مقدمة
تصدير:
رأينا أن نضم إلى كتاب المثل السائر أهم كتاب في الرد عليه، هو "الفلك الدائر على المثل السائر" لابن أبي الحديد، لتكتمل الفائدة بهما معا.
وفي هذه الصفحات التي تصدر بها الكتاب نعرف بمؤلفه ونعرف بالكتاب نفسه.
ابن أبي الحديد ١:
حياته:
هو عز الدين عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، المدائني المعتزلي الشيعي الفقيه الشاعر.
ولد في غزة ذي الحجة سنة ٥٨٦هـ وكان من أعيان العلماء الأفاضل، بارعا في علم الكلام على مذهب المعتزلة، أديبا جيد النثر والشعر.
اشتغل زمنا في الدواوين السلطانية، وأدرك إغارة المغول على بغداد، ولما هجم عليها هولاكو في ٢٠ من المحرم سنة ٦٥٦هـ وأسرف في التخريب والتقتيل كان ابن أبي الحديد وأخوه موفق الدين أحمد بن أبي الحديد من الذين نجوا من القتل في دار الوزير مؤيد الدين محمود بن العلقمي٢. وقابل خواجه
_________
١ اعتمدنا في التعريف به على فوات الوفيات لابن شاكر ١/ ٦ وعلى ما نقل في نهاية شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة من "معجز الآداب في معجم الألقاب" لأحمد محمد بن أبي المعالي الشياني القوطي. وعلى محاضرات الخضري في تاريخ الدولة العباسية.
٢ كان وزيرا للمستعصم بالله، وكان من كبار رجال الشيعة. وكانت الفتن كثيرة بين أهل السنة والشيعة، وكان يسوءه أن الشيعة مضطهدون من أهل السنة، وأن البيت العباسي يعضد أهل السنة. فيقال إن الوزير كاتب هولاكو وحرضه على فتح بغداد، وهو يريد إسقاط الخلافة العباسية وبعض المؤرخين يدلل على هذه التهمة، وبعضهم يبرئه منها.
4 / 15
نصير الدين الطوسي، فوكل الإشراف على خزائن الكتب ببغداد إليه وإلى أخيه موفق الدين والشيخ تاج الدين علي بن أنجب.
ولكن أيامه لم تطل، فقد توفي في جمادى الآخرة سنة ٦٥٦
مؤلفاته:
أما مؤلفاته فإنها كثيرة تدل على كلفه بالثقافة الشرعية والأدبية، وقد سلم بعضها من عادية الدهر، وطبع.
١- شرح نهج البلاغة.
ألفه لخزانة كتب الوزير مؤيد الدين محمود بن العلقمي. وهو شرح مفصل لخطب ورسائل الإمام علي، يحتوي على مسائل كثيرة لم يحتو عليها كتاب من جنسه.
ولما فرغ من تأليفه بعثه إلى الوزير مع أخيه مؤيد الدين أبي المعالي، فأرسل إليه الوزير مائة دينار، وجلة سنية، وفرسا.
وقد طبع هذا الشرح.
٢- العبقري الحسان.
وهو كتاب فريد الوضع، اختار فيه نصوصا شتى من علم الكلام والتاريخ والشعر، وأودعه قطعا من إنشائه وترسلاته ومنظوماته، وقد ذكره في كتابه الفلك الدائر.
٣- الاعتبار على كتاب الذريعة في أصول الشريعة للسيد المرتضى، في ثلاثة مجلدات.
٤- شرح المحصل للإمام فخر الدين.
وهو نقض لكتاب المحصل وردود عليه.
4 / 16
٥- نقص المحصول في علم الأصول:
وهو رد آخر على الإمام فخر الدين.
٦- شرح مشكلات الغرر لأبي الحسن البصري في أصول الكلام.
٧- شرح الياقوتة لابن نوبخت في علم الكلام أيضا.
٨- الوشاح الذهبي في العلم الأدبي.
٩- انتقاد المصفى للغزالي، في أصول الفقه.
١٠- الحواشي على كتاب المفصل في النحو.
١١- الفلك الدائر على المثل السائر.
