى يوم التروية ثم ارتقوا الجبل معه، وأقاموا فوق عرفات في مساواة الإحرام يهللون ويكبرون ويلبون حتى مالت الشمس إلى المغيب، إذ ذاك استمعوا إلى خطاب النبي، ثم أفاضوا إلى المشعر الحرام فذكروا الله عنده، وهبطوا منى فأتموا بها المناسك، وعادوا وقد طهر الحج قلوبهم إلى حياة جديدة بقلوب أكثر طهرا، ونفوس أجابت داعي الحق، وعاهدت الله أن تجيبه كلما دعاها.
Shafi da ba'a sani ba
ارتسم أمامي هذا المشهد الذي يملأ النفس رهبة والقلب إيمانا، ورأيت نفسي مقبلا على مثله في ألوف اجتمعوا من أقاصي الأرض، لا من جزيرة العرب وحدها، للفريضة التي اجتمع إليها الأولون الذين اتبعوا محمدا من نيف وأربعين وثلاثمائة وألف سنة خلت، فازدادت نفسي لليوم القريب الذي أقف فيه هذا الموقف مهابة وإكبارا، قلت لنفسي: «ها أنا ذا بعد أيام سأركب البحر قاصدا بيت الله حاجا، فإذا بلغت رابغا، ميقات الإحرام، أحرمت، وأحرم المسافرون للحج كما أحرم النبي وأصحابه، ونادى ركب الباخرة جميعا: لبيك اللهم لبيك، وامتلأت النفوس جميعا هيبة والقلوب إيمانا، رب أية شعلة من نورك الذي أضاءت له السموات والأرض ستشتمل هذه الباخرة في اندفاعها تمخر العباب إلى بيتك المحرم يلبي ركبها كلهم دعاءك، وتتجه قلوبهم كلها إليك صادقة القصد عامرة بالإيمان.
لن تكون هذه الباخرة في تلك الساعات القدسية مطية أجسام تجري فوق الماء، بل قبسا من ضياء الهدى ونور الحق أفضته على عبادك فعادوا به إليك مهللين مكبرين مستجيبين إلى ندائك القدسي الأطهر، باعك كل منهم نفسه مجاهدا في سبيلك، ونسي كل منهم هذه الحياة الدنيا فانيا في جلال جنابك، لك الجلال جل شأنك، وبك العون على الجهاد في سبيلك، وسأكون أنا واحدا من هؤلاء الفانين فيك، الصادقين في توجههم إليك، كلنا عبادك، وكلنا نلتمس غفرانك وعفوك، فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا ولوالدينا ولمن دخل بيتنا مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات، واهدنا اللهم صراطك المستقيم، «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين».»
امتلأت نفسي بهذا المشهد، كله الجلال والرهبة، وبلغت منها مهابته أن لم يبق فيها موضع لشيء سواه، وأجبت الذين سألوني عن شعوري نحو رحلتي - وبينهم جماعة من غير المسلمين - عما يخالج نفسي مما أرى أمامي، فرأيتهم تمتلئ قلوبهم منه هيبة وله إكبارا وإجلالا، وأي مشهد أدعى إلى المهابة الصادقة من هذه الصيحة المؤمنة المنبعثة من أعماق القلوب، تنفرج عنها شفاه عشرات الألوف من الواقفين بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، يلبون داعي الله، متجردين من كل زخرف الحياة، عراة الرءوس، متشحين بمآزر الإحرام، معلنين التوبة عما مضى من هنات الحياة وخطاياها، منيبين إلى الله ليطهر نفوسهم كي تعود إلى الحياة في مثل براءة الطفولة؛ لتكون من بعد مثال النزاهة والفضيلة والجهاد الحق في سبيل الله جهادا يهون من كل صعب، ويهون الموت بل يحلو في سبيله.
