النسب النبوي
من الخيام إلى حومة السياسة
الأمير فيصل في الحرب
معان وعمان
مناطق الفوضى
لجنة الاستفتاء الأميركية
مرجعيون
ملك سوريا
ميسلون
المعركة الأخيرة
Shafi da ba'a sani ba
الجو المكفهر
الأزمة الأولى
محاولات ومراوغات
جهاد الملك فيصل
فيصل العرب
فوز الملك فيصل
شغل الملك
المناقب
نحن وهارون الرشيد1
رسالة إلى فيصل
Shafi da ba'a sani ba
النسر العربي1
سجل الحوادث البارزة في حياة الملك فيصل
تذييل
النسب النبوي
من الخيام إلى حومة السياسة
الأمير فيصل في الحرب
معان وعمان
مناطق الفوضى
لجنة الاستفتاء الأميركية
مرجعيون
Shafi da ba'a sani ba
ملك سوريا
ميسلون
المعركة الأخيرة
الجو المكفهر
الأزمة الأولى
محاولات ومراوغات
جهاد الملك فيصل
فيصل العرب
فوز الملك فيصل
شغل الملك
Shafi da ba'a sani ba
المناقب
نحن وهارون الرشيد1
رسالة إلى فيصل
النسر العربي1
سجل الحوادث البارزة في حياة الملك فيصل
تذييل
فيصل الأول
فيصل الأول
رحلات وتاريخ
تأليف
Shafi da ba'a sani ba
أمين الريحاني
جلالة الملك فيصل الثاني.
النسب النبوي
إن في سلسلة نسب الملك فيصل، التي لا يعتريها شيء من التقطع أو الخلل - بشهادة علماء الأنساب - حلقات عديدة عادية المعدن ركيكته، وحلقات ذهبية بارزة. وبكلمة أخرى، إن بين أجداده المتحدرين من بيت الرسول كثيرين من خاملي الذكر، لو دونت أسماؤهم لشغلت - دونما فائدة - صفحات من هذا الكتاب.
على أن ثمة أسماء جليلة بارزة هي من السلسلة بمنزلة القمم من الجبال، وأية سلالة يا ترى، تتساوى فيها الرفعة وتتماثل الأعمال! فقد غمرت السلالة الهاشمية أحقاب من الزمن، ذهبت فيها الصولة، وضاعت السيادة، فأمسى الاسم الشريف مرادفا للخمول والنسيان.
وكان يظهر بين كل حقب غامر وآخر، وإن طالت السنون، شريف نابع قوي، كبير الخلق، طائل الصولة؛ فيجدد في البيت عظمة إرثه، وعزة نفوذه، يعيد إليه سالف مجده، فيتصف خاصة به، ويعرف بعد ذلك باسمه؛ فنقول مثلا موسى الجون، وهو أقدم الأسماء المجيدة بعد الحسن والحسين، وذو عون أحدثها.
وقد تنازع السيادة في الحجاز ذو عون وذو زيد، البيتان الهاشميان الحديثان، في أوائل القرن الماضي، فكانت الغلبة لذي عون، وظلت ولاية مكة وسدانة الكعبة في أيديهم حتى نهاية الربع الأول من هذا القرن العشرين.
وهاك في السلسة بعض حلقاتها الذهبية البارزة:
موسى الجون من سلالة الحسن بن علي بن أبي طالب.
قتادة بن إدريس من سلالة موسى الجون.
Shafi da ba'a sani ba
محمد ابن نمي من سلالة قتادة.
محمد عبد المعين بن عون بن نمي.
الحسين بن علي ذو عون ملك الحجاز: علي ملك الحجاز سابقا − عبد الله أمير الأردن − فيصل الأول (غازي − فيصل الثاني − ملوك العراق) − زيد.
من الخيام إلى حومة السياسة
وجاءت البشائر بسلامة الأم، وبالولد الثالث للشريف حسين بن علي من زوجته عبدية ابنة عمه؛ الشريف عبد الله.
وكان ذلك في يوم من أيام الربيع من سنة 1301ه/1885م، فأسمي الطفل فيصلا، وحمل في يومه الثامن إلى عرب عتيبة خارج الطائف للرضاع؛ عملا بتقليد هاشمي قديم، يبدأ بمحمد بن عبد الله الذي أرضعته حليمة من بني سعد.
ودرج فيصل من الخيام، وترعرع في حضن البادية، فعدا حافيا مكشوف الصدر والرأس، في الشمس المحرقة، وفي الليالي المقمرة. وتبارى وصبيان العشيرة في العدو، وفي القفز، وفي ركوب الخيل ورمي السهام، وهم جميعا إخوان، أبناء الصحراء، وأبناء الحرية والمساواة.
ولكن الحرية والمساواة تختلفان وتتنازعان حتى في البادية، والصبيان صبيان في كل مكان.
وصاح صائح حول الخيام: «الغزو الغزو.» وكان أولاد العشيرة قد انقسموا قسمين ليمثلوا أهم الفصول في رواية البدو.
وأغار العربان الصغار، بعضهم على بعض، وكان فيصل ابن الشريف مقداما مغوارا، فغنم كوفية أخيه في الرضاع، وغنم قضيبه، وكان كلام وكان خصام، فتفاخرا، وتضاربا. وكادت المعركة تتحول من دور التمثيل إلى الحقيقة الدامية، لو لم يسرع الشيخ من خيمته، والخيزرانة بيده.
Shafi da ba'a sani ba
فتقدم الولدان واحتكما إليه، فسمع لهما ثم للشهود، وقال مخاطبا ابن الشريف: «اسمع يا فيصل، أنت ولدنا وهذا خويك، ولا مفاخرة. إن أحسنت إليه أحسن إليك، وإن أسأت أساء.»
هذه هي الأمثولة التي تعلمها الولد فيصل في البادية.
وفي تلك الأثناء كان أبوه الحسين يلعب لعبة سياسية، حول أوتاد الدولة العلية، فرأى الباديشاه أن الأفضل له وللعرب أن يكون هذا الشريف في الخيام من أن يكون خارجها، فاستدعاه إليه، فلبى الشريف حسين الدعوة، مصطحبا أهله وعياله، وأقاموا في الأستانة ضيوف السلطان - وقل أسراء الكرم السلطاني - سبع عشرة سنة.
وكان الشريف حسين، مثل كل عربي شريف، غيورا على اللغة العربية وآدابها، فاستخدم شابا سوريا من دمشق معلما خاصا لأولاده.
وجاء ذات يوم المعلم صفوت العوا يشكو فيصلا إلى أبيه: «هو كسول، يا مولاي، ومتأخر دائما في مثائله، وقد هددته بالقضيب إذا كان لا يجتهد مثل أخيه عبد الله.»
فقال الحسين: «اضربه، يابني، ولا تخف.»
ثم استدعى فيصلا إليه، وقال له: «يا فيصل، إن كنت لا تجتهد في التحصيل اليوم تندم غدا، ولا تظن أنك شريف، وأن هذا يكفي؛ الشريف يابني شريف بعلمه وعمله، شريف بأدبه وأخلاقه.» •••
وكان الشريف فيصل في النصف الأول من العقد الثالث من عمره، عندما عاد إلى الحجاز مع أبيه، الذي تقلد منصب الإمارة في مكة، وعينه مديرا لشئون البدو، فكانت وظيفته تستوجب الحملات التأديبية من حين إلى آخر، فيخرج وأخاه عبد الله بحملة على الغزاة والمتجاوزين.