شعره:
له شعر كثير، أجله وأكثره شهرة القصائد السبع العلويات، نظمها في صباه بالمدائين سنة ٦١١هـ في الإشادة بعلي بن أبي طالب. ويروى أنه نظم فصيح ثعلب في يوم وليلة.
١- من شعره ما كتب به إلى الوزير ابن العلقمي لما بعث إليه مكافأة على تأليف شرح نهج البلاغة:
أيا رب العباد رفعت صنعي
وطلت بمنكبي وبللت ريقي
4 / 17
وزيغ الأشعري١ كشفت عني ... فلم أسلك ثنيات الطريق٢
أحب الاعتزال وناصريه ... ذوي الألباب والنظر الدقيق
فأهل العدل والتوحيد أهلي ... نعم ففريقهم أبدا فريقي
وشرح النهج لم أدركه إلا ... بعونك بعد مجهدة وضيق
تمثل إذ بدأت به لعيني ... هناك كذروة الطود السحيق
فتم بحسن عونك وهو أنأى ... من العيوق٣ أو بيض الأنوق٤
بآل العلقمي ورت زنادي ... وقامت بين أهل الفضل سوقي
فكم ثوب أنيق نلت منهم ... ونلت بهم، وكم طرف عتيق٥
أدام الله دولتهم وأنحى ... على أعدائهم بالخنفقيق٦
_________
١ الأشعري هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ينتسب إلى أبي موسى الأشعري، كان معتزليا أولا، ثم خرج على مذهب المعتزلة وحاربهم بمثل سلاحهم، وأخذ من مذهبهم بعض الآراء، ومن مذهب خصومهم بعضها، وكون لنفسه مذهبا مختارا حاول فيه أن يوفق بين المعقول والمنقول، وهو أميل إلى مذهب أهل السنة، يثبت الصفات لله تعالى من علم وقدرة وإرادة، وهي صفات أزلية قائمة بذاته تعالى. ويقول بإمكان رؤية الخالق ﷾ في الآخرة، لكن يستحيل أن تكون الرؤية على جهة ومكن وصورة ومقابلة.
ومذهبه في الوعد والوعيد مخالف للمعتزلة من كل وجه.
ولكن بعض العلماء الكبار من أهل السنة لم يوافقوه على آرائه كلها، ورأوا أن بعضها مشوب بآراء المعتزلة.
"الملل والنحل ١/ ٨٥".
٢ ثنيات الطرق: الطرق الملتوية المعوجة.
٣ العيوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها.
٤ بيض الأنوق: الأنوق: على وزن صبور العقاب والرخمة، وهو أعز من بيض الأنوق لأنها تحرزه فلا يكاد يظفر أحد؛ لأن أوكارها في القلل الصعبة.
٥ الطرف: الفرس الأصيل الكريم.
٦ الخنفقيق: السريعة جد من النوق والغزلان وحكاية جري الخيل، وهو مشى فيه اضطراب والمراد الداهية.
4 / 18
٢- ومن شعره قوله في مناجاة الله وبيان مذهبه في الاعتزال:
وحقك لو أدخلتني النار قلت للـ ... ـذين بها قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في دقيق علومه ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه
هبوني مسيئا أوضع العلم جهله ... وأربعة دون البرية ذنبه١
أما يقتضي شرع التكرم عفوه ... أيحسن أن ينسى هواه وحبه؟
أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه ... وتمويهم في الدين إذ عز خطبه؟
أما كان ينوي الحق فيما يقوله ... ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه
وغاية صدق العبد أن يعذب الأسمـ ... إذا كان من يهوي عليه يصبه
فرد عليه الشيخ صلاح الدين الصفدي بقوله:
علمنا بهذا القول أنك آخذ ... يقول اعتزال جل في الدين خطبه؟
فتزعم أن الله في الحشر ما يرمى ... وذاك اعتقاد سوف يرديك غبه
وتنفي صفات الله وهي قديمة ... وقد أثبتتها عن إلهك كتبه
وتعتقد القرآن خلقا ومحدثا ... وذلك داء عز في الناس طبه
وتثبت للعبد الضعيف مشية ... يكون بها ما لم يقدره ربه
وأشياء من هذي الفضائح جمة ... فأيكما داعي الضلال وحزبه؟
ومن ذا الذي أضحى قريبا إلى الهدى ... وجاء عن الدين الحنيفي ذبه
وما صر فخر الدين قول نظمته ... وفيه شناع مفرط إذ تسبه
_________
١ أوضع العلم جهله: لزمه، من أوضعت الإبل إذ رعت الحمض حول الماء ولم تبرحه.
