بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل محمّدًا حسن الأخلاق، محمود الشمائل والأعراق، طاهر المولد والنقيبة، طيب المحتد والضريبة، قد أكمل منه الحقيقة، وابتعثه إلى جميع الخليقة، بعد أن نظمها بسلك الإنشاء لأجله، ونثر عليها فرائد نعمائه وفوائد فضله، ثمّ أثنى عليه في الذكر الحكيم بقوله عزّ من قائل: (وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) نعترف له بتبليغ الرسالة، ونصلّي عليه صلوة تبلغ في كمالها كماله، وعلى عترته المنتجبة، الذين تفرّعوا من شجرته الطيّبة، وصحبه الأماثل، ما ناوب الطالع الآفل.
أمّا بعد؛ فلقد كان ممّا سمع به الدهر على شحه، أن أطلع في سماء الكرم نيّر صبحه، في عصر كأنّه المعنيّ بقول عمّنا المهدي:
قد مات من كلتا يديك الكرم ... وسمع جدواك عراه الصمم
وغاض من وجهك ماء الحيا ... فعاد منك الوجه صخرًا أصم
بل أصدق مواعيد أشرافه كالسراب الآفك في ترقرق نطافه، قد تواصت حتّى أمجاده بالبخل، وتعاقدت على طرد بني الآمال طرد غرائب الإبل، فما أحقّهم فيما جبلوا عليه من الطبع الردي بقول الشريف أبي الحسن الرضي الموسوي:
وأيد جفوف لا تلين كأنّها ... ولو مطرت فيها العيون جماد
لهنّ على طرد الضيوف تعاقد ... هراش كلاب بينهنّ عقاد
ولقد أخذه من قول أبي عيادة البحتري:
لو صافحوا المزن ما ابتلت أكفّهم ... ولو يخوضون بحر الصين ما غرقوا
جفّوا من البخل حتّى لو بدى لهم ... ضوء السهي في ظلام الليل لاحترقوا
ما فيهم إلاّ من هو منبسط اللسان بالعود، منقبض البنان عن الرفد، حريص إلاّ على حسبه، سمح إلاّ بما أضبت عليه يده من نشبه، كأنّه لم يسمع بقول أبي فراس:
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ... ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم يفر عرضي فلا وفر الوفر
فلا ومن جعل السماحة في الأنجاب غريزة، والشحة فى الأحساب غميزة، ما ضمن ثوب هذا الزمن غير "محمّد حسن" فهو لما فيه من كرم الأخلاق وشرف النفس وطيب الشمائل وحسن المخائل كما قيل فيه، وأنا القائل:
ملك عظيم القدر أمّ ملك ... من تحت علياه جرى الفلك
لبست به الدنيا أشعّتها ... فانجاب عن أقطارها الحلك
نصر الرجا بالحود حين غدا ... بين الرجا واليأس معترك
إن تنفرد بالجود راحته ... فالناس فى معروفها اشتركوا
لا تلتقي أجفان حسده ... سهدًا كأَنّ لها الكرى حسك
ولقد كان برقة أخلاقه وشرف طبعه وكرم أعراقه وجميل صنعه قد راض كرائم فكري حتّى استلان جماحها ومسج بيد شرفه غررها وأوضاحها، فجعلت ما أنشأته فيه من المدائح أزاء ما اصطنعه إليّ ابتداء من تلك المنايح لأنّ أفضل المكافات عَلَى الصنيعة شكر من أسداها، والثناء على من أولاها من حيث تظمن الثناء نشر المفاخر وتعداد المآثر على أنّه لظرفه ولما عنده من الهزة والأريحية على وقاره كان كثير الإعجاب بأبكار فكري الأتراب، فرأيت أنّ من تمام القيام بحقوق المحبّة لهذا الماجد أن أجمع شمل ما نظمته فيه وزيّنت به حسان معاليه، وأن أضيف إليه ما أنشأته أنا وعمّنا المهدي في أبيه وأُسرته في ضمن كتاب لطيف امع بين حسن العبارة والتأليف، وأن أُودّع فيه ما كتبنا به إليهم من الرسائل، وأوشّح كلّ مقام انتهي إليه بذكر ما يناسبه من الإستحسانات البديعيّة والإستضرافات الأدبيّة والنوادر الغريبة والحكايات العجيبة، لأنّ ذلك أدعى لتناقل المدح، وأبقى على الدهر لذكر الممتدح، وقبل الشروع بهذا المشروع أوعز هو إليّ أن أضمّ إلى ذلك الشمل ما نظمته في غيرهم من ذوي الفضل، وما اتّفق لي من الأبيات والقصائد في الأغراض والمقاصد، فأجبته إلى ما عزم به عَلَيّ إلاّ أنّي لم أثبت فيه ما كان لي في غيرهم إلاّ ما هو آخذ بنصيب وافر من الحسن والظرف إضرابًا عن الإطناب المخل، واجتنابًا عن الإكثار من إيراد ما يخرج عن المحل، فنظمت تلك القصائد والفوائد وضممت إليها شمل هاتيك البدائد في سلك هذا الكتاب راجيًا أن يقع موقع الإستحسان من نضر ذوي الألباب، ووسمته ب "العقد المفصّل" في قبيلة المجد المؤثل، ورتّبته على مقدّمة وثمانية وعشرين بابًا وخاتمة.
1 / 1
أمّا المقدّمة ففي ترجمة من كان لأجله تنميق الكتاب وذكر أشياء تناسبها وفيها فصول وقد ألزمت نفسي أن أنظم في كلّ فصل ما يناسبه.
فصل في نسبه وحسبه وأصله وشرف بيته
أقول: أمّا نسبه فهو القمر الطالع بأعلا آفاق العراق، محمّد الملقّب بالحسن، المكنّى بأبي الهادي بن محمّد، الملقّب بصالح الزمن بن المصطفى للكرم، وأتقى من عرف واستلم.