وفي سنة 1902، عندما ثارت عسير على الدولة، واحتل رجال ألمع الأشداء أبها باسم الإدريسي، وهموا بالزحف على الحجاز؛ جهز الشريف حسين حملة، بلغ عددها سبعة آلاف، وسيرها على الإدريسي بقيادة الشريف فيصل. مشت الحملة في صيف ذاك العام إلى تهامة، فاستولت على القنفذة، وكان هدفها بعد ذلك أبها.
وكان في تهامة أعداء ثلاثة يحولون دونهم ودون العدو الآخر المحصن في الجبال، ثلاثة أعداء قهارون ذباحون للجيوش؛ هم الحر، والعطش، والحمى. وقد تغلبت الحملة على اثنين منهم، ووقعت في قبضة الثالث، فأجبرت على الإناخة، وأسرت في الخيام، فهل استولت الملاريا على الحملة كلها؟
Shafi da ba'a sani ba
أراد فيصل ذات يوم أن يتحقق مقدار النكبة، فأمر أحد رجاله أن يقف على ربوة ويصيح: «العدو، العدو! دونكم العدو!» فرددت الصيحة في الخيام، وما استطاع أن ينهض للقتال غير خمسمائة من سبعة الآلاف، فشكر الله ألا عدو هناك.
ولكنه، بعد أن زال الحر، تمكن من الزحف على أبها، فأخرج الجيش الإدريسي منها، ثم عاد الأدارسة فاستولوا عليها. ما انتصر في تلك الحملة - والحق يقال - غير الملاريا، التي كان فيصل أشد أسرائها ضنكا وأكثرهم وهنا، فعاد محمولا في كرسي إلى مكة، وقد لزمه أثر هذه الحمى طويلا، فأضعفه وهد من قواه.
ومما كان من نتائج تلك الحملة أن شؤمها سبقه إلى بيته واحتل زاوية منه، ذلك أنه شاع في الحجاز، عندما جاءت أخبار الحملة، أن الحمى أودت بحياة فيصل، وبلغت الإشاعة بيته، فذعرت ابنته الصغيرة ووقعت على رأسها، فأورثتها الصدمة شللا أقعدها، وما نجع فيه علاج الأطباء. •••
وفي السنة التالية انتخب فيصل نائبا عن جده في مجلس المبعوثان، فعاد إلى الأستانة، وكان ذلك أول عهده في السياسة، فجلس مع النواب العرب، وما قاوم رجال الحكومة. وقد تكررت سفراته بين مكة والأستانة، دون نتيجة تذكر. ما لمع فيصل في مجلس المبعوثان، ولا برز بين من كانوا يديرون يومئذ شئون الدولة ويفسدونها، بيد أنه انتمى إلى الحزب العربي، وظل من الموالين للدولة، بل كان في بداءة أمره يقول بوجوب التفاهم بين الترك والعرب، وبالحكم اللامركزي.
وقامت الحرب العظمى، ودخلت تركيا الحرب، وكان الشريف فيصل في سوريا مع جمال باشا، يواصل سعيه في سبيل قومه وسبيل دولته. وكان في الوقت نفسه رسولا بين والده وجمال، وهو الذي بلغه احتجاج الحسين على إعدام زعماء العرب.
الأمير فيصل في الحرب
عندما زار أنور باشا المدينة المنورة في طلائع سنة 1916، سافر في معيته من سوريا وفد من العلماء، بينهم شاب عربي يناهز الثالثة والثلاثين من العمر؛ خصه رئيس الوفد الشيخ أسعد الشقيري بالذكر لدى معالي الوزير، قائلا: «مما يثبت لكم تعلق الموحدين ومكانتكم في قلوبهم أنه بمناسبة هذه الزيارة وجد في معيتكم من آل الرسول
صلى الله عليه وسلم
الأمير فيصل نجل أمير مكة المكرمة.»
وكان الإنكليز قد باشروا باسم الأحلاف مفاوضة أمير مكة يومئذ، الملك حسين اليوم، لينهض بالعرب على الأتراك، فبعث جلالته يعتذر لأنور على عدم تمكنه من زيارته في المدينة المنورة، وأرسل سيفين مرصعين بالحجارة الكريمة هدية منه إليه وإلى رفيقه جمال باشا .
Shafi da ba'a sani ba
وبينما كانت تقام الحفلات في المدينة لدولتي «الأنور والجمال»، وكان الوزيران الورعان - وقد ظهرا في مظهر الدين وترديا برداء اليقين - يقومان بالمراسم الدينية ويرددان الصلوات، ويجلسان كالتلاميذ في حضرة العلماء ومشايخ الطرق وهو يتكلمون في علم الجهاد ويفسرون الآيات التي لها تعلق بالعلوم الحربية؛ كان الأمير فيصل بك ملازما لهما مشاركا في كل مظهر من مظاهر الحفاوة والإكرام، ولكنه لم يكن ليستوقف الأنظار؛ إذ كان ظله الصغير يومئذ يضيع بين ظلي بطلين من أبطال العثمانيين، وهادمي ملكهم.
بعد ثلاثة أشهر من هذه الزيارة المباركة كان فيصل أيضا من المشتغلين في التهديم، ولم يكن ليخطر في بال الوزيرين أو أحد من حاشيتهما أنه سيكون كذلك، وأنه سيبدأ في البلد الطيب الذي هم فيه، فيهدم الركن العربي من ملك بني عثمان. أما أن الأمر كان يجول في صدر الأمير نفسه فمما يحتمل الريب؛ لأنه لو أدرك أن أباه سينفر قريبا في النفير، لما كان رافق الوزيرين في عودتهما إلى الشام، وكاد يقع هناك في قبضة جمال لولا حيلة دبرها أبوه.
عاد الأمير فيصل من الشام في صيف تلك السنة بأربعة آلاف بندقية وعشرة آلاف ليرة ليجهز حملة من العرب تشترك في الزحف مع الترك والألمان على ترعة السويس، فلما وصل إلى المدينة سمع النفير يستنفر من ظلال الكعبة القبائل لمحاربة الأتراك، «أعداء العرب والإسلام»، فأطاع طبعا أباه الذي كان قد بدأ بتأليف جيش من القبائل تحت قيادة نجله الأمير عبد الله، فانتظم الأمير فيصل في هذا الجيش، ثم أسندت إليه قيادة جيش الشمال المشهور، فباشر عمله في حصار المدينة وتخريب قسم من سكة الحديد قرب العلا ليؤخر في الأقل وصول النجدات من الشام إلى العدو.
وصلت أخبار النهضة إلى سوريا، فرددت صداها الأستانة، ولكن أولياء الأمر هناك لم يهتموا في البدء لها،
1
فأدركوا خطأهم عندما صدرت الأوامر بالزحف ثانية على ترعة السويس؛ إذ وجدوا العرب الذين كانوا قد اتكلوا عليهم يحاربون مع الأحلاف. بيد أنهم لم يأتوا في بداءة الأمر بعمل في الشمال يذكر؛ أي إنهم لم يؤثروا، لا سلبا ولا إيجابا، في حملة السويس الثانية.
الشريف فيصل حينما كان في مجلس المبعوثان في إستانبول.
جلالة الملك فيصل الأول في بداية الثورة في العقبة من أعمال الحجاز.