4 / 19
٣- ومن شعره قوله:
لولا ثلاث لم أخف صرعتي ... ليست كما قال فتى العبد١
أن أنصر التوحيد والعدل في ... كل مكان باذلا جهدي
وأن أناجي الله مستمتعا ... بخلوة أحلى من الشهد
وأن أتيه كبرا على ... كل لئيم أصعر الخد
لذاك لا أهوى فتاة ولا ... خمرا ولا ذا ميعة نهد
_________
١ يريد طرفة بن العبد حيث قال:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نيهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف المعمد
"من معلقة طرفة بن العبد"
عودي: من يحضره عند موته وينوح عليه.
الكميت: من الخمر التي تضرب إلى السواد. متى ما تعل بالماء: أي تمزج به.
كرى: عطفي. المضاف: الذي نزلت به الهموم: المجنب: فرس في وظيفيه أحديداب ليس بالاعوجاج الشديد وهذا يدل على القوة. سيد: ذئب. الغضا: شجر، وذئابه أخبث الذئاب. المتورد: الذي يطلب أن يرد الماء.
الدجن: المطر الغزير وإلباس الغيم الأرض. بهكنة: المرأة الممتلئة أو الخفيفة الروح المليحة الطيبة الرائحة. معجب: يعجب من رآه. الطراف المعمد: الخباء ذو الأعمدة من أدم.
4 / 20
الفلك الدائر على المثل السائر:
١- ألف هذا الكتاب ليرد به على كتاب ابن الأثير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لأنه وجد فيه -كما في المقدمة- المحمود والمردود.
أما المحمود فإنشاء ابن الأثير وصناعته، إلا في الأقل النادر.
وأما المردود فنظره وجدله واحتجاجه واعتراضه وتحامله على الفضلاء، وإفراطه في الإعجاب بنفسه، والتقريظ لعلمه وصناعته.
كذلك قصد من تأليفه إلى أن يبين لمن راقهم كتاب المثل السائر من أكابر أهل الموصل وبغداد ما في الكتاب من وجوه النقص وألوان المآخذ، وأن يعلم ابن الأثير ورؤساء بلده أن في خدم المستنصر من يفوقه علما وافتنانا.
وكان كتاب المثل السائر قد وصل إليه في غرة ذي الحجة سنة ٦٣٣هـ فتصفحه، وعلق عليه في خمسة عشر يوما كما ذكر في المقدمة، ولم يعاود النظر فيه مرة ثانية.
ولما ألفه كتب إليه أخوه موفق الدين هذين البيتين:
المثل السائر يا سيدي ... صنفت فيه الفلك الدائرا
لكن هذا فلك دائر ... أصبحت فيه المثل السائرا
وقد قدم كتابه إلى خزانة كتب الخليفة المستنصر بالله١.
_________
١ أبو جعفر المنصور المستنصر بالله بن الظاهر: بويع بالخلافة يوم وفاة والده في ١٤ من رجب سنة ٦٢٣ "١١ يوليو سنة ١٢٢٦" واستمر في الخلافة إلى أن توفي في ١٠ من جمادى الآخر سنة ٦٤٠ وله آثار جليلة في بغداد منها المدرسة المستنصرية، وكان شهما جوادا عادلا.
4 / 21
أما تسمية الكتاب فقد أراد بها -كما ذكر في المقدمة- نقض كتاب المثل وإبطاله ومحوه؛ لأنهم يقولون لما باد ودثر قد دار عليه الفلك، كأنهم يريديون أنه قد طحنه ومحاه.
٢- رأينا أن نخرج هذا الكتاب؛ لأنه وثيق الصلة بكتاب المثل السائر، وهو في جملته تعليق عليه ونقد له، وتوسعة لمجال الدراسات البلاغية والنقدية.