نسب أناف على الأنام به ... شرفًا فطال به على قصره
هو عقد فضل لم تزل أبدًا ... تتزيّن العلياء في درره
ذكرت بقولي على قصره قول أبي العلا المعرّي في تعزية الشريفين المرتضى وأخيه الرضي:
أنتم ذووا النسب القصير فطولكم ... باد على الكبرآء والأشراف
والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت ... باب من الأسماء والأوصاف
يريد: أنتم في النسب لا تحتاجون إلى تعدّد آباء كثيرة، بل يكفيكم ذكر أب واحد، لأنّ آبائكم كلّهم كبراء كالراح إذا قيل ابنة العنب كفاها هذا النسب عن ذكر أوصاف زائدة على هذه النسبة.
وأسماء تكسبها شرفًا، وهذا من أجود التمثيل وأحسنه، لأنّ الرجل إذا كان شريفًا وذكر أباه وعرف به قصر نسبه، وإذا لم يكن شريفًا افتقر إلى أن يذكر آباءً كثيرة حتّى يصل إلى أب شريف يعرف به، وما أحسن قول أبي المناقب وهو يماثل قول المعرّي هذا:
لا تمتدحه بآباء له كرموا ... وأحرزوا الأمد الأقصى أبًا فأبا
فالراح قد أكثر المدآح وصفهم ... لها ولم يذكروا في وصفها عنبا
وحكى الفرزدق قال: خرجت من البصرة أُريد العمرة، فرأيت عسكرًا في البرية، فقلت: عسكر من هذا؟ فقيل: عسكر الحسين بن علي، فقلت: لأقضينّ حقّ رسول الله ﵌، فأتيته وسلّمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: الفرزدق بن غالب، فقال: هذا نسب قصير، قلت: أنت أقصر منّى نسبًا، أنت ابن رسول الله ﵌.
وقال رؤبة العجاج:
قد رفع العجاج ذكري فادعني ... باسمي إذا الأسماء طالت تكفّني
ويقال: إنّه دخل رؤبة على دغفل النسابة، فقال له: من أنت؟ قال: ابن العجاج، فقال دغفل: قصرّت وعرّفت.
وقال الجمحي وقد أتاه بعض الناس يستشيره في امرأة أراد التزويج بها: أقصيرة هي أم غير قصيرة؟ فلم يفهم ذلك، فقال الجمحي: أردت القصيرة النسب تعرف بأبيها أو جدّها، وعلى هذا قول بعضهم:
أحبّ من النسوان كلّ قصيرة ... لها نسب في الصّالحين قصير
قوله: كلّ قصيرة، أراد المقصورة في البيت لا تترك أن تخرج منه.
ولطيف في ذلك قول ذي الرمة:
وأنت التي حبّبت كلّ قصيرة ... إليّ وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الجمال ولم أرد ... قصار الخطا شرّ النساء البحاتر
ولنذكر هنا نبذًا ظريفة وجملًا طريفة في الأسماء والكُنى والألقاب من حديث عليّ ﵇ عن النبي ﵌: إذا سمّيتم الولد محمّدًا فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجهًا.
وعنه ﵌: ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم عليها من اسمه محمّد أو أحمد فأدخلوه في مشورتهم إلاّ خيّر لهم، وما من مائدة وضعت وحضر عليها من اسمه محمّد أو أحمد إلاّ وقدّس ذلك المنزل في كلّ يوم مرّتين.
وروى جابر عن النبي ﵌: ما من بيت فيه أحد اسمه محمّد إلاّ وسّع الله عليه الرزق، فإذا سمّيتموه فلا تضربوه ولا تشتموه، ومن ولد له ثلاثة ذكور ولم يسمّ أحدهم محمّدًا أو أحمد فقد جفاني.
وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: جاء في الحديث: تسمّوا بأسماء الأنبياء، وأحبّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرّة.
وكان سعيد بن المسيّب بن حزن المخزومي أتى جدّه رسول الله فقال له: من أنت؟ قال: حزن، فأراد النبي تغيير اسمه، فقال: لا بل أنت سهل. فقال: لا بل أنا حزن، عاوده فيها ثلاثًا، ثمّ قال: لا أحبّ هذا، الإسم السهل يوطىء ويمتهن، فقال ﵌: فأنت حزن. فكان سعيد يقول: ما زلت أعرف تلك الحزونة فينا.
1 / 2
وقال الزمخشري: قد قدم الخلفاء وغيرهم من الملوك رجالًا بحسن أسمائهم، وأقصوا قومًا لبشاعة أسمائهم، وتعلّق المدح والذم بذلك في كثير من الأثر، كتب الجاحظ إلى أبي الفرج بن نجاح بن سلمة رسالة، منها: وأقد أظهر الله في أسمائكم وأسماء آبائكم وكناكم وكني أجدادكم من برهان الفال الحسن ونفي طيرة السوء ما جمع لكم صنوف الأمل، وصرف إليكم وجوه الطلب، فأسمائكم وكناكم بين فرج ونجاح وسلامة وفضل، ووجوهكم وأخلاقكم وفق أعراقكم وأفعالكم، فلم يأخذ التفاوت فيكم بنصيب.
وأراد عمر الإستعانة برجل، فسئله عن اسمه، فقال: سراق بن ظالم، فقال: تسرق أنت ويظلم أبوك، فلم يستعن به.
وسأل بعضهم رجلًا عن اسمه، فقال: ما اسمك؟ قال: بحر، قال: أبو من؟ قال: أبوالفيض، قال: ابن من؟ قال: ابن الفرات، قال: ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلاّ في زورق.
وكان بعض العرب اسمه وثّاب، وله كلب اسمه عمرو، فهجاه أعرابي آخر، فقال:
ولو هيّا له الله ... من التوفيق أسبابا
لسمّى نفسه عمروًا ... وسمّى الكلب وثّابا
وقال محمّد بن صدقة ليموت بن المزرع: صدق الله فيه اسمك، فقال له: أحوجك الله إلى اسم أبيك.