إني في كتابة هذه النبذة أرجع إلى أربعة مصادر طالبا الحقيقة المجردة من الأهواء والتعصب، ومع ذلك أراني في بعض الأحايين حائرا بين الشهود الأربعة؛ هذا يبالغ، وذاك يجامل، وواحد يزيف الأعمال، وآخر يزخرفها. فقد جاء في كتاب فرنسي طبع السنة الماضية في باريس
2
Shafi da ba'a sani ba
أن الفضل، كل الفضل، في انتصار العرب في شرقي الأردن هو لشرذمة من الجنود الإنكليز وطابور من الفرنسيين البواسل.
وقد قال المؤرخ الإنكليزي:
3
إن العرب في الحرب خفيفو الحركة، سريعون، مرنون، لا يحملون الثقيل من العدة، وهم في القتال شجعان أشداء.
أما شهادة العرب أنفسهم فأسجل منها ما فيه الاعتراف بفضل غيرهم؛ فقد أجمع من حدثتهم ممن شاركوا في تلك الحملة، وسمو الأمير فيصل في مقدمتهم، على أن الفضل الجم في جمع شمل العربان في بداءة النهضة والتأليف بينهم، إنما هو لشاب إنكليزي يحسن العربية كأهلها، ويحسن كذلك التخلق دون تكلف بأخلاقهم، هو الكرنل لورنس. وقد أخبرني بعض من حاربوا تحت قيادة الأمير زيد أنه لم يكن ليأمر جنوده مرة بالهجوم إلا كان هو في الصف الأول. فإذا فات ذلك الكونت دي غنطو بيرون، المتحامل على العرب والإنكليز تحاملا لا يليق بفرنسي كريم، فكيف يفوته ذكر الكرنل لورنس ولو بكلمة في كتابه؟
إني أسجل الحقيقة كلها، فلا أنسى من له الفضل الأكبر في نجاح النهضة؛ وهو «الخيال» الإنكليزي، الذي لبى دعوته كثيرون من العربان، وفيهم من عشائر القصيم ونجد. قد ينكر جلالة الملك حسين أن أحدا من نجد اشترك في جهاد الأتراك، ولكني اجتمعت ببعض أولئك المتطوعين، فأخبروني بصراحة، عرف العربي بها، أنهم كانوا يحاربون أولا مع الأتراك، فزاد الملك حسين الراتب فانحازوا إليه.
وما كان أمراء العرب أنفسهم ليركنوا دائما إلى البدو؛ فقد قال الأمير علي - الذي كان في المدينة عندما وصل فيصل إليها، فاشتركا في حصارها - إنه لم يتمكن، بادئ ذي بدء، من عمل كبير؛ لأن البدو لم يلبوه دائما، ولم يثبتوا إذا كانوا ملبين. وكذلك الأمير فيصل الذي حاول متابعة الهجوم بعد تخريب سكة الحديد عند العلا، فخرج الأتراك من حصونهم في شهر آب، وحدث بينهم وبين العرب قتال خارج المدينة، خسر فيه الأمير خمسمائة من رجاله، وخسر الأتراك ضعفي هذا العدد، فعادوا إلى المدينة وطفقوا يضطهدون أشياع الشريف من أهلها وينكلون بهم، على أن الأمير لم يتمكن من متابعة ما عده نصرا في تلك الواقعة؛ لأن قواته لم تكن منظمة، وبالأحرى لأن قواته كانت لا تزال من العربان الذين لا يأتمرون بغير أوامر شيوخهم وينفرون من التنظيم.
أما اندحار الأتراك في مكة، فقد أثر تأثيرا عظيما في قوى العدو المادية والمعنوية، فتوقف جمال باشا عن شنق الأحرار في سوريا، وأمر أنور قائد الحامية في المدينة أن يدافع عنها حتى الموت، وضوعفت الحامية في معان للاحتفاظ بخط الحديد، واستؤنفت المواصلة بين دمشق والمدينة بالرغم عما خربه العرب من الخط قرب العلا.
كذلك أوقف الأتراك الأمير فيصلا، فاتخذ لنفسه مقرا حربيا بين العلا وينبع، ولبث ينتظر إنشاء جيش نظامي يدير جيوش البدو؛ إذ إن الإنكليز كانوا قد أسروا كثيرين من العرب وضباطهم الذين حاربوا في صفوف الأتراك، فجاءوا بهم إلى مصر؛ حيث بدأ التجنيد لجيش العرب الشمالي. كان أكثر الأسرى من العراق وسوريا وفلسطين، فلبوا مهللين دعوة الشريف حسين، وفيهم من الضباط الذين اشتهروا بعدئذ في ساحات القتال؛ مثل: جعفر العسكري، وجودت البغدادي، ونوري السعيد، وغيرهم. بيد أن تنظيم هذا الجيش لم يتم حتى أوائل سنة 1917، فلما ظهر في الحجاز ازداد عدد الفارين من جيوش الأتراك المنضمين إلى جيوش العرب.
من أنكر فضل الملك حسين وأنجاله في النهضة لا يستطيع، إذا كان منصفا، أن ينكر فائدتين على الأقل فيها؛ فائدة للأحلاف وخصوصا للإنكليز، وفائدة لعرب سوريا وفلسطين الذين أثارت فيهم مظالم جمال كوامن الضغينة والغضب، فوجدوا في صاحب النهضة الأكبر زعيما يتبعون، وقطب ثأر فيثأرون، ومحط آمال يحققون.
Shafi da ba'a sani ba
جاءوا - كما تقدم - من مصر، يقود قسما منهم الأمير لواء السيد علي باشا، فانضموا إلى جيش الأمير فيصل الذي شرع يزحف شمالا في شتاء تلك السنة حتى وصل إلى حدود بادية التيه. وكان الأمير علي مشتغلا في ضرب مراكز الأتراك العديدة على جانبي سكة الحديد، فحمى بذلك مؤخر جيش أخيه الذي استولى في زحفه على خط مسافته ستون ميلا يمتد من البحر إلى معان. أما إكليل انتصارات العرب في هذه السنة، فهو سقوط العقبة ودخول الأمير فيصل إليها في 6 تموز، ولم يكن ذلك ليذكر لولا تأثيره الحسن في حركة الجنود البريطانيين في هجومهم على غزة وبير السبع.
كان الجنرال آلنبي قد استلم آنئذ قيادة الجيش، فاعترف بفضل العرب في ردهم سريات الأتراك التي كانت تجيء من معان إلى بادية سينا، فتضرب الإنكليز في مؤخرهم. ولو لم يكن للعرب غير هذا الفضل - أي تأمين مؤخر جيش الجنرال آلنبي - لكفى به فضلا؛ فلولا تقدم فيصل إلى حدود سينا لما ضرب آلنبي غزة وبير السبع، ولولا سقوط العقبة لما سقطت تلك البلدة على البحر التي دافع عنها الترك والألمان دفاعا يستحق الذكر والإعجاب، ولما أعاد الإنكليز الكرة على بغداد لولا ثقتهم بالنهضة العربية ورجالها وجنودها.
جاء في نشرة من نشرات الوزارة الحربية في آب 1917: إن خطة العرب في بداءة نهضتهم لخطة وجيهة فيها حذق وحزم ودهاء؛ فقد خربوا أقساما من سكة حديد الحجاز، واستولوا على مراكز الأتراك إلى جانبي السكة، وكانوا في أعمالهم على جانب عظيم من الجرأة والبسالة، فيتغلبون غالبا على جيش أكثر منهم عددا وأوفر منهم عدة.