والنسخة التي اعتمدنا عليها مطبوعة على الحجر سنة ١٣٠٩هـ على نفقة الميرزا محمد الشيرازي، في ١٨٤ صفحة من القطع المتوسط.
وطبعتها رديئة جدا، تنوء بالتحريف والأغلاط، وليس بها ترتيب ما، وكل ما بها من شعر مدمج بالنثر إدماجا.
وكثيرا ما يكتفي المؤلف بالإشارات إلى بعض النصوص، وكثيرا ما يذكر النص مبتورا، سواء أكان آية قرآنية أم بيت شعر أم مثلا، وكثيرا يورد النصوص غير منسوبة إلى قائليها، وفي بعض الأحيان ينسبها إلى غير قائليها.
فاجتهدنا في معالجة هذا كله.
صححنا النصوص المحتاجة إلى تصحيح، وأكملنا ما يحتاج إلى إكمال، ونسبنا النصوص المجهولة إلى قائليها ما استطعنا، وصوبنا نسبة بعضها إلى أصحابها، ورجعنا كل نص إلى مصدره الذي أخذ منه أو الذي صححناه منه.
وراجعنا نقله من "المثل السائر" فقرة فقرة، سواء أكان النقل كاملا أم ملخصا، ونبهنا على ذلك.
4 / 22
وعرفنا بكثير من الأعلام والأحداث التي ذكرها في كتابه.
وشرحنا ما يحتاج من نثر المؤلف إلى شرح.
٣- يتبين من دراسة "الفلك الدائر" أن ابن أبي الحديد كان معجبا بنثر ابن الأثير، وببراعته في حل المنظوم، والاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوي، ويغلب على نقده الموضوعية:
ونستطيع أن نقسم نقده ثلاثة أقسام:
١- بعضه حق، مثله قوله:
أ- قال المصنف -ابن الأثير: "ولا أدعي فيما ألفته فضيلة الإحسان، ولا السلامة من سبق اللسان". ثم قال بعد سطر واحد: "وإذا تركت الهوى قلت إن هذا الكتب بديع في إغرابه، وليس له صاحب من الكتب فيقال إنه متفرد من بين أصحابه".
وعلق ابن أبي الحديد بقوله: وهل يدعي أحد فضيلة الإحسان بأبلغ من هذا الكلام؟ وقد قال قبل هذا التواضع بثلاثة أسطر: "إن الله هداني لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبدعة، ومنحنى درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما تكون متبعة".
فمن يزعم أن الله هداه في هذا الفن إلى ابتداع أشياء لم يسبق بها، ورزقه فيها درجة الاجتهاد التي يتبعها الناس كيف يقول: لا أدعي فيما ألفته فضيلة إلا وبلغتها؟
4 / 23
ب- وكان ابن الأثير قد نبه الكُتَّاب على أن يعلموا فيما يعلمون ما يتصل بالنحو والصرف واللغة وقال: "وأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكن الشاعر ربما احتاج إليه؛ لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف، وإلى فك إدغام من أجل إقامة الميزان الشعري". ثم قال بعد ذلك: "وإنما قصدنا أن يكون الكتاب الذي يكتب في هذا المعنى مشتملا على الترغيب والترهيب والمسامحة في موضع والمحاققة في موضع".
وتلقف ابن أبي الحديد كلمة "المحاققة" فعلق عليها بقوله: قد ظهرت فائدة علم الإدغام في باب الكتابة، فإن الكاتب أراد أن يوازن لفظة المسامحة بلفظة المحاققة، وسها عن أن المحاققة بفك الإدغام غير جائزة.
جـ- قال ابن الأثير: "وقد مدح أبو الطيب كافورا بقوله:
فما لك تغني بالأسنة والقنا ... وجدك طعان بغير سنان؟
وما لك تختار القسي وإنما ... عن السعد يرمي دونك الملوان؟
وهذا يحتمل المدح والذم، بل هو بالذم أشبه؛ لأنه يقول إنك لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك، بل بجد وسعادة، وهذا لا فضل فيه؛ لأن السعادة ينالها الخامل والجاهل ومن لا يستحقها. وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا الفن في القصائد الكافوريات.