وما أظرف قول بعضهم في نحوي اسمه نفطويه:
لا خير في النحو وطلاّبه ... إن كان من طلاّبه النفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي نياحًا عليه
ومثّل هذا في الظرافة قول بعضهم في من اسمه موسى، وإن كان بمعزل عن البشاعة:
حلّقت لحية موسى باسمه ... وبهارون إذا ما قلبا
ومن الملح النادرة ولم تحضرني كلّها ما حكي أنّ صبيًّا كان اسمه مرّة، واسم أبيه حنظلة، فقال له أبوه: إنّك لمرّ يا مرّة، فقال له: أعجبتني حلاوة أبي.
ويروى أنّه لمّا أقبل قحطبة بن شبيب نحو ابن أبي هبيرة، أراد ابن أبي هبيرة أن يكتب إلى مروان بخبره وكره أن يسمّيه، فقال: اقلبوا اسمه، فوجدوه "هبط حق"، فقال: دعوه على هيئته.
وقال برصوما البرام لاُمّه: ويحك أما وجدتي لي اسمًا تسمّيني به غير هذا؟ فقالت: لو علمت أنّك تجالس الخلفاء والملوك لسمّيتك يزيد بن مزيد.
ودخل شريك بن الأعور على معاوية وهو يختال في مشيته، فقال له معاوية: إنّك لشريك وما لله من شريك، وإنّك ابن الأعور والصحيح خير من الأعور، وإنّك لدميم والوسيم خير من الدميم، فبم سوّدك قومك؟ فقال له شريك: وإنّك معاوية وما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت فسمّيت معاوية، وإنّك ابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنّك ابن حرب والسلم خير من الحرب، وأنت ابن اُميّة وما اُميّة إلاّ أمة صغرت فسمّيت اُميّة، فبم صرت أميرالمؤمنين؟ فقال له معاوية: أقسمت عليك إلاّ خرجت عنّي، فخرج وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن حرب ... وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث ... ضراغمة تهشّ إلى الطعان
يعيّر بالدمامة من سفاه ... وربّات الحجال من الغواني
ذوات الحسن والريبال جهم ... شئيم وجهه ماضي الجنان
وقيل: ولد لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولد ذكر فبُشِّر به وهو عند معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: سمّه باسمي ولك خمسمائة ألف درهم، فسمّاه معاوية، فدفعها إليه وقال: اشتر بها لسميّي ضيعةً.
ويقال أنّه ارتفع إلى بعضهم وكان يتشيّع خصمان اسم أحدهما علي والآخر معاوية، فانحنى على معاوية فضربه مائة سوط من غير أن اتّجهت عليه حجّة، ففطن من أين أُتي، فقال: أصلحك الله، سل خصمي عن كنيته، فإذا هو أبو عبد الرحمن، وكانت كنية معاوية بن أبي سفيان، فبطحه وضربه مائة سوط، فقال لصاحبه: ما أخذته منّي بالإسم استرجعته منك بالكنية.
ودخل جرير على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي، فقال الوليد لجرير: أتعرف هذا؟ قال: لا يا أميرالمؤمنين، قال: هذا عدي بن الرقاع، فقال جرير: شرّ الثياب الرقاع، فممّن هو؟ قال: من عامله، فقال جرير: (عامِلَةٌ ناصِبَة، تَصْلى نارًا حامية)، ثمّ قال:
يقصر باع العاملي عن العُلى ... ولكن أير العاملي طويل
فقال له عدي:
أُمّك كانت خبّرتك بطوله ... أم أنت امرء لم تدر كيف تقول
1 / 3
فقال جرير: بل لم أدر كيف أقول، فوثب عدي إلى رجل الوليد يقبّلها وقال: أجرني منه، فقال الوليد لجرير: إن ذكرته في شعرك لأسرجنّك ولألجمنّك حتّى يركبك فيعيرك بذلك الشعراء.
وأظنّ أنّ من تتمّة هذه القصّة ما هذا مضمونه: إنّ جريرًا لمّا خرج من عند الوليد وإلى جنبه عدي، قال لمن على الباب: كدت أخرج إليكم وهذا القرد على عاتقي.
وقيل لبعض صبيان الأعراب: ما اسمك؟ قال: قراد، قيل: لقد ضيّق عليك أبوك الإسم، قال: إن ضيق الإسم لقد أوسع الكنية. قيل: ما كنيتك؟ قال: أبو الصحاري.
ونظر المأمون إلى غلام حسن الوجه في الموكب، فقال له: ما اسمك؟ قال: لا أدري، قال: يا غلام أو يكون أحد لا يعرف اسمه؟ فقال: يا أميرالمؤمنين اسمي الذي أُعرَفُ به "لا أدري"، فقال المأمون:
وسمّيت لا أدري لأنّك لا تدري ... بما فعل الحبّ المبرح في صدري
ومن أبيات المعاني:
وحللت من مضر بأمنع ذروة ... منعت بحدّ الشوك والأحجار
قالوا: يريد بالشوك أخواله وهم قتادة وطلحة وعوسجة، وبالأحجار أعمامه وهم صفوان وفهر وجندل.
وجمع ابن دريد ثمانية اسماء في بيت واحد وهو قوله:
فنعم أخ الجلى ومستنبط الندى ... وملجأ مكروب ومفزع لاهث
عياذ بن عمرو بن الجليس بن عامر بن زيد بن منظور بن زبد بن وارث وقال بعضهم:
لعمرك ما الأسماء إلاّ علامة ... منار ومن خير المنار ارتفاعها
وقال الفرزدق:
وقد تلتقي الأسماء في النّاس والكُنى ... كثيرًا ولكن ميّزوا في الخلائق
وقال البحتري:
وإذا الأنفس اختلفن فما ... يغني اتّفاق الأسماء والألقاب
قال الزمخشري في ربيع الأبرار: إعلم أنّ الإسم كلّما كان غريبًا كان أشهر لصاحبه وأمنع من تعلّق النبز به، كما سمّيت "اسما" بنت أبي بكر "ذات النطاقين"، وقد صارت لها هذه الصفة علمًا بالتغليب بحيث لم يوجد في نظم الشعراء من وصف به غيرها من النساء، وسمّيت بذلك لأنّها كانت تطارق نطاقًا فوق نطاق عند معاناة الأشغال، أو كانت تظاهر بين نطاقين لزيادة التستّر، أو غير ذلك ممّا هو منقول في محلّه.