وجاء في كتاب الكونت دي غنطو بيرون: «لا قيمة حربية لجموع العرب، فهم يظهرون ويختفون كيفما يشاءون وساعة يشاءون، ولا يستطيعون رد الصدمات الشديدة، بل يتفرقون ويهربون أول مرة تطلق عليهم النار.»
وجاء في الأعمال وهي أصدق الشهود: عندما سقطت غزة في منتصف تشرين الثاني، كانت قد وصلت سريات الأمير فيصل إلى ما بين عمان ودرعا، فهدموا جسرا هناك، وغلبوا الأتراك في واقعة صغيرة قتل فيها خمسة من العرب ومائة وعشرون من الترك، ونسفوا القطار الذي كان مقلا جمال باشا وهو عائد من القدس إلى الشام، وقد كتبت له السلامة.
4
في الشهر الأول من سنة 1918 استأنف الأمير القتال والهجوم، فاتصل جيشه بطرف من جيش الجنرال آلنبي في ناحية البحر الميت قرب رجم البحر، وتجددت الهجمات على معان التي كانت لا تزال في حوزة الأتراك، ثم أمعن العرب في الغزوات شرقا، فوصلوا إلى ناحية الجوف؛ حيث كان الترك يحاولون مفاوضة ابن الرشيد في حايل ليغروه بالشريف. استولى العرب على تيماء، وقطع العرب الخط على العدو، فاستحال عليه بعدئذ إرسال النجدات من معان إلى المدنية. نسف العرب قطارا قرب تبوك مشحونا بالجنود، فقتلوا كل من فيه، وغنموا كل ما فيه مع أربعة وعشرين ألف ليرة.
قد كانت خطة الأمير فيصل في بداءة هذه السنة تنحصر ظاهرا في الاستيلاء على معان، ولكنه أراد في إشغال الترك هناك أن يستولي على بقعة مهمة في شرق الأردن؛ هي الكرك. فأرسل شراذم من جنوده على معان يداومون الهجوم والمفاجآت، وساعده الجنرال آلنبي بما ساق من الطائرات على البلد. قد غنم العرب في هجماتهم مدفعين جبليين، وثمانية عشر مدفعا رشاشا، وثمانمائة بندقية، ومائتي رأس من الخيل، واستولوا على جوف الدرويش؛ فأحاطوا بالعدو ومنعوه من إرسال نجدات إلى المرابطين من الأتراك في الكرك.
كذلك تقدم الأمير - وهو أمين من الغدر - إلى محجته، فقسم جنده قسمين؛ قسما مشى من العقبة فاجتاز خط الحديد شمالا ورد العدو إلى مركز يبعد خمسة أميال من معان، وقسما مشى من وادي موسى فأخرج العدو من مراكزه في الطريق حتى الطفيلة، التي هي على مسافة ثمانية عشر ميلا من البحر الميت. فلما سلمت حامية الطفيلة، اضطرب الأتراك في الكرك وخرجوا بأحد عشر طابورا وبعض الخيالة والمدافع يستعيدونها، فالتقى الفريقان في 26 كانون الثاني على شاطئ سيل الحسا، وهي على مسافة أحد عشر ميلا شمال الطفيلة، فانهزم الأتراك، وكانت خسائرهم أربعمائة من القتلى وثلاثمائة أسير.
لم يقف الأمير فيصل عند هذا الفوز، بل استمر زاحفا حتى وصل بعد يومين إلى البحر الميت، فضرب جيشه مركزا للترك هناك، فأغرق مركبا حربيا صغيرا وعدة سنابك، وغنم كثيرا من الحبوب، وأسر عددا من الجنود. ثم أعاد الأمير تنظيم جنوده، بعد أن ثبت قدمه على شاطئ البحر شرقا، ليواصل الزحف على الكرك. وكان الجنرال آلنبي قد استولى على أريحا وعبر بجنوده الأردن فتقدم نحو عمان. لا شك أن الهجوم البريطاني شرقي الأردن كان عونا للأمير فيما سعى إليه، وكان من حظه أيضا أن الطائرات التي جاءت تساعد الجنرال في زحفه إلى عمان ساعدت كذلك العرب في زحفهم على الكرك التي استولوا عليها في 7 نيسان، فقطعوا عن الأتراك في معان مورد تموين مهم.
Shafi da ba'a sani ba
معان وعمان
عندما كانت المفاوضات جارية بين الإنكليز والشريف أو بعدها، بعثت الحكومة الفرنسية وفدا من مسلمي الجزائر إلى الحجاز، يحمل إلى أميره تلك الهدية المشهورة؛ تلك الساعة التي رمزت إلى هدية مثلها من خليفة العرب إلى ملك الفرنجة في سالف الزمان. ثم أرسلت بعض المواد والمعدات الحربية، وبعض الضباط إلى جدة ليشارفوا تنظيم الجيش الحجازي، ويظهر أن ثلاثة منهم رافقوا بعدئذ جيش الشمال إلى دمشق.
غني عن البيان أن فرنسا في تلك الأيام كانت تحتاج في بلادها إلى كل جندي تستطيع تجنيده، ولم تكن مشاركتها في الحملة على الأتراك في فلسطين إلا اسمية في البداءة. فشاءت أن تتجاوز هذه الحال ليحق لها كلمة سياسية بعدئذ فيما يختص بمصير البلاد، فأرسلت ثلاثة طوابير من جنود الجزائر وتونس والمستعمرات لتشترك في الدفاع عن ترعة السويس وفي الهجوم على فلسطين، وكانت قد باشرت في أوائل عام 1917 إنشاء الفرقة الشرقية من متطوعي الأرمن والسوريين، فنقلت إلى ساحة القتال بعد فتح القدس من كانوا منهم يتمرنون في قبرص وبورسعيد.
بيد أن هذه العساكر التونسية والجزائرية والسورية، التي رافقت الجيش البريطاني، لم تشارك العرب في شرق الأردن بشيء يذكر. أما الضباط البريطانيون والفرنسيون فليس من ينكر أن بعضهم رافقوا الجيش النظامي وساعدوه في تنظيم العربان وتحريضهم على القتال.
كان عدد من انضم من البدو إلى الجيش العربي يناهز المائة ألف، أما العسكر النظامي فلم يتجاوز الخمسة آلاف، وكان ضباطه كثيرين، ولا غرو بالنسبة إلى عدده، غير أنهم لم يبلغوا عشر ما ادعاه ساسة الفرنسيين المتحاملون على العرب، المشنعون بهم في الصحافة وفي مجلس الأمة.
أعود إلى الحوادث؛ بعد شهر من سقوط الكرك في حوزة الأمير، أي في 8 أيار، ضرب العرب محطة القطرانة وأسروا عددا من الترك، ثم بعد أسبوع هجموا على الحسا، فأخذوا قطارا كان هناك ودمروا قسما من العدة والذخيرة، ولكن العدو أخرجهم بعدئذ من الحسا، فتقهقروا جنوبا وهم يخربون في الجسور والخط.