وعلق ابن أبي الحديد على هذا تعليقا يدل على ذوقه الصائب، واطلاعه الواسع، وتحرره مما تناقله الناس، فقال: إن الناس واقع لهم واقع ظريف مع المتنبي في هذا الباب، وكان أصله الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني ﵀.
4 / 24
وزعم بعضهم أن المتنبي كان يبغض كافورا ويحنق عليه، فكان يقصد ذلك ويتعمده بالشعر الموجه الذي يحتمل المدح والذم.
ومنهم من زعم أن كافورا كان يتفطن لذلك ويغضي عنه، وينقلون هذا عن المتنبي.
وما كان ذلك قط، ولا وقع شيء، ولا قصد أبو الطيب نحو ذلك أصلا.
ثم ضرب أمثلة من مدح المتنبي لسيف الدولة، فيها مدح بالجد وحسن الحظ، كقوله:
ولقد رمت بالسعادة بعضا ... من نفوس العدا فأدركت كلا
وقوله:
إذا سعت الأعداء في كيد مجده ... سعى جده في كيدهم سعي محنق
وقوله:
لو لم تكن تجري على أسيافهم ... مهجاتهم لجرت على إقباله
وقوله:
هم يطلبون فمن أدركوا ... وهم يكذبون فمن يقبل
وهم يتمنون ما يشتهون ... ومن دونه جدك المقبل
وضرب أمثلة أخرى من شعر المتنبي فيها إشارة بالحظ المواتي والسعد المسعف، ثم قال: ولكن سيف الدولة لما اشتهر إخلاص أبي الطيب له عدل
4 / 25
الناس عن هذا الشعر الذي يتضمن ذكر الجد والحظ فلم يذكروه، ولم يجعلوه متوسطا بين المدح والذم، وقالوا ذلك في كافور لما حدث تغيره مع أبي الطيب، وانحراف كل منهما عن صاحبه، ومجاهرة أبي الطيب له بالهجاء بعد أن فارقه.
ثم زاد الفكرة تأكيدا بأمثلة من شعراء آخرين.
د- قال ابن الأثير في تفسير بيت أبي صخر الهذلي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
إنه يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال، فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته الأولى في السكون والبطء.
والآخر أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائم والوشايات، فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية.
فعلق ابن أبي الحديد بقوله: التفسير الثاني هو الصحيح، والأول غير صحيح، واللفظ لا يحتمله، وفي البيت ما يمنع منه؛ لأنه قال "بيني وبينها" وهذه اللفظة تمنع من أن يريد سرعة تقضي الزمان أيام وصالنا، فإنها قرينة تحمل لفظ السعي على العناية والنميمة بالشر، لا على السعي بمعنى الحركة والسير.
ألا تراهم يقولون سعي فلان بين فلان وفلان بالشر، أي ضرب بينهم، وحمل بعضهم على بعض، ولا يقولون سعى بينهم من السعي بمعنى الحركة والسير؟
4 / 26
وليس هذا مقصود البيت. ولو أراد السعي بمعنى سرعة مرور الزمان لقال عجبت لسعي الدهر أيام وصلنا، أو ما يشبه ذلك.
وفساد المعنى ظاهر عند من له أدنى نقد للمعاني الشعرية.
هـ- قال ابن الأثير: الأسماء المترادفة هي التي يتحد فيها المسمى وتختلف أسماؤه، كالخمر والراح والمدام.
وعلق ابن أبي الحديد بقوله: هذا من أمثال الغلطات التي نبه عليها المنطقيون، فقالوا قد يظن في كثير من الأسماء أنها مترادفة، وهي في الحقيقة متباينة، كالسيف والصارم والمهند، فكل واحد من هذه مباين للآخر، فالأسماء الموضوعة لها متباينة في الحقيقة، وإن ظن في الظاهر أنها مترادفة.
وكذلك ما مثل به هذا المصنف، فإن الخمر اسم موضوع لهذا الشراب المخصوص، والراح اسم لما ترتاح النفس إليه، والمدام اسم لما يدام استعماله، فالمعاني متباينة لا محالة، وإن توهم في الظاهر أنها مترادفة.