قال ابن الأثير في نهايته: المنطق النطاق وجمعه مناطق وهو أن تلبس المرأة ثوبها ثمّ تشدّ وسطها بشيء وترفع وسط ثوبها وترسله على الأسفل لئلاّ تعثر في ذيلها، وهذا أليق بالقول الأوّل وهو أنّها تصنع ذلك عند معاناة الأشغال.
وفي القاموس: المنطقة كمكنسة ما ينتطق به وكمنبر وكتاب شقّة تلبسها المرأة وتشدّ وسطها فترسل الأعلا على الأسفل إلى الأرض، والأسفل ينجرّ على الأرض ليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان، وانتطقت لبستها.
قوله: ولا نيفق، نيفق السراويل، الموضع المتّسع منها، وهذا أليق بالوجه الثاني وهو أنّها تصنع ذلك لزيادة التستّر.
وكما سمّيت هنيدة بنت صعصعة "ذات الخمار" وهي عمّة الفرزدق، وكانت تقول: من جاءت بأربعة كأربعتي من نساء العرب يحلّ لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتي لها: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزبرقان بن بدر.
قولها: فصرمتي لها، الصرمة بكسر الصاد وسكون الراء القطعة من الإبل.
وكما سمّي الإسكندر "ذاالقرنين" من حيث ملك الشرق والغرب. وقيل: لكونه رأى في النوم أنّه أخذ بقرني الشمس، أو غير ذلك ممّا ذُكر.
وكما سمّي خزيمة "ذا الشهادتين" وسبب تسميته بذلك أنّ النبي ﵌ استقضاه يهودي دينارًا، فقال له: أولم أقضك؟ فطلب البيّنة، فقال لأصحابه: أيّكم يشهد لي؟ فقال خزيمة: أنا يا رسول الله، فقال: وكيف تشهد بذلك ولم تحضره ولم تعلمه؟ فقال: يا رسول الله إنّا نصدّقك على الوحي من السماء، فكيف لا نصدّقك أنّك قضيته، فأنفذ شهادته وسمّاه بذلك لأنّه صيّر شهادته شهادة رجلين.
وكما سمّي قتادة بن النعمان "ذا العينين" وسبب ذلك أنّه اُصيبت عينه يوم اُحد فسقطت على خدّه، فردّها رسول الله فكانت أصحّ وأحسن من الاُخرى وكانت تعتلّ الباقية ولا تعتل المردودة، فقيل له ذا العينين أي له عينان مكان الواحدة.
وكما يُسمّى الجارح من الطير "ذا النظرتين" لأنّه ينظر ثمّ يطأطأ فإذا أثبت الصيد مكانه قصده.
وكما يُسمّى الجاسوس من الطّير "ذا العينين".
1 / 4
وطاهر بن الحسين "ذا اليمينين" سمّى بذلك لأنّه قال له المأمون: يمينك يمين أميرالمؤمنين وشمالك يمين فبايع بيمينك يمين أميرالمؤمنين. وكتب إليه بعض أصحابه كتابًا عنونه بقوله: للأمير المهذّب المكنّى بأبي الطيب ذي اليمينين طاهر بن الحسين.
والفضل بن سهل "ذا الرياستين" لأنّه دبّر أمر السيف والقلم، وولي رياسة الجيوش والدواوين، ودخل عليه شاعر يوم المهرجان وبين يديه الهدايا، فقال:
اليوم يوم المهرجان ... وهديّتي فيه لساتي
لك دولتان قديمة ... وحديثة ورياستان
لك في الذرى من هاشم ... بيت وبيت خسرواني
علم الخليفة حيث أنت ... فصرت في هذا المكان
فأمر له بجميع الهدايا.
وللشعراء تصرّفات عجيبة وتفنّنات غريبة في جملة من الأسماء من تفأل وهجاء وغير ذلك من ظرائف الأنحاء.
قال بعضهم في هجاء من اسمه لؤلؤ:
سمّتك أُمّك لؤلؤ فكأنّها ... علمت بأنّك بعد حين تثقب
وسمعت تدعى بالجواد فلم أزل ... متعجّبًا حتّى رأيتك تُركب
نظير قول بعضهم من جملة أبيات:
إذا قيل في الدنيا جواد فقل نعم ... جواد ركوب لا جواد عطاء
وقال الباخرزي في مأبون:
فكأنّه فرعون إلاّ أنّه ... من جانب الوجعاء ذوالأوتاد
والوجعاء المراد بها الاُست لا مطلقًا بل أُست المأبون.
وسمع البحتري قول ابن الرومي:
سمّاه أُسرته العلاء وإنّما ... قصدوا بذلك أن يتمّ علاه
فقال: أخذه من قولي:
كأنّ أباه حين سمّاه صاعدًا ... رأى كيف يرقى في المعالي ويصعد
وقال البحتري:
سمّاه سعدًا ثمّ لم يسعد به ... عمري لقد ألفاه سعد الذابح
ومن ظريف ما يُحكى أنّ شهاب الدين كان يومًا عند الملك الأشرف، فدخل عليه سعدالدين الحكيم، وكانت بينهما وحشة، فقال الأشرف: ما تقول يا شهاب الدين في سعدالدين؟ فقال: إذا كان عندك فهو سعد السعود، وإذا كان على السماط فهو سعد بلع، وفي الخيام عن الضيوف سعد الأخبية، وعند المريض سعد الذابح (وهذه الأربعة في برج الجدي والدلو ينزلها القمر) .