وكانت قوات الترك تزداد بعد هجوم الإنكليز على السلط وعمان، فالقيادة العامة في الناصرة، عندما وصلت إليها تلك الأخبار - وصلت متأخرة لأن العرب كانوا عاملين بتقطيع أسلاك البرق والتلفون - أصدرت الأوامر بإنجاد الحامية في عمان وبنقل الجنود من الشام وحلب إلى درعا ووادي اليرموك. يصح أن يقال إن أشد أيام القتال على العرب كانت في صيف هذه السنة 1918، وقد ظهرت نتيجة النجدات في تقهقر الإنكليز من عمان والسلط إلى غربي نهر الشريعة بعد واقعة الأردن الثانية.
على أن هذه الهزيمة لم تثبط من عزم العرب، بل حملتهم على استئناف الهجوم والقتال، وكانوا في شهري أيار وحزيران يزدادون قوة بما جاءهم من العساكر النظامية الجديدة من عراقيين وسوريين وفلسطينيين، حتى إنه بينما كان شبه هدنة في ساحات الحرب غربي الأردن في شهر حزيران، كان العرب بقيادة الأمير فيصل وقواده يواصلون الهجوم والقتال، ولكنهم ردوا عن معان خاسرين مرارا، وخصوصا في 22 تموز عندما هجموا على محطة قربها، فكانت خسائرهم عشرين ضابطا ومائتين من الجنود. كان نوري السعيد في تلك الناحية عين الحركة ويدها، فحمل في أواخر آب بألفين من الجنود النظاميين وخمسمائة من البدو وعشرة مدافع حملة على معان أسقطتها بعد قتال عنيف في حوزة العرب.
وصلت هذه الأخبار إلى الشام، فاستيقظت فيها الروح العربية الراقدة ، وطفق الناس يتهامسون مستبشرين بالنصر القريب، بل حام بعض العرب حول المدينة وفيها، مبشرين بفيصل، رافعين علم الحجاز الرباعي الألوان، وشرعت تتحرك وراء الستر وتحت الحجب تلك السياسة التي كادت تقضي عليها مظالم جمال وفظائعه، فاتصل بالأستانة خبرها، فسارع أولياء الأمر هناك إلى إصلاح الأمر. أرسلوا يعرضون على القائد الألماني الجنرال فن سندرس الحكم في سوريا؛ علهم يقاومون بذلك تلك الروح النافرة منهم ويسترضونها، ولكنهم تأخروا فيما اهتدوا إليه من الحكمة الموهومة، وغدا الجنرال في ذاك الحين أشد اهتماما بالهرب منه بالحكم.
صدرت الأوامر بالهجوم العام في 19 أيلول، فتحرك الجنود البريطانيون في خط طوله ثمانون كيلومترا، يمتد من الساحل حتى نهر الشريعة، ولم يقفوا إلا بعد أن أخرجوا الألمان والأتراك من فلسطين والجليل، وجاء العرب من شرقي الأردن يسوقون أمامهم ما تبقى من الجيش الرابع حتى قربوا من درعا، وكانت مفرزة النصر بقيادة جودت بك البغدادي
Shafi da ba'a sani ba
1
في طليعة الجيش، فضربت الأتراك في درعا في 28 أيلول فهزمتهم، وأسرت منهم عددا كبيرا من الضباط والجنود.
وبعد يومين، في 1 تشرين الأول سنة 1918، دخل الأمير فيصل على رأس الجيش العربي إلى الشام، ودخلت سريات من الجيش البريطاني إلى بيروت.
مناطق الفوضى
عند انتهاء الشهر الأول، أي تشرين الأول، من سنة النصر كانت البلاد السورية قد خلت من جيوش الترك والألمان، فزالت عوامل الحرب الظاهرة، ودخلت الأمة في طور من أطوار السياسة لا يقل بشدائده عن الحرب. أجل، ما كادت تخرج البلاد من مظالم الترك حتى دخلت في ظلمات الفوضى. ولا أظن أن عوامل السياسة - وسمومها - تعددت في بلد من البلدان الصغيرة التي اشتركت في الحرب تعددها وتزاحمها في هذه البلاد السورية، وعلى الأخص في دمشق.
وكانت البلية الكبرى في عوامل السياسة الخفية، جاء الجيش العربي وجاءت معه السياستان العربية والحجازية، وجاء الجيش البريطاني يعضد العرب ظاهرا ويناهض الفرنسيين سرا، فتشعبت سياسة حكومته إلى ثلاث شعب؛ أولها وأهمها وأثبتها المصلحة البريطانية. وجاء الفرنسيون هائجين ناقمين، وفي مقدمة قافلتهم سياسة لبنان، وفي مؤخرها سياسة الموارنة، وفي أولها ووسطها وآخرها سياسة فرنسا في البحر المتوسط.
وكان في البلاد ولا يزال سبع طوائف رئيسية، هي سبع ضربات مذهبية، وفي كل ضربة سبع ضربات وطنية. ثم جاءت اللجنة الأميركية تستفتي هذه الأمة المنكوبة، فزادت بنكبتها بسموم سياستها. أضف إلى ذلك كله وعود الأحلاف والعهود السرية وما فيها من إخلاص كنهه الأخطار، فإذا ما زالت الأخطار زال، ثم حقوق العرب والوحدة العربية وما فيها من أحلام تجلت ساعة العاصفة كقوس قزح في سماء الحرب العظمى، فغدت بعدها كالحباحب في مساء الآمال.
إنك إذا تصورت هذه الحالة العجيبة في شكل دائرة نقطتها البلاد السورية وروح النقطة وحياتها الأمير فيصل، ثم تمثلت السياسات التي ذكرت تحوم حولها وحوله تارة، وطورا تجري كالضباب المكهرب تحتها وفوقها، دون محجة تعرف، ودون قصد ظاهر يدرك، وأضفت إلى ذلك فقدان ركنين من أركان العظمة السياسية، وهما الأمة المتحدة القوية والتقليد الوطني الحي؛ تجلت لك الصعوبات التي واجهت الرجل.
دخل الأمير الشام دخول البطل الظافر، والمنقذ المحبوب، فاحتلت جيوشه العربية ومعهم بعض الجنود البريطانيين البلدان التي فتحت لهم أبوابها وقلوبها مهللة مرحبة، ورفع العلم العربي الرباعي الألوان فوق دور الحكومة من السويداء إلى حلب، ومن دمشق إلى بيروت، فاضطربت على السواحل وفي لبنان أقوام، وطربت أقوام.
على أن العرب في بداءة أمرهم أخطئوا مرتين حربيا وسياسيا؛ فقد أخطئوا في قتلهم الأمير عبد القادر الجزائري، وأخطئوا في إنفاذ شكري الأيوبي إلى بيروت ليحكمها باسم الملك حسين، فما عتمت أن ظهرت في المدينة العقدة السياسية التي حجبتها عن عيون الناس زين الترحيب وأزهار الفوز والتمجيد. أجل، قد امتعض المسلمون أنفسهم من هذا العمل؛ لأنهم كانوا يفضلون أن يقام الحاكم من المدينة نفسها، كذلك يفعل الفاتح الحصيف الحكيم. ولكن الحكم العربي لم يدم أكثر من أسبوع، أمر الأيوبي برفع العلم العربي فوق السراي في اليوم الثاني من تشرين الأول، ثم أمر في اليوم التاسع بإنزاله.
Shafi da ba'a sani ba
1
وكان القائد الفرنسي الكولونل بياباب
2
قد وصل بجنوده إلى المدينة، فخرجت إذ ذاك السياسة من طورها العربي إلى أطوارها الدولية والمذهبية المتعددة.