وتعاقبت الأيام؛ ينسخ الليل النهار، ويمحو النهار آية الليل، فلما كنا من موعد السفر على يومين جاء أهلي من الريف يهدون إلينا تحية الوداع، وكلهم مطمئنو النفوس، كبيرو الرجاء في الله، وكلهم يطلبون إلي ما طلبه قبلهم كثيرون غيرهم، أن أقرأ لهم الفاتحة عند بيت الله وعند قبر رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وأن أدعو لهم الدعوات الصالحات، فلما كان الصباح الباكر من يوم الثلاثاء 25 فبراير 1936 ذهبنا إلى محطة «كوبري الليمون» لنستقل قطار «الديزل» الذي يشق الصحراء إلى السويس، ولقينا المودعون بالمحطة يرجون لنا حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسفرا موفقا وعودا حميدا، وانطلق القطار يشق الصحراء براكبيه الذين اختاروا آخر باخرة من بواخر الحج، وبلغنا السويس، وأخذنا أوراق سفرنا، وأقلتنا السيارات إلى بور توفيق وإلى مرسى الباخرة «كوثر»، وعلونا الباخرة ولما يكن الزوال قد آذن، وجعلت أطوف في أرجائها ألتمس من أعرف من المسافرين معي عليها، وألقيت نظري على مياه البحر الأحمر في خليج السويس، فذهب خيالي مع الأمواج يتقلب بعضها فوق بعض، فخلتها آتية من جدة تحيينا وتعلن إلينا أنها في انتظار تحركنا إلى مرفأ البيت الحرام، وبقي خيالي مع موج البحر حتى ناداني من أصحابي جماعة جلست وإياهم، وجعلنا نتحدث في انتظار طعام الغداء، وفي انتظار سير الباخرة إلى الأرض الإسلامية المقدسة.
يا عجبا! أي خاطر هذا الذي يجول الساعة بنفسي وأنا أسطر مشاهدي؟! إن هذه البواخر تقوم بحجاج المسلمين من السويس إلى جدة لتصل بين مرفأ سيناء حيث كلم الله موسى، وبين مرفأ مكة حيث نزل الوحي على محمد، والذين يؤمنون برسالة محمد يؤمنون بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل، لا يفرقون بين أحد منهم، وهم لله مسلمون ، تبارك الله ذو الجلال! إن كل ما في الحياة ليوحي اتصال الوجود كله في الزمان والمكان في وحدة هي الحجة البالغة على وحدة بارئ الوجود - جل شأنه، وسنرى من مظاهر الوحدة الروحية في سفرنا هذا، وفي مهبط الوحي على محمد ما يزيد المسلمين إيمانا وتثبيتا.
فلأنتظر مطمئنا، فعما قليل تجري بنا الباخرة باسم الله مجريها ومرسيها، إن ربي على كل شيء قدير.
بين المرفأين
كانت الأميرة خديجة حليم قد فرضت الحج عامنا هذا، واختارت السفر على «كوثر» آخر باخرة تدركه، وكان برنامجها أن تغادر مكة طائرة إلى المدينة في اليوم التالي للوقوف بعرفة، مكتفية بالفداء عن فرائض الحج ومناسكه جميعا.
ولقد أحدث صعودها وصعود حاشيتها إلى الباخرة هرجا بين الذين سبقوهم إليها، ولم أجد لهذا الهرج مسوغا إلا في كثرة المودعين الذين كانوا أضعاف المسافرين إلى الحج عددا؟ هؤلاء أقاموا على ما طبعته الحياة الحاضرة في نفوسهم من تقديس ذوي الجاه والإمارة، أما الذين فرضوا الوقوف بين يدي الله بالأماكن المقدسة، فقد وجب أن تبرأ نفوسهم من كل تقديس لغير الله ما دامت قد فرضت أن تبرأ من الحوبات والأوزار جميعا.
Shafi da ba'a sani ba
وشغلت إدارة الباخرة بالأميرة وما تختاره من الغرف لنفسها ولمن معها، فلما فرغت من ذلك أذنت للخدم في دعوة الناس للطعام، وجلس طلعت باشا حرب مدير شركة مصر للملاحة البحرية إلى مائدة تتوسط غرفة الطعام، ودعاني إلى الجلوس معه، كما دعا آخرين منهم محافظ السويس وحكمدارها الإنكليزي وربان كوثر، ودار حديث اشترك فيه الربان بالإنكليزية تارة وبالفرنسية أخرى، وما كنت لأشير إلى هذا الحديث لولا ما أصاب الباخرة ساعة وصولها إلى جدة، وتركنا الربان وما نزال على المائدة، فذكرت لزملائي عليها أن إنكليزيته وفرنسيته تدلان على أنه ليس إنكليزيا ولا فرنسيا، قال طلعت باشا: بل هو إيطالي، إذ ذاك توجهت إلى الحكمدار الإنكليزي وقلت مبتسما: ذلك خير، فلئن أصبح البحر الأحمر ميدان حرب بين إيطاليا وإنكلترا أثناء سفرنا لنكونن في حمايته الإيطالية.