وممّا جاء للشعراء في مدح الأنساب والإفتخار بها في الأشعار قول أبي تمام:
نسب كان عليه من شمس الضحى ... نورًا ومن فلق الصباح عمودا
وقول البحتري:
نسب كما اطّردت كعوب مثقف ... لدن يزيدك بسطة في الطول
وقول الشريف الرضي:
لهم نسب كاشتباك النجوم ... ترى للمناقب فيه ازدحاما
وقول مهيار:
أعجبت بي بين نادي قومها ... أُمّ سعد فمضت تسئل بي
سرّها ما علمت من خلقي ... فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي نسبًا يخفضني ... أنا من يرضيك عند النسب
قومي استعلوا على الدهر علًا ... ومضوا فوق رؤس الحقب
عمّموا بالشمس هاماتهم ... وبنوا أبياتهم بالشهب
وأبي كسرى على أيوانه ... أين في الناس أب مثل أبي
سؤدد الملك القدامى وعلى ... شرف الإسلام لي والأدب
قد قبست المجد من خير أب ... وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه ... سؤدد الفرس ودين العرب
وقولي في نسب بعض أكابر العلويين:
نسب عقدن أصوله ... بذوائب العليا فروعه
ولنختم هذا المقام بما قاله أبوالحسين ابن عبد الله السلامي مخاطبًا للشريف الرضي، ولعمري إنّ من ألّفت لأجله هذا الكتاب لخليق بذلك الخطاب:
متناسلين وأنت كنت مرادهم ... متردّدين إليك في الأصلاب
حتّى ولدت فأغفلوا أنسابهم ... وغدى وجودك أشرف الأنساب
وأمّا حسبه: فغرّة في جباه المآثر، وزهرة في رياض الفضل، قد عطّر جيب الدهر بأرجه، ولألأ سماء الشرف بأشعّته.
حسب لو لبست شمس الضحى ... نوره ما لبست ثوب غروب
برد فخر وعلى خير الورى ... بيّد السؤدد مزور الجيوب
والحسب هو ما يعدّ من مفاخر الآباء أو المال أو الدين أو الكرم أو الشرف في الفعل أو الشرف الثابت في الآباء، وقد يكون الحسب والكرم لمن لا آباء له شرفاء بخلاف المجد، والذي أراه أنّه لا يكمل للمرء فخره بحسبه إلاّ إذا كان له من المآثر ما كان لآبائه، وإلى ذلك يشير قول الشاعر:
إنّا وإن أحسابنا كرمت ... لسنا على الأحساب نتّكل
1 / 5
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثلما فعلوا
وممّن أجاد في الإفتخار بحسبه أبوالطمحان وذلك حيث قال:
وإنّي من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه
أضائت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ... بدى كوكب تأوى إليه كواكبه
وما زال منّا حيث كان مسوّد ... تسير المنايا حيث سارت مواكبه
أخذ قوله: أضائت لهم إلى آخره أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم المعروف بالحصيري القيراوي فنقله من الإفتخار إلى الغزل، فقال:
حتّى إذا طاح منها المرط من دهش ... وانحلّ بالظلم نظم العقد في الظلم
تبسّمت فأضاء الليل فالتقطت ... حباة منتثر في ضوء منتظم
وأخذ السيّد الرضي فقال:
بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفّنا الشوق من قرن إلى قدم
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم
وقال أبو التمام وأحسن ما شاء في نعت الأحساب:
ما إن ترى الأحساب بيضًا وضحًا ... إلاّ بحيث ترى المنايا سودا
وقال أبوطالب المأموني مفتخرًا:
أرى مأربكم في نظم قافية ... وما أرى لي في غير العلا إربا
عدّوا عن الشعر إنّ الشعر منقصة ... لذي العلاء وهاتوا المجد والحسبا
ويشعر بذلك قول أفلاطون الحكيم: من جمع إلى شرف أصله شرف نفسه فقد قضى الحقّ الذي عليه واستدعى التفضيل بالحجّة، ومن أغفل نفسه واعتمد على شرف آبائه فقد عقّهم واستحقّ أن لا يقدم بهم على غيره.
وقوله أيضًا: كما أنّ من كان له سلف في الشجاعة والسخاء لا يستحقّ أن يكرم لسلفه إذا كان جبانًا بخيلًا، فكذلك سائر أنواع الشرف لا يستحقّ المنتسب إليها التقديم إلاّ إذا حوى ما يذكر به أسلافه.
وقال أيضًا: السعيد من تمّت به رياسة آبائه، والشقي منهم من انقطعت عنده.
أقول: بل أرى المرء بحسبه أكمل في الفخر إذا زاد بشرف نفسه ذكر آبائه نباهة، وما أحسن قول مهيار في زيادة الابن على آبائه شرفًا:
وجئت بمعنىً زائد فكأنّهم ... وما قصروا عن غاية المجد قصّروا
وقوله أيضًا وهو من بدائعه ونوادره، بل هو بالسحر أشبه منه بالشعر، وذلك حيث قال:
إن كنت ممّن طواه الدهر ممتريًا ... منهم فعندك من منشورهم خبر
هذا الحسين حيوة خلّدت لهم ... ما هم بأوّل موتى بابنهم نشروا
صلّى فزادت على السبّاق حلبته ... محلّق العرف جار خطوه حضر
كالسهم أحرز ذكرًا يوم ترسله ... لم يعطه أبواه القوس والوتر
عصارة فضّلت في الطيب طينتها ... والخمر أطيب شيء منه يعتصر
قوله: جار خطوه حضر أي واسع.
وأمّا أصله: فأقول إنّه تفرّع عن أصل تروّت بماء الكرم أرومته، ونمت في طينة الشرف جرثومته، وبسقت أراكة شرفه في آفاق المآثر آخذةً بأطراف المفاخر، فتفيّأ العفاف ظلّ أفنانها، واجتنت أكفّ الآمال ثمار أغصانها.
