وكان الخليفة أول من انتبه إلى ازرقاق وورم حول إحدى عينيه. فسأله مستخبرا، فقال وهو يمسح عينه بردنه: «تعثرت في ذاك الزقاق، فارتطم وجهي بالحائط.» - «ولم لا تقول زلقت يا خبيث، الحمد لله أنها في العين الواحدة، لا في الاثنتين. وما كان حالك يا ترى لو كان يحمل ذاك الإنكليزي خنجرا؟ ولكن الإنكليز، على ما أخبرت، لا يحملون السلاح في سهراتهم وسكراتهم؛ فهم يستعملون بدلها الأيدي، مضمومة هكذا.»
ضم الخليفة يده، ودنا بها من وجه شاعره، وأغرق ثانية في الضحك.
فقال الملك فيصل لي: «هذا ملك يعرف كيف يعامل الشعراء.»
ثم أشاح الخليفة بوجهه إلى الملك، وقال: «هل عندك شاعر في البلاط، يا فيصل؟ يلزمك شاعر إكراما لأصدقائك الإنكليز على الأقل.»
كنا قد وصلنا إلى بوابة المعرض، فوقف الملك فيصل يشعل سيكارة ثم قال: «عندنا من الشعراء كثير، ولكنهم كلهم خارج البلاط والحمد لله، وقد كنت مرة حبيبهم جميعا، كنت يا أخي هارون، سيدهم ومليكهم المفدى، ذلك عندما شاع أن في نية الملك أن يعين واحدا منهم للبلاط ، شاعرا يتولى مديحي! شيء سخيف يا أخي، ولكنها عادة ملكية، أظنها سرت من الشرق إلى الغرب، وهي تعود اليوم إلينا؛ لا ليكون لنا فيها شيء مما لك من السلوى في أبي النواس، بل لتزيد في همومنا، كدت والله أقع في الشرك، فعندما انتشر الخبر أن التعيين مرجح لواحد من اثنين، تنازع هذان الاثنان وتخاصما، وساءني أن أكون السبب في ذلك، فقلت لا هذا ولا ذاك، فانقلب الاثنان علي، وعمدا إلى القوافي يرميان بها من كان بالأمس سيدهما ومليكهما المفدى، فعينا واحدا منهما في مجلس الأعيان، والآخر في مجلس النواب فسكتا، واطمأنا، وشرعا ينظمان القصائد في مديح الربيع!»
أبو النواس : «احش فميهما ورقا، فتدفع الأذى عن نفسك وعن الربيع.»
الملك : «ولكن الشعراء أحسن من سواهم يا أخي هارون، فهم في القليل يشعرون بجمال الربيع ويمدحونه، فإن في هذا البلد من لا يعجبهم حتى الربيع.»
الخليفة : «لقد سررت يا فيصل بهذه العودة إلى البلد الذي أشعلت يوما فيه مصابيح المجد والإحسان، وبذرت فيه الشيء الكثير من بذور الحماقة، وقد سررت كل السرور بنزهتنا هذه، بارك الله فيك. ولكني لا أغبطك في حالك، ولا أسر لو أراد الله أن يعيدني إلى سابق عرشي ويعيد إلي الغابر من مجدي، لا والله لا أسر؛ فالناس ناس في كل زمان، أكرمهم - بارك الله فيك - يمدحوك، احرمهم يذموك، أما أولئك الذين لا يرون الجمال حتى في انبلاج الفجر، ولا يعجبهم حتى الربيع، فلا خير فيهم للملك، ولا خير فيهم لأنفسهم.
ولكني قبل الوداع أقول هذه الكلمة؛ سيمدحونك كلهم غدا، وسيتغنون بذكرك، وسيرفعون اسمك عاليا - بارك الله فيك - ليكون نور هدى لأهل العراق، وللعرب جميعا. أما الآن فهم كلهم أولادك يا فيصل، العقوق منهم والبار، وقد يكون في العقوق ما يساعدك لتصل إلى الذروة العليا، فيعم إحسانك ويشمل الجميع إلا نفسك، إلا نفسك، سنة الله في أصفيائه المصلحين لعباده.
وكلمتي الأخيرة - بارك الله فيك - هي هذه: تمسك بحبل الإنكليز ولا تفلت حبل المعارضة، أستودعك الله.»
Shafi da ba'a sani ba