وسارع طلعت باشا إلى التعقيب على عبارتي هذه بقوله: لقد دعوته منذ نشأت الأزمة الدولية الأخيرة ونبهته في حزم إلى احتمال وقوع حرب يشتبك وطنه فيها، وسألته ما يكون موقفه يوم ذاك؟ فأكد لي بشرف البحار أنه يخدم بإخلاص العلم الذي يظل الباخرة التي يقودها كائنة ما تكون الأحوال التي تحيط به.
وأردف الحكمدار الإنكليزي بهذه العبارة العميقة المغزى: قد تكون الحوادث أحيانا أقوى من كل ما نقسم به.
ونهضنا وغادرنا غرفة المائدة إلى حيث جلسنا نتحدث ونشهد تقلب الموج، وتناول حديث بعض الحاضرين زميلتنا في الحج إلى بيت الله، الأميرة خديجة حليم شقيقة عباس حلمي خديو مصر السابق وأرملة الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم في تركيا في أخريات حكم السلطان الخليفة محمد رشاد، ودار الحديث حول تصور الأمراء للحج، وما يلتمسون أثناءه من مغفره الله لهم، وإنا لفي هذا الحديث إذ أقبل علينا الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديو عباس حلمي وولي عهد مصر السابق، وكان قد جاء يودع عمته بالسويس، وانتقل الحديث لمجيئه إلى موضوعات أخرى كان من بينها فيلم «وداد» السينمائي الذي أخرجته المغنية أم كلثوم في شركة مصر للتمثيل والسينما، وكان مدير هذه الشركة في مجلسنا، وكان حريصا على أن يسمع رأي الناس في هذا الفيلم، قال الأمير عبد المنعم: إنما ألاحظ على هذا الشريط صورة المسجد فيه والنداء للأذان به.
ولاحظ الأمير صمت الحاضرين وعدم إبدائهم الموافقة على ملاحظته، فقال: صحيح أن المناسبة التي ألقي فيها الأذان من فوق مئذنة المسجد حسنة جدا؛ فقد كان الناس يختصمون، فلما سمعوا الأذان انصرفوا عن الخصومة وولوا وجوههم شطر بيت الله، لكن السينما تنتقل من بلد إلى بلد، ولا عجب أن يعرض هذا الشريط في أوروبا، والغربيون يستهزئون حين يسمعون الأذان وحين يسمعون القرآن، ومن الواجب علينا ألا نعرض ما نقدسه إلى استهزاء الغير به.
ودار حول رأي الأمير حوار دل على أن كثرة الحاضرين لا تؤيده وإن اختلطت عبارات هذا الحوار بكثير من ألفاظ التبجيل والاحترام، وتنقل الحديث من بعد في مسائل شتى ، تركنا الأمير على أثرها ليقيم سويعة مع عمته قبل سفرها، ولعله تركنا غير راض عن الذين خالفوا رأيه عن الأذان في السينما.
ولم أشترك في حوار الذين حاوروا الأمير، ولم أرد أن أذكر ما ورد في القرآن عن الذين يستهزئون حين يسمعون كلام الله وأن الله يستهزئ بهم ويردهم في طغيانهم يعمهون؛ فما كنت لأثير جدلا حول أمر يتصل بعقيدة صاحبه، وليس من اليسير أن يصرفه الجدل عن رأيه، أو يحمله على المصارحة بالعدول عن عقيدته فيه.