كريم تفرّع عن دوحة ... ذكى في العلا طيب أعراقها
وكم قد تغنّت بأحلى المديح ... حمام الثناء على ساقها
وعلى ذكر الأصل ما رواه الصلاح الصفدي في شرح لامية العجم، قال: نقلت من بعض مجاميع القاضي شمس الدين بن خلّكان قال: أنشدني بعض الاُدباء في الجمال أبي الحسين الجزّار ولا أعرف قائله ولا الأبيات المضافة إليه، فقلت لأبي الحسين ذلك، وقلت إن كنت تعرف ذلك فأنشدنيه وعرّفني قائله، فقال: وما البيت؟ فأنشدته:
فليس يرجوه نمير كلب ... وليس يخشاه نمير تيس
قال: فاستحسن ذلك المعنى، وجائني ثاني يوم وقال: قد عملت أبياتًا، وأنشدني قوله:
ألا قل للذي يسئل ... عن قومي وعن أهلي
يريقون دم الأنعام ... في حزن وفي سهل
وما زالوا لما يبدون ... من بأس ومن بذل
يرجّيهم بنو كلب ... ويخشاهم بنو عجل
قال الصلاح: وأوّل البيتين اللّذَين أوردهما ابن خلّكان هو:
إن تاه جزّاركم عليكم ... بفطنة في الورى وكيس
1 / 6
وثانيهما البيت الذي مرّ ذكره، وهما لمجاهد الخيّاط، وله في أبي الحسين المذكور عدّة مقاطيع يهجوه بها، وقد عبث الناس بأبي الحسين وهجاه من أهل عصره خلق كثير بالشعر والأرجاز، وما كان في طبقته ممّن هجاه من يقاربه في النظم.
ولأبي الحسين الجزّار أيضًا وهو في غاية الحسن:
إنّي لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل بهم إن شئت تصديقي
تضيء بالدم أشراقًا عراصهم ... وكلّ أيّاهم أيّام تشريق
ومن هذا الباب ما قال بعضهم فيمن كان أبوه حجّامًا وهو في غاية الظرافة:
أبوك أوهى النجاة عاتقه ... وكم كمي أردى وكم بطل
له رقاب الملوك خاضعة ... من بين حاف وبين منتعل
يأخذ من مالها ومن دمها ... لم يمس من ثاره على وجل
ومن الحكايات اللطيفة في هذا الباب ما رواه الصلاح الصفدي عن بعضهم قال: كنت جالسًا عند بعض ولات الطوف ليلة، فجاء بعض غلمانه إليه برجلين فقال لأحدهما: من أبوك؟ فقال:
أنا ابن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإن نزلت يومًا فسوف تعود
ترى الناس أفواجًا على باب داره ... فمنهم قيام حولها وقعود
فقال الوالي: ما كان أبو هذا إلاّ كريمًا، ثمّ قال للآخر: من أبوك؟ فقال:
أنا ابن من دانت الرقاب له ... مابين مخزومها وهاشمها
خاضعةً أذعنت لطاعنه ... يأخذ من مالها ومن دمها
فقال الوالي: ما كان أبو هذا إلاّ شجاعًا وأطلقهما، فلمّا انصرفا قلت للوالي: أمّا الأوّل فكان أبوه يبيع الباقلاء المصلوقة، وأمّا الثاني فكان أبوه حجّامًا، فقال الوالي:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك مضمونه عن النسب
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
وفي معنى هذين البيتين ما روي أنّ الخصيب صاحب مصر سأل أبا نؤاس عن نسبه، فقال: أغناني أدبي عن نسبي.
وممّا يناسب هذا المعنى قول المتنبي:
لا بقومي شرّفت بل شرّفوا بي ... وبجدّي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كلّ من نطق الضاد ... وعوذ الجاني وغوث الطريد
ويقال لمن يفخر بنفسه هو "عصامي" إشارة إلى قول النابغة في عصام حاجب النعمان:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته ملكًا هماما ويقال لمن يفخر بآبائه "عظامي" إشارة إلى فخره بالأموات من آبائه ورهطه، قال الشاعر:
إذا ما الحي عاش لعظم ميت ... فذاك العظم حيّ وهو ميت
ودخل عبيد الله بن زياد التميمي على أبيه وهو يجود بنفسه، فقال: ألا اُوصي بك الأمير؟ فقال: إذا لم يكن للحي إلاّ وصيّة الميّت فالميّت هو الحي.
ويقال: إنّ عطاء بن سفيان قال ليزيد بن معاوية: أغنني عن غيرك، قال: حسبك ما أغناك به معاوية، قال: فهو إذًا الحي وأنت الميّت.
قال علي ﵇: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
وقال ﵇: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب آبائه.
قال الشاعر:
لئن فخرت بآباء ذوي حسب ... لقد صدقت ولكن بئسما ولدوا
وكان يقال: أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية، وتبجح بالقرون الماضية، واتّكل على الأيّام الخالية.
وكان يقال: من طريف الاُمور حيّ يتّكل على ميّت.
وكان يقال: ضعة الدني في نفسه الرفيع في أصله أقبح من ضعة الوضيع في نفسه وأصله، لأنّ هذا تشبه بآبائه وسلفه وذاك قصر عن أصله وسلفه، فهو إلى الملامة أقرب وعن العذر أبعد.
وافتخر شريف بآبائه فقيل له: لو وفّقت لما ذكرت أباك لأنّه حجّة عليك تنادي بنقصك وتقرّ بتخلّفك.
وكان جعفر بن يحيى يقول: ليس من الكرام من افتخر بالعظام.
وقال الفضل بن الربيع: كفى بالمرء عارًا أن يفتخر بغيره.
وقال: من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز، وأقرّ على نفسه بالدنائة.
وقيل لرجل يدلّ بشرف أبيه: لعمري لك أوّل ولكن ليس لأوّلك آخر.
ومثله: إنّ شريفًا بآبائه فاخر شريفًا بنفسه، فقال الشريف بنفسه: إنتهى إليك شرف أهلك ومنّي ابتدء شرف أهلي، وشتّان بين الإبتداء والإنتهاء.