وقال ابن الأثير في بيان المشترك اللفظي: إن مقصود واضع اللغة البيان والتجنيس، والبيان يحصل بالألفاظ المتباينة الكافية في الإفهام، وأما التجنيس فإنه عمدة الفصاحة والبلاغة، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة.
ورد ابن أبي الحديد بأن عدم الاشتراك اللفظي لا يذهب التجنيس، فإن التجنيس يحدث بين لفظتين متشابهتين في حروفهما الأصيلة، كقول أبي تمام:
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل؟
وأكثر التجنيس في الشعر والرسائل مثل هذا، ولا يستعمل التجنيس بالمشترك إلا نادرا.
4 / 27
ورد أيضا بأن عدم التجنيس لا يذهب حسن الكلام، وضرب أمثلة بأدب عبد الحميد وابن المقفع ومن قبلها ومن بعدهما من الفصحاء، وقال: فهل ترى لأحد منهم تجنيسا في كلامه إلا أن يقع اتفاقا غير مقصود؟
٢- وبعضه مجانب للحق؛ إذ كان الصواب فيما قاله ابن الأثير.
من ذلك أن ابن الأثير ذهب إلى أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى آلات كثيرة، وثقافة متنوعة، وقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، ويخوض في كل فن، وملاك هذا كله الطبع، فإنه إذا لم يكن ثم طبع فإنه لا تغني تلك الآلات شيئا ...
وعلق ابن أبي الحديد على هذا بأنه من دعاوي الكتاب وتزويقاتهم، ولا يعول عليه محصل؛ لأن الفنون التي يذكرها الكتاب، ويزعمون أن الكتابة مفتقرة إليها، إن أرادوا بها ضرورتها لها فهذا باطل؛ لأن سحبان وائل وقس بن ساعدة وغيرهما من خطباء العرب ما كانت تعرفها، كذلك من كان في أول الإسلام من الخطباء كمعاوية وزياد وغيرهما.
وإن أرادوا أنها متممة ومكملة فهذا حق، لكن عدمها لا يقتضي سلب اسم الكتابة، مع أن ما يحتاج إليه الكاتب يحتاج إليه الشاعر وزيادة.
ويبدو من تعليقه هذا أنه غفل عما تنبه إليه ابن الأثير من ضرورة الثقافة للكتاب.
ولم يكن موفقا في تمثيله بقس وسحبان ومعاوية وزياد؛ لأن هؤلاء خطباء، ولم يعرض ابن الأثير لثقافة الخطباء، بل عرض لثقافة الكتاب والشعراء.
4 / 28
والذي يقرأ ما كتبه ابن الأثير في هذا الفصل يجده قد أشرك الشعراء مع الكتاب في ألوان الثقافة، واختص الشعراء بنوع منها هو علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر.
فلا محل إذًا لاعتراض ابن أبي الحديد بقوله: مع أن ما يحتاج إليه الكاتب يحتاج إليه الشاعر وزيادة.
- وبعضه يبدو منه أن ابن أبي الحديد يتحامل أحيانا، ويقسو على ابن الأثير، وإن كان السمة الغالبة على كتابه أنه نقد موضوعي مدعوم بالبراهين.
من ذلك قوله: إن هذا الموضع من المواضع التي اشتبهت على هذا الرجل.
وقوله: وهذا من الغلط على ما تراه.
وقوله: إن كان هذا الرجل ممن ينفي القياس في الشرعيات كلمناه كلاما أصوليا، كما نكلم الشيعة والنظام وأهل الظاهر وغيرهم ممن نفى القياس في الفقه.
وإن كان يعترف بالقياس في الشرعيات فالقياس في النحويات كالقياس في الشرعيات.
وإذا كان ابن أبي الحديد قد أخذ على ابن الأثير إعجابه بفنه وإشادته بكتابه، فإن ابن أبي الحديد قد تورط في مثل هذا.
من ذلك قوله:
4 / 29
وقد كنت شرعت في حل سينيات المتنبي، وأن أجعل ذلك كتابا مفردا، وأنا أورد ههنا بعض ذلك، ليكون معارضا لما جاء به هذا الرجل.