على أني لم أعجب لهذا الرأي من شاب نشأ في أسرة مالكة، وكان يوما ولي العهد لعرش دولة لها مكانتها في العالم الإسلامي كله، فهؤلاء يبالغون في الحرص على تقديس ما يعتقدونه مقدسا ليبالغ غيرهم في تقديس الدين وما يصدر عنه، وهم لا يؤمنون كما يؤمن أبناء الشعب بصوت الشعب وأنه من صوت الله، وإنما يؤمنون بصوت الملك وأنه من صوت الله، فإذا حجوا ليستغفروا أو يطهروا، كفاهم أن يرتقوا إلى عرفات ولهم في سعة مالهم من أسباب الفدية ما يحسبون أنهم يفتدون به كل الأوزار والخطايا، وإن منهم من لا يرضى أن يحرم يوم عرفة؛ لأنه لا يؤمن بالمساواة، فهو يريد أن يفتدي منها كأنما يفتدي من عذاب يوم عظيم.
وإنما عجبت أن لم يذكر أحد من الذين جادلوا رأي الأمير ما سمعته غير مرة من أن الأذان بصوت حسن كان مما حمل كثيرين من غير المسلمين على أن يدينوا بالإسلام، ولقد عرف هذه الحقيقة من أقاموا من قبل في تركيا حين كانت تختلط في عاصمتها زمر الأمم المختلفة الأديان، والحق أن كلمات الأذان البسيطة العذبة جديرة حين ترتل ترتيلا يؤدي معناها بكل قوته أن تنفذ إلى أشد النفوس صلابة، وأشد النفوس استكبارا، وهل هناك أقوى من قولك: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله؟!
وغير المسلمين يسمعون إلى آي الذكر الحكيم حين يقصد من ترتيله إلى حسن فهمه بإجلال وإكبار كإجلال المسلمين وإكبارهم، فلا عجب أن يحرص المسلمون على أن يذاع القرآن ويذاع الأذان بكل وسائل الإذاعة، ولا عجب أن يحتج المسلمون من أقطار الأرض كافة حين يسمعون أن محطة الإذاعة في مصر ستعدل عن إذاعة القرآن أو تقلل من تلاوته.
Shafi da ba'a sani ba
وآن لكوثر أن تتحرك، فتركها المودعون بعد أن ألقوا على المسافرين كلمات الأمل الطيب، وحسن الرجاء في حج مقبول وعود حميد، وانتقل المسافرون إلى ناحية الشاطئ يحيون مودعيهم التحية الأخيرة قبل السفر، فإذا جمع من ألوف الناس على رصيف المرسى لم يلبثوا حين سمعوا الموسيقى تصدح أن تعالى في الجو هتافهم للإسلام وللحج وللوطن هتافا حارا صادرا من حبات القلوب ومن أعماق الأفئدة، ما أبلغ أثر هذا المنظر في النفس! فهذي الألوف الذين جاءوا لتحية المسافرين إلى بيت الله لا يعرف أكثرهم أحدا من هؤلاء المسافرين، وإنما جاءوا يودعون إخوانهم في الدين بقلوب عامرة بالله والوطن، لقد كانت مشاعري تهتز أيما اهتزاز كلما علا نداء هذه الجماهير في الجو، فهذه أمة تلتمس التوجيه الصالح إلى حياة تريدها حياة مجد وعظمة، وتلتمس هذا التوجيه بصدق وإخلاص، وتلتمسه في كل مظهر من مظاهر الحياة المصرية، يملؤها الأمل من اقتراب هذا اليوم الذي يفتح فيه باب الرجاء فتندفع إليه متفانية في سبيله، كلها التضحية للعقيدة، وكلها التضحية للوطن.
وتحركت الباخرة، فعدت إلى ناحيتها الأخرى أشهد أمواج خليج السويس المصري، وأشهد من ورائها مخازن شركة البترول الإنكليزية القائمة في الأراضي المصرية، وأعود بتفكيري إلى الحجاز وإلى الحج، وإلى ألوف المسلمين الذين يؤدون هذه الفريضة في كل عام؛ لأنهم يستطيعون إليها سبيلا.
وشغلت بخليج السويس ومياهه وأمواجه حتى انحدرت الشمس إلى مغيبها، ولما تناولنا طعام العشاء أسرعت إلى مخدعي، علي أجد في النوم ما يعوضني عن مجهود نهاري، وبعض ما يعوضني عن مجهود الأيام التي سبقت.