وقيل لشريف ناقص الأدب: إنّ شرفك بأبيك لغيرك، وشرفك بنفسك لك، فافرق بين ما لك وما لغيرك، ولا تفرح بشرف النسب فإنّه دون شرف الأدب.
قال ابن الرومي:
1 / 7
وما الحسب الموروث لا درّ درّه ... بمحتسب إلاّ بآخر مكتسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب
وقال آخر:
وما فخري بمجد قام غيري ... إليه وقد رقدت الليل عنّه
إلى حسب الفتى في نفسه انظر ... ولا تنظر هديت إلى ابن من هو
وقال آخر:
إذا فخرت بآبائي وأجدادي ... فقد حكمت على نفسي لأضدادي
هل نافعي إنّ سعي جدّي لمكرمة ... ونمت عن أختها في جانب الوادي
وقال آخر:
أيقنعني كوني ابن من كوني ابنه ... أبى لي أن أرضى لفخري بمجده
إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه ... فليس بحاو للعلاء بجدّه
وهل يقطع السيف الحسام بأصله ... إذا هو لم يقطع بصارم حدّه
ويقال لمن يفخر بغير أولية كانت له "خارجي"، قال كثير العبد العزيز:
أبا مروان لست بخارجي ... وليس قديم مجدك بانتحال
وأمّا بيته: فأقول إنّه نشأ في بيت رفعت يد العزّ على أوّل الدهر قواعده، وطهرت للطائفين والعاكفين محاريبه ومساجده، ووقّرت الهيبة مجلسه، وزهرت به بشاشته المؤنسه، فلا ينطق نديّه العوراء، ولا تمرّ بأطراف سماطه البذائة والفحشاء، ومن كان له هذا البيت صدق فيه بيت الأرجاني:
وأحسن حلية بيت حديث ... يصاغ لمن له بيت قديم
بيتٌ هو معرس السفر، ومغرس الحمد والشكر، ومجتمع الرغائب، ومنتجع المواهب.
بيت مجد إن حوى شكر الورى ... فعلى معروفه كانوا عيالا
لم يكن للجود إلاّ مطلعًا ... يملأ العين هلالًا فهلالا
ولقد أجاد الإفتخار في بيته الفرزدق بن غالب وذلك حيث قال:
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعزّ وأطول
بيتًا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبوالفوارس نهشل
حدّث سلمة بن عياض مولى بني عامر بن لوي قال: دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوس وقد قال قصيدته التي منها:
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعزّ وأطول
بيتًا بناه لنا المليك وما بنى ... ملك السماء فانّه لا ينقل
وقد أُفحم، فقلت: ألا أرفدك؟ فقال: وهل عندك ذاك؟ قلت: نعم، ثمّ قلت:
بيتًا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبوالفوارس نهشل
فاستجاد البيت وغاظه قولي، فقال لي: ممّن أنت؟ فقلت: من قريش، قال: من أيّها؟ قلت: من بني عامر بن لوي، فقال: لئام والله وضيعة جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم، فقلت: ألأم والله منهم وأوضع قومك، جائك رسول مالك بن المنذر وأنت سيّدهم وشاعرهم فأخذ بأُذنك يقودك حتّى حبسك فما اعترضه أحد ولا نصرك، فقال: قاتلك الله ما أمكرك، وأخذ البيت وأدخله في قصيدته.
وحدّث أبو مالك الرواية قال: سمعت الفرزدق يقول: أبق غلامان لرجل منّا يقال له النضر، فحدّثني قال: خرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أُريد اليمامة، فلمّا صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصرصران، ارتفعت سحابة فأرعدت وأبرقت وأرخت عزاليها، فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرى، فأجابوا، فدخلت دارًا لهم وأنخت راحلتي وجلست تحت ظلّة لهم من جريد النخل، وفي الدار لهم جويرية سوداء إذ دخلت جارية كأنّها سبيكة فضّة وكأنّ عينيها كوكبان درّيّان، فسألت الجارية: لمن هذه العيساء - تعني ناقتي -؟ فقيل: لضيفكم هذا، فعدلت إليّ وسلّمت عَلَيّ، فرددت ﵍، فقالت: ممّن الرجل؟ فقلت: من بني حنظلة، فقالت: من أيّهم؟ فقلت: من بني نهشل، فتبسّمت وقالت: أنت إذًا ممّن عناه الفرزدق بقوله، وذكرت الأبيات السابقة، قال: فقلت: نعم جعلت فداك وأعجبني ما سمعت منها، فضحكت وقالت: فإنّ ابن الخطفي قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي قد فخرتم به وذلك حيث يقول:
أخزى الذي رفع السماء مجاشعًا ... وبنى بناءً بالحضيض الأسفل
بيتًا يحمّم قينكم بفنائه ... دنسًا مقاعده خبيث المدخل
قال: فوجمت، فلمّا رأت ذلك في وجهي قالت: لا بأس عليك فإنّ الناس يقال فيهم ويقولون، ثمّ ساقت حديث اليمامة وقصّة ابن عمّها عمرو بن كعب بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء.
رجع إلى ما كنّا فيه: قال بعضهم وأحسن كلّ الإحسان بقوله مفتخرًا:
1 / 8
إن أكن مهديًا لك الشعر إنّي ... لابن بيت تهدى له الأشعار
أخذ هذا المعنى الصاحب بن عباد أخذًا حسنًا فقال مفتخرًا:
إنّ خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كلّ نادي
وقال مهيار الديلمي في أبي الحسن محمّد بن علي بن المزرع وقد بلغ النهاية في الحسن:
وحبّذا بين بيوت أسد ... بيت إذا ضلّ الضيوف هادي
أتلع طال كرمًا ما حوله ... تشرّف الربى على الوهاد
موضحة على ثلاثة ناره ... إن سرقوا النيران في الرماد
بيت وسيع الباب مبلول الثرى ... ممهّد المجلس رخص الزاد
إن قوّض البيوت أصل جائر ... طنّب بالآباء والأجداد
ترفع من محمّد سجوفه ... جوانب الظلماء عن زياد
فصل في كرمه وأخلاقه
أمّا كرمه: فإنّه ومنشىء البشر للكريم الذي صدق فيه المخبر والخبر، وشهد بجوده السمع والبصر، لا كمن كاصله أياديه، خبر يلفقه لسان راويه؛ قد حسن منظره وقبح مخبره.