إن التبعة في ذلك لعلى الأحلاف أصحاب العهود السرية، والمطامع الأشعبية، والوعود العرقوبية، إليك من فعلاتهم اثنتين ليس بينهما غير شهر واحد من الزمان؛ الأولى منشورهم الذي نشر في أيلول قبل احتلال البلاد السورية، والثانية بلاغهم في الشهر التالي، أي بعد الاحتلال، ذاك البلاغ الذي ينقض كل ما في المنشور.
إني ألخص ما أعلن قبل الاحتلال فيما يلي: إن الغاية التي من أجلها تحارب بريطانيا وفرنسا في الشرق هي تحرير الشعوب الرازحة منذ زمن طويل تحت ظلم الأتراك تحريرا تاما ناجزا، وإنشاء حكومات وطنية تستمد قوتها من أهالي البلاد عملا بإرادتهم، ووفقا لاختيارهم الحر.
أما البلاغ الذي أصدره الجنرال بلس
3
المتعلق ب «إدارة أراضي العدو المحتلة» المؤرخ 22 تشرين الأول؛ فهو يقسم البلاد السورية فيما يشبه الطريقة التي قسمت بها سابقا في معاهدة «سيكس- بيكو» وهي: المنطقة الجنوبية أي فلسطين إدارتها بريطانية؛ والمنطقة الغربية أي السواحل حتى الإسكندرونة إدارتها فرنسية، والمنطقة الشرقية من حلب إلى دمشق إدارتها عربية.
لم يكن في هذا البلاغ ما يرضي أحدا من أصحاب السيادة والمصالح في هذه البلاد؛ لم يرض الإنكليز وهم يصدرونه مكرهين لأنهم لا يرغبون بالفرنسيين في سوريا؛ ولم يرض الفرنسيين لأنهم طامعون بالغنيمة كلها، وكانوا يفضلون الرجوع إلى معاهدة «سيكس- بيكو» التي تضمن لهم أضعاف هذه المنطقة مساحة وأهمية؛ ولم يرض العرب لأن البلاغ سلبهم مناطق هي جزء حي من بلادهم.
Shafi da ba'a sani ba
بعد إعلان هذه الخطة الإدارية، اضطربت دوائر السياسة في الشام، وكان قد اتفق الأمير فيصل وأولياء الأمر من البريطانيين أن يسافر إلى باريس ليمثل العرب في مؤتمر فرساي، فنزل إلى بيروت في معيته الكرنل لورنس، فدخلها مثلما دخل دمشق زعيما محبوبا، وكان له فيها استقبال فاق استقبال الدمشقيين رونقا وبهاء. نزل الأمير ضيفا على الجنرال بلفين
4
قائد الفرقة البريطانية الحادية والعشرين، وأقام في المدينة ثلاثة أيام، وصرح قبل سفره أنه يطالب باستقلال المناطق المحررة بمساعدة الأحلاف من حكم الأتراك ، وأنه ذاهب إلى باريس لهذه الغاية .
وفي 22 تشرين الثاني سنة 1918 أبحر من بيروت، فاستقبل في مرسيليا استقبالا رسميا، وما كاد يصل إلى باريس حتى استحالت شهرته العربية إلى شهرة أوروبية، بل إلى شهرة حملها البرق على أجنحة الصحافة إلى أقطار العالم المتمدن كافة.
كان الأمير في باريس قطب دائرة باهرة من دوائر السياسة. ولا غرو؛ فهو لطيف في مقابلته، مؤنس في مجلسه، مقنع في حديثه، فأدهش حتى الصحفيين. لا أظن أن الصحافة إجمالا عطفت على قضية من قضايا الحرب عطفها على القضية العربية وحامل لوائها.
وقد أعجب بالأمير كثيرون من السوريين اللبنانيين الذين كانوا يقاومون سياسته العربية بسياسة لبنانية فرنسية. وجاء باريس وفود من سوريي أميركا ليعلنوا رسميا أنهم من أنصاره، فكان - والحق يقال - موفقا في أنصاره ومريديه أكثر من كبار ساسة ذاك الزمان.
ثم جاءه فاضل أميركي يفتح باب الأمل الأكبر؛ الأمل الجديد الأبهر، فتمثل الأمير الفوز على يد أميركا إذا خذلته إنكلترا، ورحب بمساعي رئيس الجامعة الأميركية السابق الدكتور هاورد بليس، الذي كان يعتقد أن الحكومة الأميركية تقبل الانتداب في سوريا إذا طلب ذلك السوريون.
هو ذا الأمير فيصل تتجاذبه العوامل السياسية العديدة، يحوم حوله الزعماء وتتزلف إليه الآمال المائعة، وتشع أمامه مصابيح الصحافة، وتجلس لديه عرائس الشهرة والإعجاب، وتهمس في أذنه المقاصد الدولية كلمات لها كل يوم معنى جديد. ولكنه في باريس، تحت عين الحكومة الفرنسية، وفي ظل ابتسامة أمة نبوغها في تهكمها، بيد أن هذا النبوغ لا يشمل دائما حكومتها؛ فقد أحدث وجود الأمير في باريس ضجة أزعجت تلك الحكومة، فصرح في 29 ك1 المسيو بيشون وزير الخارجية يومئذ بأن لفرنسا حقوقا تاريخية وشرعية وثقافية في سوريا لا تتنازل قطعا عنها.
وكان الأمير لا يزال ينتظر الإذن بالدخول إلى مؤتمر السلم، فرفع إليه بعد يومين عريضة فيها الجواب بما يلي من المطالب على تصريح وزير الخارجية.
طلب الأمير:
Shafi da ba'a sani ba
استقلال سوريا الداخلي التام مع مساعدة أخصائيين من الأجانب تختارهم وتستخدمهم الحكومة السورية. أما الأمور الخارجية فتكون متصلة بأمور الحجاز؛ أي أن تكون حكومة الحجاز والحكومة السورية حكومة واحدة في الأمور الأجنبية.
تشارف على العراق والجزيرة دولة من الدول العظمى.
استقلال الحجاز مقرر ومعترف به.
أما اليمن ونجد فتدير شئون كل منهما حكومة مستقلة يكون لها اتصال مباشر مع الحجاز.
5
فلسطين مثل العراق تقبل بوصاية أجنبية.
قد حاول الأمير في هذه العريضة أن يوفق بين سياسة بريطانيا وسياسة جلالة أبيه، ولم يغفل فرنسا تماما؛ فهو لم يذكر لبنان اعتبارا لما تدعيه فيه واحتراما لأماني أهاليه، ولكنه عندما طلب أن يدخل المؤتمر ممثلا لجلالة أبيه، أبت الحكومة الفرنسية ولم تقبل أن يحضر الجلسات إلا بكونه قائدا من قواد جيوش الأحلاف، فدخل بهذه الصفة وارتقى في مطالبه إلى الوحدة العربية التي تشمل الأقطار العربية كلها من جبال طوروس إلى اليمن، ومن الموصل إلى حضرموت.
أما في سوريا، فبالرغم عن بلاغ الجنرال بلس، ويصح أن أقول بسبب ذاك البلاغ كانت الأحوال تزداد خللا واضطرابا. وما عسى أن يرجى من العوامل المثلثة في الجيوش الثلاثة، والإدارات الثلاث؟ فقد كانت السياسات الرئيسية تتجاوز الحدود الجديدة؛ إما جهلا من أولياء الأمر، وإما عمدا، فتصدم في كل حال الإرادات والمصالح، وهي في حال الالتهاب، بل كانت البلاد كلها في تلك الأيام مليئة بالمواد المتفجرة، وكان كل من تحرك فيها ممن له شيء من السلطة يحمل على لسانه وبيده النار والكبريت، فلا عجب إذا تعددت فيها حوادث الانفجار.