واستيقظت مع الصبح واستنشقت هواء البحر، ما أرقه وأعذبه وأصحه! وشكرت لله أنعمه وأنا في خلوتي المبكرة فوق سطح الباخرة أشهد شواطئ خليج السويس التي لم تزل قريبة منا، فلما آن ليقظة النهار أن تجمع أصحابي معي كي نتبادل من الحديث أطرافه ألفيتني في رفقة لم ألف منها أحدا فيما سبق من أسفاري، وإن يكن منهم من سافر من قبل إلى أمريكا وأوروبا، وإن يكن منهم من يقيم في باريس أكثر وقته، قال صاحبنا هذا: أولا تعجبكم هذه السكينة التي غمرتنا على البحر منذ غادرنا السويس؟! ولو أن «كوثر» كانت مسافرة في رحلة الصيف إلى أوروبا لسمعنا الموسيقى على العشاء، ولشهدنا فيلما من أفلام السينما المسلية إن لم تحرك الموسيقى شجن ذوي الشجن إلى الرقص، أما وهي مسافرة إلى بيت الله بالذين يريدون وجهه فقد نسيت ما ألفت من ألوان المسرة الساخرة، واتشحت برداء من الحكمة هو وحده الجدير بوجهتنا، ولست أخفي عليكم أنني ابتسمت مساء أمس حين ذكرت ما كان على الباخرة التي أقلتني من أوروبا منذ أسابيع من مرح شد ما كنا نستطيبه، واشتد بي الشوق أن أسمع إذاعة من مصر على الأقل أتداوى بها من ملال السفر على الماء، فلما جنني الليل واشتملت الباخرة سكينته ولم أسمع إذاعة ولا موسيقى، تداويت عن طمأنينة العاطفة بطمأنينة القلب، وادكرت ما أنا مقبل عليه، فطابت إلى سكينة القلب نفسي، وجعلت من ذكر الله وتلبية دعائه أنيسي، وتذكرت أن الأقلين من أوتوا مثل حظي فداولوا في أسابيع بين النهل من ورد باريس وعلمها ومسارحها ومتاحفها ومجتمعاتها الحافلة بأسباب الأنس، وورد المنهل العذب للحياة الروحية بمكة عند بيت الله الحرام وبالمدينة مثوى قبر رسوله - عليه السلام.
وبهت بعض الحضور لهذا القول، فتبادلوا النظرات بينهم هنيهة خيم أثناءها الصمت، ثم قال أحدهم موجها الكلام إلينا جميعا: ائذنوا لي أن أقدم لكم كتيبا جمعت فيه مناسك الحج وأركانه، لعل لكم في تلاوته بعض ما ينفعكم فيما أنتم مقبلون عليه.
وأخرج من جيب قفطانه عدة كتب صغيرة وزعها علينا جميعا، عرفت إذ أجلت النظر فيها أنها تلخص مناسك الحج على المذاهب الأربعة، ولم ينجه هذا التلطف من أن يوجه إليه أحد الحاضرين بعد أن استوى الكتيب في يده قوله: وهل ترك مطوفو مكة لأحد في الحج قولا؟ إنهم ليوجهوننا في كل دقيقة وجليلة من شئون حجنا وإن استوى لأحدنا من العلم بهذه الفريضة ومناسكها ما لا علم بعده.
قال صاحب الكتيب: الذنب على الحاج لا على المطوف، فلو أنه عرف فروض الحج وواجباته وسننه لما كان لمطوف عليه ما تذكر من سلطان.
ومر بنا الخادم فطلبنا إليه قهوة ما كان أشهاها والباخرة تجري بنا فوق لج صاف ونسيم رقيق منعش، وأقمنا نتحدث؛ أن لم نجد غير الحديث ما يسلينا في هذا السفر، فلما نودي لصلاة الظهر قبيل موعد الطعام ذهبت مع القوم إلى حيث يؤمهم فقيه منهم في صلاة الجماعة، وعجبت حين رأيتهم يتخطون بهو الدرجة الأولى، فليس وراء هذا البهو في كوثر إلا «البار»، ولم يدر بخلدي يوما ما أن يكون بار من البارات مسجدا، لكن عجبي لم يمنعني من مشاركة القوم حين رأيتهم اتخذوا من بار كوثر مصلى وما لهم ألا يتخذوه وقد طهر أثناء رحلة الحج من أمهات الكبائر، وأمهات الصغائر، وفرش بالحصير الطاهر؟! وكان هذا المصلى أبلغ آية على أن العمل الصالح يخلع قدسيته على كل مكان يحل فيه، وإن شهد هذا المكان قبل ذلك من الوزر ومن اللهو ما يجعله إذ يشهدهما مثابة لهو ومهد متاع.
