ومعلوم أنه إنما أخرج هذه اللفظة مخرج التحذير لأصحابه من القضاء، لما فيه من التعرض للآثام والمؤاخذة الأخروية، وأنه ليس كل أحد يقدر على ضبط نفسه عن الميل إلى أحد الخصمين، ولا يملك سورة الغضب التي تفضي به إلى الحكم بغير الحق، ولا يستطيع تجنب المراقبة والمحاباة لأبناء الدنيا وأصحاب السلطان، ولذلك كان الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم يتأذون من القضاء، ويفرون منه، ويستترون الدهر الأطول إذا ندبوا إليه، ويتحملون مشقة الهرب والاستتار ومفارقة الأوطان حذارا من عقاب الآخرة لا غير.
وكيف يحذر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه وأمته من الدخول في القضاء لكونه مجاهدة لهوى النفس، وكونه يورث التعب والمشقة الدنيوية، وهو يأمرهم بالجهاد ومناهضة المشركين وقتل أولادهم وآبائهم وإخوانهم في طاعة الله ورسوله؟
ومعلوم أن ذلك أصعب وأشق منا متاعب القضاء بأضعاف مضاعفة، وهم مأمورون لما فيه من ثواب الجهاد، فكذلك القضاء متاعبه ومشاقه مغمورة بما فيه من ثواب الانتصار للحكم بالحق، ونصرة المظلوم، وإقامة شعائر الإسلام، وما أعلم ما أقول فيمن حمل كلام رسول الله ﷺ على ذلك التأويل الرديء.
٣٧- قال المصنف: ومثال ما يتردد بين معنيين ويحمل على أحدهما القرينة المتقدمة في أول الكلام قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ ١ فإنه يحتمل أن يريد به لا تدعوه باسمه فتقولوا يا محمد،
_________
١ سورة سبأ: ٥٤.
4 / 78