الملك فيصل الأول في بداية الثورة العربية في سوريا يحيط به رجاله مع لورنس (لورنس الثاني في الجالسين إلى اليسار).
احتل العرب أنطاكية، فجاء الفرنسيون يخرجونهم منها، فرفع فيها العلمان الفرنسي والعربي، وكانت فيها ضجة من جراء ذلك ما بين أحمد والمسيح. احتل جيش بريطاني الإسكندرونة، فجاء الفرنسيون من البحر يحتجون عليهم، فرفع فيها العلمان، وتخاصم تحتهما الفريقان. جاء المندوب السامي جورج بيكو
Shafi da ba'a sani ba
6
إلى الجنرال آلنبي
7
ذات يوم يحتج باسم الحكومة الفرنسية في أمر من الأمور، فقال الجنرال: أنا لا أعرف لا حكومتك ولا حكومتي، أنا لا أعرف غير الوزارة الحربية. وتسربت الأحقاد من الكبار إلى من دونهم، فكانت المنافسات بين وكلاء الإنكليز والفرنسيين تقلل من قيمة الأوروبيين في عين الأهالي، مسيحيين كانوا أو مسلمين.
أضف إليها تلك الضغائن التي ولدتها الحرب ونشأت بين جنود الأمتين في الخنادق، فانتقلت إلى ساحة السياسة في الشرق الأدنى، وكان أهل سوريا فريسة شرورها؛ ثم الدسائس العربية على الفرنسيين والتجسس لهم أيضا بوساطة أناس من السوريين عدوا يوما من كبار الوطنيين؛ ثم دسائس المسيحيين على العرب وكانت مصادرها تلك المقامات العالية المحترمة؛ مقامات الورع والتقوى؛ ثم صيحات الفرنسيين أنفسهم واحتجاجاتهم المتواصلة المتعددة على الإنكليز، وعلى العرب، وعلى الجيش الشريفي، وعلى القيادة العامة، وعلى الأميركيين والجامعة الأميركية، وعلى كل من قاومهم سرا أو علنا أو رفض أن يعترف بحقوقهم «الثقافية والتاريخية والشرعية» في البلاد.
إنها لحالة عجيبة محزنة يندر نظيرها في العالم، وأدعى منها إلى الحزن أنهم جاءوا إلى سوريا فارغي الوفاض يطالبون بهذه الحقوق، جاءوا يبسطون سيادتهم في البلاد دون أن يبذلوا شيئا في سبيلها، أو يستطيعوا في الأقل أن يحفظوا النظام فيها، فلم يكن لديهم في السنة الأولى من المال والرجال والجنود والأعتدة ما يكفي لحكم مدينة صغيرة، فحاولوا الاستيلاء على المنطقة الغربية، منطقتهم، بما تبقى من الفرقة الشرقية وببضع مئات غيرها من الجنود، فأسقط في أيديهم، وسقطوا في عيون مريديهم.
إن ضعف الفرنسيين، والحق يقال، وقصر ذات يدهم بالنسبة إلى ما كانوا يدعون ويطلبون، لمن الأسباب الأولى في تلك الاضطرابات، ومن تلك الأسباب أيضا جهل أولياء الأمر من العرب؛ جهلهم السياسة الدولية، جهلهم طباع الأوروبيين، جهلهم حتى خطة البريطانيين في أطماعهم، تلك الأطماع التي قيدتها وعودهم في الحرب، فاضطرتهم إلى السياسة السرية في تنشيط العرب تارة، وطورا في تثبيطهم. ومن أسباب الاضطرابات أيضا تعدد الحكومات في البلاد؛ فكان فيها أولا القيادة البريطانية العامة، ثم الانتداب الفرنسي مدعوما بشرذمة من الجنود البحريين، ثم مجلس إدارة لبنان، ثم الحكومة العربية، ثم رجال الدين والأعيان.
والكل سارعوا كالأولاد إلى احتلال كراسي السيادة والمجد؛ فقد تسرع الفرنسيون في تعيين وكلاء لهم في الشام وحلب، كما تسرع العرب في تعيين حاكم عربي في بيروت. وكيف لا والقيادة البريطانية العامة صاحبة الأمر رسميا في البلاد، فلم تعترف حتى بالمندوب الفرنسي السامي إلا كمستشار سياسي لديها، فماذا عسى أن تكون العلائق مع مستشارين صغيرين.
بدأ البركان يتفجر في أواسط كانون الثاني سنة 1919؛ إذ عندما علمت الشام بتصريح المسيو بيشون فيما يتعلق بفرنسا وحقوقها في سوريا، ضجت المدينة غضبا واحتجاجا، وكان النادي العربي رأسها ولسان حالها، فأضرم في الجرائد نار العداء للأجانب، وبعث الخطباء في أنحاء البلاد يحرضون الوطنيين على التظاهرات ضد الاحتلال والانتداب، وخطب خطيب في الجامع الأموي يدعو الناس للتجند دفاعا عن الوطن.
في هذا الشهر أيضا ألقى المسيو بيكو خطابا في دمشق فهم منه أن قد تم الاتفاق بين الأمير والحكومة الفرنسية بشأن سوريا، فغضب لذلك المسيحيون وهم يظنون أن فرنسا تفضل المسلمين عليهم، وقد تفادي بهم في سبيل السياسة والمصلحة. فما كانت فرنسا فيما صرح به وزيرها ومندوبها لترضي أحدا، لا الخصم ولا الصديق.
Shafi da ba'a sani ba
ثم خطب في سراي بعبدا رئيس الوفد اللبناني الأول داود عمون مفصحا عما كانت نتيجة مسعاهم في باريس، فقال: «إن بين لبنان وسوريا علاقات تجارية، وصلات متينة، تستوجب ألا يفصل الشقيق عن شقيقه؛ فاجتمعت كلمتنا، كلمة الوفد، على وجوب انضمام الاثنين تحت مراقبة واحدة.»
فجاء كلامه ضغثا على إبالة. قال زعماء العرب: إن الحكومة الفرنسية تروم احتلال سوريا بوساطة أصدقائها اللبنانيين. واتفق أن يوم خطب عمون خطبته عقد اجتماع في دمشق احتجاجا على تصريح بيشون، فعقبت عليه المدن السورية الأخرى، وحدثت أثناء هذه التظاهرات في 28 شباط سنة 1919 مذبحة الأرمن في حلب.
لا حاجة ولا مجال ها هنا للنظر في تلك الحادثة المحزنة، بيد أنه من المؤكد أن لو كان في المدينة حكومة متيقظة منظمة، عربية كانت أو بريطانية أو فرنسية، لما كان عتو الأرمن يحمل بعض العرب المسلمين على المفاداة بسمعتهم الطيبة، خصوصا بعدما كان من إحسان الأمير فيصل وجنوده إلى منكوبي الأرمن في الكرك.