ومن ذلك أنه أورد مثالا من نثره في حل بيتي المتنبي:
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا ... وموج المنايا حوله متلاطم
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
وأورد مثالين لابن الأثير في حل البيتين.
ثم قال: ومن عنده أدنى ذوق في فن الكتابة يعرف الفرق بين كلامنا وهذا الكلام.
ثم قال: والزيادات العجيبة، والتسميطات والأسجاع التي أتينا بها تزري على ما أتى به هذا الكتاب، وتتجاوزه أضعافا مضاعفة.
ومن هذا ما ذكره في المقدمة من الزهو بعلماء بغداد والفخار بأدبائها، وتفضيلهم على من سواهم تفضيلا مبالغا فيه، وهو يريد نفسه، وإن كان قد حاول أن يستل نفسه ممن أشاد بهم.
4 / 30
نص الكتاب:
الحمد الله الذي فاوت بين عقول البشر وأخلاقهم، كما فاوت بين أعمارهم وأرزاقهم، فكان من خفايا تدبيره، ولطائف حكمته وتقديره، أن أرضى كلا منهم بعقله وخلقه، لا بعمره ورزقه، فلست ترى منهم إلا الراضي بعقله وآرائه، المعجب بما يرشح من إنائه، الحامد لسجيته، الزاري على الناكبين عن طريقته؛ تصديقا لقوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ ١".
وقل أن تجد منهم القانع بدنياه، الراضي عن وقته بما قسم له "الله"٢ وأعطاه.
فلا ترى إلا قانطا أو ساخطا أو حاسدا أو غابطا، دأبهم الكدح والنصب والجد والطلب؛ تصديقا لقوله "ﷺ"٣: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب "لتمنى أن يكون له ثالث" ٤.
وصلى الله على سيدنا محمد رسوله المويد بروح قدسه، والمعصوم من الخطأ في القول ولبسه، والحاكم بأن من جملة الثلاث المهلكات عجب المرء بنفسه، وعلى آله وأصحابه الذي منهم من هو "من"٥ نوعه وجنسه.
وبعد، فقد وقفت على كتاب نصير الدين بن محمد الموصلي المعروف
_________
١ سورة الإسراء: ٨٤.
٢ ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
٣ ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
٤ ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
٥ ما بين قوسين زيادات يقتضيها السياق.
4 / 31
بابن أثير الجزيرة المسمى "كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" فوجدت فيه المحمود والمقبول، والمردود والمرذول.
أما المحمود منه فإنشاؤه وصناعته، فإنه لا بأس بذلك إلا في الأقل النادر. وأما المردود فيه فنظره وجدله، واحتجاجه واعتراضه، فإنه لم يأت في ذلك في الأكثر الأغلب بما يلتفت إليه مما يعتمد عليه.
فحداني على تتبعه ومناقضته في هذه المواضع النظرية أمور، منها إزراؤه على الفضلاء، وغضه منهم، وعيبه لهم، وطعنه عليهم، فإن في ذلك ما يدعو إلى الغيرة عليهم، والانتصار لهم.
ومنها إفراطه في الإعجاب بنفسه، والتبجح برأيه، والتقريظ لمعرفته وصناعته، هذا عيب قبيح عمل الإنسان والاجتهاد، ويوجب المقت من الله والعباد.
ومنها أنه قد أومأ مرارا في كتابه إلى عتاب دهره؛ إذ لم يعطه على قد استحقاقه، فأردنا أن نعرفه أن الأرزاق ليست على مقادير الاستحقاق، وأن الرزق مقسوم لا يجلبه الفضل، ولا يرده النقص.
ومنها أن جماعة من أكابر الموصل قد حسن ظنهم في هذا الكتاب جدا، وتعصبوا له، حتى فضلوه على أكثر الكتب المصنفة في هذا الفن، وأوصلوا منه نسخا معدودة إلى مدينة السلام١ وأشاعوه، وتداوله كثير من أهلها.
_________
١ مدينة السلام: بغداد.
