أقول: ما أنسب ذكر أبيات لمهيار الديلمي بهذا المقام وهي:
رحمت قومًا وقد مالت رقابهم ... تحت القريض فظنّوا أنّهم حملوا
وقعقعوا دونه الأبواب فاعتقدوا ... بطول ما قرعوا أنّهم وصلوا
وحظّهم منه حظّ الناقفات رجت ... أن يجتنى من هبيد الحنظل العسل
تشرّعوا في بحور منه طامية ... والمنبض العذب فيما بينها وشل
بحجّة سبلها البيضاء خافية ... وكلّها من مزايا أعين سبل
والصحف تملؤ والأقلام متعبة ... وكلّما سمعوا من خاطب نقلوا
والقول والنقل مخلوقان في عدد ... قل كلّما تخلق الأسماع والمقل
لا يكسبان بتقليد ولا أدب ... ولا يفيدهما علم ولا عمل
رَجْعٌ: قيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانه وقال: هذا إذا طمع.
وفي الفتح القريب: سئل حسان: من أشعر الناس؟ فقال: قبيلةً أم قصيدة؟ قيل: كلاهما. قال: أمّا أشعرهم قبيلة فهذيل، وأمّا أشعرهم قصيدة فطرفة.
وسئل طرفة: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وسئل الحطيئة أيضًا: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
لا أعدّ الإقتار عدمًا ولكن ... فقدُ مَنْ قدر زيته الإعدام
وهو لأبي داود الأيادي. قالوا: ثمّ مَن؟ قال: عبيدة بن الأبرص. قالوا: ثمّ مَن؟ قال: كفاك والله بي إذا حدّثني رغبة أو رهبة ثمّ عويت في أثر القوافي عواء الفصيل في أثر أُمّه.
وقال بعضهم: اتّفقت العرب على أنّ أشعر الشعراء في الجاهليّة طرفة، وبعده الحارث بن حلزه، وعمرو بن كلثوم.
وقال القالي في أماليه: قال عقيل بن بلال: سمعت أبي - يعني بلالًا - يقول: سمعت أبي - يعني جريرًا - يقول: دخلت على بعض خلفاء بني أُميّة فقال: ألا تحدّثني عن الشعراء؟ قلت: بلى. قال: فمن أشعر الناس؟ قالت: ابن العشرين - يعني طرفة -. قال: فما تقول في ابن أبي سلمى والنابغة؟ قلت: كانا ينيران الشعر ويسديانه. قال: فما تقول في امرء القيس بن حجر؟ قلت: اتّخذ الشعر نعلين يطؤ بهما كيف يشاء. قال: ماذا تقول في ذي الرمّة؟ قلت: قدر من الشعر على ما لم يقدر عليه أحد. قال: فما تقول في الأخطل؟ قلت: ما باح بما في صدره من الشعر حتّى مات. قال: فما تقول في الفرزدق؟ قلت: بيده نبعة الشعر قابض عليها. قال: فما أبقيت لنفسك شيئًا؟ قلت: بلى والله يا أميرالمؤمنين، أنا مدينة الشعر التي يخرج منها ثمّ يعود إليها، ولأنّي سبحت الشعر تسبيحًا ما سبحه أحد قبلي. قال: وما التسبيح؟ قلت: نسبت فأطريت، وهجوت فأدريت - يعني أسقطت - ومدحت فأسنيت، ورحلت فأعرزت، وزجرت فأنحرت، فأنا قلت ضروبًا من الشعر لم يقلها أحد قبلي.
وسأل معاوية الأحنف عن أشعر الشعراء؟ فقال: زهير. قيل: وكيف؟ قال: ألقى على المادحين فضول الكلام وأخذ خالصه وصفوته. قيل: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله:
وما يك من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطيّ إلاّ وشيجة ... وتغرس إلاّ في منابتها النخل
وقال من أحجّ لزهير: إنّه كان أحصفهم شعرًا، وأبعدهم من السخف، وأجمعهم لكثير من المعنى وقليل من المنطق، وأشدّهم مبالغة في المدح، وأبعدهم تكلّفًا وعجرفيّة، وأكثرهم حكمةً ومثلًا سائرًا في شعره.
وروي عن ابن عباس عن النبي ﵌ أنّه قال: أفضل شعرائكم القائل: ومَن، ومَن؛ يعني زهيرًا وذلك في قصيدته التي يقول فيها:
ومَن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم
ومَنْ لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لم يظلم الناس يظلم
ومَنْ هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلَّم
ومَنْ يجعل المعروف من دون عرضه ... يفرْهُ ومن لا يتّق الشتم يُشتَم
وأمّا النابغة فكان لجلالة قدره وتقدّمه في الشّعر تضرب له قبّة بسوق عكاظ فتعرض العرب عليه أشعارها.
قال من احتجّ له: إنّه كان من أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتًا، كأنّ شعره كلام ليس بتكلّف، والمنطق على المتكلّم أوسع منه على الشاعر، لأنّ الشاعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي، والمتكلّم مطلق يتخيّر الكلام كيف شاء.
1 / 49