زمانه غير زماننا.
الخليفة :
أوليس فيصل ملكا عظيما؟
الشيخ :
إن الله سبحانه وتعالى يوزع نعماءه على الأمم بقدر استحقاقها، فلو استحق العراق لكان مليكه خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين مثل الرشيد والمأمون. أهل العراق، وما أدراك ما أهل العراق، يلزمهم ملك قوي مقتدر، قطاع رءوس. والله يا أخي لو قطع الملك فيصل بضعة رءوس في بغداد، لقال الناس «هذا وربك ملك.» ولخافوه واحترموه وأكبروه، أما أنه ديمقراطي فذلك لا يفيد. وأين نحن من الديمقراطية؟! يمر الملك - أطال الله بعمره - في أسواق بغداد، فلا يدري أحد به، وإذا عرفوا سيارته لا ينهض له أحد. فلو أنه يخرج في موكب ملكي، تتقدمه وتتبعه ثلة من الجنود، على خيول مطهمة، لكان الناس يقفون مسلمين إكراما وإجلالا، ولكانوا يدركون ما عليهم من الواجب ويشعرون بشيء من سطوة الملك.
أمسك الشاب بجبة الشيخ وهو يتكلم، كأنه يقول له أكثرت الكلام، قم بنا. فنهض إذ ذاك معتذرا، وقال: «إننا مضطرون أن نحرم أنفسنا أنسكم، قد حان وقت الصلاة.»
ومشى الشاب سبهللا، كما يقول أصحاب المقامات، وراح الشيخ يتدعدع وراءه.
ثم جاء الخادم يرفع الفناجين وهو يبتسم ابتسامة تهكم وازدراء، فسأله الخليفة أن يفصح عما في باطنه، فقال: «أنا أعرف هذا الشيخ التقي النقي؛ هو متزمت والله، نقطة القهوة تنقض وضوءه، وهو يقيم الصلوات الخمس كل يوم، ويصوم رمضان، ويزكي ماله، ويحسن إلى الناس، والله العظيم، ولكنه، وقد رأيتم، من ال «بو غلام».»
فقهقه الخليفة وقال للملك ونحن خارجون: «يظهر أن بغدادك، يا فيصل، مثل بغدادي، ولكنها تقية نقية - بلغة هذا الصعلوك - إذا قابلناها بغيرها من المدن في الشرق وفي الغرب، وخصوصا بتلك المدينة التي جاء ذكرها في كتاب النصارى. وهذا أبو النواس، قلت لكم إنه يختفي، ولا يلبث أن يظهر.»
التقيناه في الباب وهو يمسح جبينه بردنه: «عرقت من الطواف، وأنا أنشدكم.» ثم أخبرنا أن ظمأ به خفف خطاه، وجنح هواه. «ما لقيت في المعرض كله غير هذا الذي يسمونه صودا، وهو يحرق اللهاة، ويفسد النيات، هو شراب البله، لا شراب الشعراء.» - «وأين وجدت ضالتك، يا خبيث، ومن هداك إليها؟» - «ملك في صورة إنسان، وهو من الفرنجة، ورب الكعبة. سلمت عليه وقلت: أنت من الكرام. فرد بالعربية: والهمد لله. فضحكت وقلت: وأنا من البصرة، وبي ظمأ لا يرويه ما في هذا المعرض من شراب، فهل أنت من الهادين والمشاركين؟ فقهني والله فقال: وأنا من بلاد دون البصرة، والمثل عندكم يقول: الغريب للغريب نسيب. فقلت: هيا بنا إذن. فأخذ بيدي وهو يردد كلمتي. ما رأيت والله ألطف منه وأظرف. مشينا في زقاق إلى جانب الشارع الكبير، نوره ضئيل، وسره ظليل. ودخلنا حانة فرحب بنا شاب أمرد مثل رفيقي الفرنجي، قيل لي إنه يهودي، ولكنني عففت، والله يا مولاي، عففت. علمني الفرنجي العفة. شربت وإياه الأول والثاني والثالث من الشرابين الذهبي والفضي، وكان إبليس واليهودي ينصبان الشرك لأبي النواس، ولكنني لزمت صاحبي، وخرجنا من الحانة، وتهنا في ذاك الزقاق.»
Shafi da ba'a sani ba