وتناول المسافرون طعام الغداء، وقال منهم من اعتاد أن يقيل، وأدوا فريضة العصر في مصلاهم ثم انتظموا جماعات يتحدثون، وجلس في جماعتنا شاب عرف الحجاز ونجدا، وقضى بهما سنوات اتصل أثناءها بابن السعود ورجال حكومته، وكان يرتدي «جلابية» من السكروتة وعباءة من صوف دقيق شف لدقته عما وراءه، وقد طرز ما حول العنق والصدار منها بالقصب، وتدلت من حاشية الصدار «كراريت» مكسوة بالقصب كذلك، وسأله أحد الحاضرين عن هذه العباءة، فقال: إنها لباس أهل الحجاز الرسمي كالجلابية سواء، أما غطاء الرأس عندهم فالطرحة والعقال، وحذاؤهم النعال، وهم يسمون العباءة «المشلح»، وسئل عما يقصونه عن النجديين وشدة تعصبهم لمذهبهم، فقال : كان ذلك أول فتحهم الحجاز وانحدارهم من نجد إليه، فقد دفعوا يومئذ إلى الغزو والفتح عقابا للأشراف أصحاب الحكم في الحجاز على استهانتهم بدين الله وارتكابهم المعاصي، وقيل لهم: إن أهل الحجاز قد أقاموا من القباب أوثانا فهم على عبادتها عاكفون؛ لذلك كانوا يحطمون القباب أينما ثقفوها، كما كان المسلمون الأولون يحطمون الأصنام، وكانوا يبالغون فيما يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى كانوا يعتدون على المدخنين وعلى غير الملتحين، أما اليوم فقد استقرت الأمور إلى نصاب وسط تواضع عليه القوم، وكان للحجاج من البلاد الإسلامية المختلفة أثر بالغ في تقريره، وما أحسب مسلما يرى هذا النصاب الوسط اليوم عنتا، فالإخوان «النجديون» حريصون على أن يسيروا حيث ولوا الأمر على حكم كتاب الله وسنة رسوله؛ لذلك يجزى كل من جهر بمعصية بالحد الشرعي، بذلك اختفى ما كان باديا قبل توليهم أمر الحجاز من استهتار ومجون، فلم يبق من يعاقر جهرة الخمر، أو يغازل جهرة غلاما، وتطبيق الحدود على الجرائم هو الذي أقر الأمر في نصابه، حتى صار الحجاز يفاخر بحق أكثر الأمم طمأنينة وأمنا، والفضل في هذا النصاب الوسط يرجع إلى ما بدءوا به من شدة وتزمت. «وإنما أدى بالحكومة الحجازية إلى العدول عن بعض ما كان أهل نجد يشتدون فيه كشدتهم في إرخاء اللحية، وقص الشارب وعدم التدخين، وما إلى ذلك مما يبيحه غير المذهب الحنبلي من المذاهب الإسلامية، ما حدث غير مرة من أهل نجد وأهل المذاهب الأخرى من المسلمين أثناء أشهر الحج مما كان له أثره في الحج، وفي الحالة الاقتصادية في البلاد، ولو ذكرتم أن التسامح في مسألة التدخين يرجع في كثير إلى تأثر إيراد المكوس «الجمارك» الحجازية بسبب منعه، لعلمتم ما للحالة الاقتصادية من أثر كبير في العقائد والعادات.»
بينا كنا نستمع لصاحبنا يتحدث عن الحجاز وما صنع به أهل نجد، مر بنا جماعة ليسوا مصريين لبسوا لباس الإحرام، وإذ كان بيننا وبين ميقات الحج برابغ يوم كامل، فقد فسر أحد الحاضرين سبقهم إلى الإحرام بأنه تعجل لمغفرة الله واستزادة من ثوابه.
Shafi da ba'a sani ba