لجنة الاستفتاء الأميركية
كان الأمير محترما مكرما في مؤتمر فرساي، وكان كذلك الرئيس ولسون، ولكن السياسة الدولية لا ترعى آداب الاجتماع ولا تهمها فروض التكريم، فلا تملك نظريات المصلحين وأماني الوطنيين من مصالح الأمم. قد سقت ولسون، تلك السياسة، الخل والمر بعد أن شاركت صامتة في إكرامه ذلك الإكرام الفريد المجيد، وكانت أرفق حالا بفيصل، وكيف لا وقد عرض أحد أساطينها في تلك الأيام على الأمير العربي بعض بنود فيها تضمن فرنسا استقلال سوريا تحت إمارته وبمشاركتها في بعض الأمور الاختصاصية والاقتصادية، وتضمن كذلك استقلالا نوعيا للبنان إلى أن يتم الاتفاق بينه وبين سوريا.
ولكن الأمير رفض ما عرضه الوزير الفرنسي المسيو كليمنصو، وعاد إلى سوريا ليستشير - كما قال - الأمة. سافر الأمير إلى فرنسا على المدرعة البريطانية «غلاستر» وفي معيته الكرنل لورنس
1
وعاد إلى بيروت على المدرعة الفرنسية «إدغار كينه» وفي معيته الكولونل تولا.
2
أمتان تتباريان في إكرامه، أمتان تتسارعان إلى خطب وداده، أمتان تسعيان في تعزيز سياستهما في سوريا والبلاد العربية عن طريقه.
Shafi da ba'a sani ba
إني متيقن أنه لولا أمر واحد، لكان قد اختار أحدهما في سفرته الأولى إلى باريس، بل لكان قبل كل ما عرضه عليه كليمنصو، أمر واحد تخلل معقوله وأضعف فيه القوة الحاكمة، أمر واحد هز منه القلب والمخيلة، وأشعل فيهما مصباح أمل هو أقرب إلى الأحلام منه إلى أحكام الأيام، فخدع الأمير وخدع غيره ممن هم أكبر منه، أجل قد خدع به أحد «الثلاثة الكبار»؛
3
الرئيس ولسون نفسه، وهو الذي خدع الأمير، كما خدع غيره من الناس ومن الأمم والشعوب، بما ظنه مظهرا لسياسات الدول كلها وبلسما لجروح الأمم جمعاء. «تقرير المصير»، «حق الشعوب بتقرير مصيرها»؛ إنها لكلمات فتانة! ولكنها لم تكن لتستطيع أن تخدع الأمير لولا مساعي هاورد بليس في سبيلها. ولا أظن أن ما صوره وتصوره الدكتور بليس، وما ضج به سوريو المهجر، كان يقنع الأمير كل الإقناع، ويحمله على عمل يخالف الحكومتين البريطانية والفرنسية، لولا - وها هنا رأس الخدعة وإكليلها - لولا اللجنة التي طلب تشكيلها الرئيس ولسون لتستفتي الأمة السورية. من من الناس لا تخدعه هذه المناورات السياسية، وبالأحرى هذه النظريات والأحكام من رئيس إحدى الأمم العظمى، بل أعظم في تلك الأيام.
عاد الأمير إلى سوريا وفي صدره، ولا ريب، أمل بالتخلص من الحكومتين البريطانية والفرنسية، بل في صدره أمل بتحقيق أمانيه الوطنية العربية على يد الحكومة الأميركية. وصل إلى بيروت في 30 نيسان، وكانت الأمة تنتظر قدومه وهي تائقة إلى أخباره وتصريحاته. تركها منذ خمسة أشهر وآماله راقدة، فعاد إليها وآماله تغرد في قفص الأحلام. تركها أميرا عربيا قد يفلح وقد لا يفلح في مساعيه، فعاد إليها أميرا خطيرا، أوسع شهرة، وأعظم ثقة بنفسه، وأرفع مقاما، فاستقبل في بيروت استقبالا ملكيا ترأسه القائدان الفرنسي والبريطاني فيها، وخطب في الناس فأدهش الناس. «الاستقلال يؤخذ ولا يعطى ... حرية الأمة بيدها ... لنسع متحدين فنحي حياة عزيزة ... الاستقلال التام في الاتحاد التام.» ثم قال إكراما للفرنسيين والبريطانيين: «لا أنكر أننا في حاجة إلى المساعدات المادية والاقتصادية والعلمية، ولكننا سنطلب هذه المساعدات بأجرتها، ستستخدم الحكومة الأخصائيين من الأجانب وتدفع رواتبهم من مال الأمة.»
وقد كان الأمير أشد لهجة في دمشق: «الأمة السورية تروم الاستقلال التام الناجز، ولا تقبل بغيره بديلا.» فرددت الشام ومدن سوريا كافة صدى هذه الكلمات: الاستقلال التام الناجز!
وصل الأمير قبل اللجنة الاستفتائية الأميركية فبشر بقدومها، وحث الشعب على أن يطلب الاستقلال التام بدون شرط ولا قيد: «برهنوا على أنكم لستم كأنعام تباع وتشترى ... الاستقلال بدون حدود البتة، الحرية بدون قيود أجنبية ... من يطلب فرنسا أو إنكلترا أو أميركا أو إيطاليا فهو ليس منا.»
ثم زار المجلس التشريعي في 7 أيار، فرحب به أعضاؤه ونادوا به زعيما - الزعيم الأكبر! - «لك الأمر وعليك بعد الله الاتكال.»
ووقف نوري الشعلان يعاهد بالطاعة والولاء: «حنا كلنا، عرب الرولا، أطوع لك من يمينك، ومن لا يكون مثلنا فليس من دين الإسلام.»
وفي هذا الشهر تنازل الأمير عن الخطة السياسية التي كان من شأنها أن تربط سوريا بالحجاز ، بل تجعلها تابعة لحكومة والده، فقبل جلالة الملك حسين ذلك حبا بما بدأ يتبلور من الآمال، فأرسل الأمير إلى مؤتمر الصلح يقول: «إن الحجاز لا تعترض أن تكون تابعة سياسيا لسوريا. وقد قال لي جلالة الحسين هذا القول مرارا.»
أما فيما يختص بسوريا نفسها، فقد كان لفيصل رأي في تقسيم البلاد إلى مقاطعات، وفقا لحالاتها الطبيعية والاجتماعية، صرح به خصوصا للوفد اللبناني الذي جاء إلى دمشق ليهنئه بعودته سالما من باريس، وليؤكد له أن فريقا كبيرا من اللبنانيين يتمنون الانضمام إلى سوريا، فرحب الأمير بهم وخطب فيهم خطبة بليغة، فقال: «إنه يجب أن يضم إلى لبنان القسم اللازم الوافي لحياة أهاليه الزراعية، فيستفيدوا من توسيع أرضهم كما تستفيد هذه البلاد من ذكائهم ونشاطهم ... أقول بكل حرية إن لبنان مستقل داخليا وإداريا، ويلزم أن يبقى ما يلحق به مستقلا وممتازا ... مع المحافظة على الارتباط بالوحدة السورية، ولكن هذا الانضمام لا يكون إجبارا بل اختيارا ... إني مستعد أن أعطي الضمانة الخطية بكل ما أقول. وليعلم اللبنانيون - وهم إخواننا، بل قلوبنا التي بها نحس، وعقولنا التي بها نفكر - أننا نحن وإياهم واحد لا يفصلنا فاصل طبيعي أو مادي ... ما كان عندنا، ولا يكون، أدنى فرق بين لبناني ودمشقي، أو بين مسلم ودرزي.»
Shafi da ba'a sani ba