قالوا: والنابغة نبع في الشعر بعد أن احتنك، وهلك قبل أن يهتزّ.
وكان أبو جعفر يحيى بن محمّد بن أبي زيد العلوي البصري يفضّل النابغة قال ابن أبي الحديد وكان تلميذًا له: استقرأني يومًا وبيدي ديوان النابغة قصيدته التي يمدح بها النعمان بن المنذر ويذكر مرضه ويعتذر إليه ممّا اتّهم به وقذفه أعداؤه، ولا بأس بإيراد ما ذكره من القصيدة في شرح النهج كما سطره فإنّه لا يخلو من فائدة، وهو:
كتمتك ليلًا بالخموطين ساهرًا ... وهمّين همًّا مستكنًّا وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ... وورد هموم لو يجدن مصادرا
تكلّفني أن يغفل الدّهر همّها ... وهل وجدت قبلي على الدهر ناصرا
ألم تر خير النّاس أصبح نعشه ... على فئة قد جاوز الحيَّ سائرا
ونحن لديه نسئل الله خلده ... يردّ لنا ملكًا وللأرض عامرا
فنحن نرجّي الخير إن فاز قدحنا ... ونرهب قدح الدهر إن جاء قامرا
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدًا ... وأصبح جدّ النّاس بعدك عاثرا
وردَّت مطايا الراغبين وعريت ... جيادك لا يحفى لك الدهر حافرا
رأيتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حرّاسًا عَلَيَّ وناظرا
وذلك من قول أتاك أقوله ... ومن دسّ أعداء إليك المأبّرا
فياليت لا آتيك إن كنت مجرمًا ... فلا أبتغي جارًا سوائك مجاورا
فأهلي فداء لامرء إن أتيته ... تقبّل معروفي وسدّ المفاقرا
سأربط كلبي إن يريبك نبحه ... وإن كنت أرعى مسحلان وحامرا
وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع ... تخال به راعي الحمولة طائرا
تزلّ الوعول العصم عن قذفاته ... وتضحي ذراه بالسحاب كوافرا
حذارًا على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا
أقول وقد شطت بي الدار عنكم ... إذا مالقيت من معد مسافرا
ألا أبلغ النعمان حيث لقيته ... فأهدى له الله الغيوث البواكرا
وأصحبه فلجًا ولا زال كعبه ... على كلّ من عادى من النّاس ظاهرا
وربّ عليه الله أحسن صنعه ... وكان له على المعادين ناصرا
قال: فجعل أبو جعفر يهتزّ ويطرب، ثمّ قال: والله لو مزجت هذه يشعر البحتري لكادت تمتزج لسهولتها وسلالة ألفاظها وما عليها من الديباجة والرّونق، ومَنْ يقول إنّ امرء القيس وزهير أشعر من هذا هلمّوا فليحاكموني.
أقول: قوله: لو مزجت هذه أي القصيدة بشعر البحتري لكادت تمتزج، فيه إشعار بأنّه يفضّل البحتري على غيره من طبقته بل وغيرها، لأنّ في قوله: لكادت تمتزج، إعلانًا بتفضيله على النابغة الذي هو عنده مقدّم على من سواء.
فأمّا امرء القيس فاحتجّ له من يقدّمه على الشعراء بأنّه ما قال ما لم يقولوه ولكنّه سبقهم إلى أشياء ابتدعها استحسنها العرب وأتبعه الشعراء عليها، منها: استبقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء وبالبيض، وتشبيه الخيل بالعقبان والغضا، وقيد الأوابد، وأجاد في النسيب، وفصّل بين النسيب والمعنى، وكان أحسن الطبقة تشبيهًا.
وقيل: إنّ خاله مهلهلًا أوّل من أرقّ المراثي، واسمه عدي، وأوّل من قصّد القصائد، وفيه يقول الفرزدق: ومهلّل الشعراء ذاك الأوّل. ولم يقل أحد قبله عشرة أبيات غيره.
وقال في الأغاني: عديٌ لقب مهلهلًا لطيب شعره ورقّته.
وقيل: هو أوّل من قصّد القصائد، وقال الغزل، فقيل: فهلهل الشعر أي أرقّه، وهو أوّل من كذب في شعره.
وحدّث عوانة عن الحسن أنّ رسول الله ﵌ قال لحسان بن ثابت: مَن أشعر العرب؟ قال: الزرق العيون من بني قيس، قال: لست أسألك عن القبيلة إنّما أسألك عن رجل واحد، فقال حسان: يا رسول الله إنّ مثل الشعراء والشعر كمثل ناقة نحرت وجاء امرء القيس ابن حجر فأخذ سنامها وأطائبها ثمّ جاء المتجاوران من الأوس والخزرج فأخذا ما والى ذلك منها، ثمّ جعلت العرب تمرّغها حتّى إذا بقي الفرث والدم جاء عمرو بن تميم والنمر بن قاسط فأخذاه. فقال رسول الله ﵌: ذلك رجل مذكور في الدنيا وشريف فيها، خامل يوم القيامة، معه لواء الشعراء.
1 / 50