4 / 32
فاعترضت عليه بهذا الكتاب، وتقربت به إلى الخزانة الشريفة المقدسة النبوية الإمامية المستنصرية، عمر الله تعالى بعمارتها أندية الفضل ورباعه، وأطال بطول بقاء مالكها يد العلم وباعه، وجعل ملائكة السماء أنصاره وأشياعه، كما جعل ملوك الأرض أعوانه وأتباعه.
وكان أكثر قصدي في ذلك أن يعلم مصنف هذا الكتاب ورؤساء بلدته أن من أصاغر خول١ هذه الدولة الشريفة -فالعجب مبير، ولا أنبئ عني فمثلي كثير- من إذا ألغز أدرى، وإذا ضرب أفرى٢ وإذا رشق أصمى٣، وإذا نكا٤ أدمى، وأن دار السلام، وحضرة الإمام ما خلت كما تزعم المواصلة ممن إذا سوبق خلى، وإذا بوسر٥ فاز بالقدح المعلى٦ وإذا خطب خضعت لبراعته المناصل٧، وإذا كتب سجدت لبراعته الذوابل، وإذا شاء علم الناس السحر، وما أنزل على
_________
١ الخول: الخدم والعبيد والإماء وغيرهم من الحاشية، للواحد والجميع والمذكر والمؤنث.
٢ فرى وأفرى: شق.
٣ أضمى الصيد: رماه فقتله مكانه.
٤ نكأ القرحة على وزن منع: قشرها قبل أن تبرأ فنديت. ونكى الأعداء نكاية: جرحهم.
٥ بسر: من معانيها قهر وابتدأ الشيء، ويظهر أن المؤلف صاغ من الفعل باسر بمعنى غالب وسابق، ثم بناه للمجهول.
٦ القدح المعلى: أحد قداح الميسر عند العرب في الجاهلية، وهي عيدان تتخذ من النبع وهو شجر متين لين تصنع منه القسي والسهام، والقداح الرامجة سبعة وغير الرابحة ثلاثة، والمعلى أكثر الرابحة حظا لأن له سبعة أنصبة.
٧ المناصل: جمع منصل وهو السيف.
4 / 33
الملكين ببابل، وأن في الأغفال المغمورين من رعايها من لو هدر١ لقرت له الشقاشق٢، ولو نطق لتجلت بشموسه المهارق٣، ولو جرد حسام قلمه لقال الملك للسيف اغرب فأنت طالق، فكيف بسدنة٤ كعبتها والحافين بشريف سدتها٥، فحول البلاغة الذين إذا ركض أحدهم في حلبة البيان أخجل البروق، وسخر بالرياح، وإذا ضرب الأعداء بصارم اللسان قد السلوقي المضاعف، حتى توقد نار الحباجب في الصفاح٦.
وهذا الكتاب وقع إليَّ في غرة ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فتصفحه، أولا أولا في ضمن الأشغال الديوانية التي أنا بصددها، وعلقت في هذا الكتاب في أثناء تصفحه على المواضع المستدركة فيه إلى نصف الشهر المذكور، فكان مجموع مطالعتي له واعتراضي عليه خمسة عشر يوما، ولم
_________
١ هدر البعير هدرا وهديرا: صوت في غير شقشقة.
٢ الشقاشق جمع شقشقة بالكسر: شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج.
٣ المهارق: جمع مهرق وهي الصحيفة.
٤ السدنة: جمع سادن وهو خادم الكعبة أو خادم بيت الصنم.
٥ السدة: باب الدار.
٦ من قول النابغة في مدح الغساسنة ووصف سيوفهم:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب
السلوقي: الدروع المنسوبة إلى سلوق على وزن صبور بلدة باليمن تنسب إليها الدروع والكلاب. الصفاح: حجارة عراض رقاق. الحباحب: ذباب يطير بالليل له شعاع كالسراج، ومنه نار الحباحب. أو نار الحباحب ما اقتدح من شرر النار في الهواء من تصادم الحجارة، وقيل كان أبو حباحب رجلا لا يوقد ناره إلا بالحطب الشخث لئلا ترى، وقيل إنها من الحبحبة وهي الشررة تسقط من الزناد.
4 / 34