إن يبلغنّك عن جود امرء خبر ... فكذّب السمع حتّى يشهد البصر
ولا يغرّنّك من راقت ظواهره ... فربّ دوح نظير ما له ثمر
كأنّما بعث في الجود وحده، مرسلًا لا نبيّ بعده، في زمن لا تندى صفاته، ولا تلين الإستعطاف حصاته، فلا يشار في صلة الأرحام والأواصر إلاّ إليه، ولا تنعقد الخناصر في تعداد الكرام إلاّ عليه، ويحقّ لي أن أُنشىء فيه:
توسّمت أبناء الزمان فشمتهم ... وبعضهم في لؤمه مشبه بعضا
فبين ضنين بالعطا متوقّف ... ولكنّه في المنع كالسيف بل أمضى
وبين شديد الحرص لو يبس كفّه ... على الأرض يلقى لحظة أمحل الأرضا
فلم أر للمعروف أهلًا سوى امرء ... يرى صلة الوفّاد يوم الندى فرضا
على أنّه إنّما يحسن إهداء الثناء إليه، مع غنائه عنه بما تثني ألسنة مكارمه عليه، من حيث أنّ المدح يذيع بنشره كما يذيع النسيم الغض بريا المسك على طيب نشره، كما قلت فيه - وفيه التضمين -:
محمّد الحسن استغنيت بالحسن ... من مدح مجدك عمّا قيل في الزمن
فكارم العرب في تلك الجفان وقل ... "هذي المكارم لا قعبان من لبن"
وفاخر الصيد في لبس الثناء وقل ... "هذي المفاخر لا ثوبان من عدن"
والتضمين المذكور في شطرين من بيتين لبعضهم وهما:
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
هذي المفاخر لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصًا فعادا بعد أسمالا
وممّا ورد في مدح الكرم وأربابه وذمّ البخل وأربابه: قال أميرالمؤمنين علي ﵇: الكريم لا يلين على قسر ولا يقسو على يسر.
وقال ﵇: من قبل عطائك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لم يكن من يجود.
وقال ﵇: من انتجعك مؤمّلًا فقد أسلفك حسن الظن.
وقال ﵇: أحبّ الناس إليك من كثرت عندك أياديه، فإن لم يكن فمن كثرت عنده أياديك.
وقال ﵇: الرغبة إلى الكريم تحرّكه على البذل، وإلى الخسيس تغريه بالمنع.
وقال الصادق جعفر بن محمّد ﵇: إنّ الحاجة لتعرض للرجل عندي فاُبادر بها خوفًا من أن يستغني عنها أو تأتيه وقد استبطاها فلا يكون لها عنده موقع.
وكانت أُمّ البنين تقول: أُفٍّ للبخل، لو كان ثوبًا ما لبسته، ولو كان طريقًا ما سلكته.
وقال المأمون: لئن أخطىء باذلًا أحبّ إليّ من أن أُصيب مانعًا.
وقال محمّد بن السماك: أهنىء المعروف ما لا مطل في أوّله ولا مَنٌّ في آخره.
ومدح نصيب الشاعر عبد الله بن جعفر فأجزل عطيّته، فقيل له: تسنع بهذا العبد الأسود مثل هذا؟ فقال: إن كان أسود فإنّ ثناه أبيض بقق، وشكره عربي ذو رونق، ولقد استحقّ بما قال أكثر ممّا نال، وهل هي إلاّ رواحل تنضى وثياب تبلى وما يفنى، استعضنا عنه مديحًا يروى وثناء يبقى.
وكتب رجلًا من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوّفه الفقر، فردّ عليه: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالفَحْشاء واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا واللهُ واسِعٌ عَليمٌ)، وأنا أكره أن أترك أمرًا قد وقع لأمر لعلّه لا يقع.
1 / 9
وقيل لابن عبّاس: من سادة الناس؟ فقال: أمّا في الدنيا فالأسخياء، وأمّا في الآخرة فالأتقياء.
وسُئِل شعيب: ما الجود؟ فقال: أن لا يضن الرجل بما يملك عمّن هو لعطيّته أهل.
ومن أمثالهم: ألبخل يهدم مباني الكرم.
وقد ذمّ رجل رجلًا فقال: ما تبل إحدى يديه الاُخرى.
وقال آخر في البخيل: البخيل يملأ بطنه والجار جايع، ويحفظ ماله والعرض ضايع.
وقال معاوية لعمرو: ما السخاء يا أبا عبد الله عند العرب؟ قال: جهد المقل. ينظر فيه قول رسول الله ﵌: جهد المقل أكثر من عفو المكثر.
وكان يقال: ما عزّة أثبت أركانًا ولا ألزم بنيانًا من بثّ المكارم واكتساب المحامد.
ومن مختار قول الحكماء في الكرماء واللؤماء قولهم: الكرام في اللئام كالغرّة في جبهة الفرس.
ومن مختار قول الثعالبي في ذلك: الكريم إذا سُئل ارتاح، واللئيم إذا سُئل ارتاع. الكريم في مركز القلب، واللئيم في مزجر الكلب.
وقال في الكريم على حدّه: طلعة الكريم طلقة عند اللقاء ويده منطلقة بالعطاء.
وقال في اللئيم على حدّه: همّة البخيل هامدة ومنّته خامدة ويده جامدة، الإحسان إلى اللئيم أضيع من الرقم على بساط الهواء والخط على بسيط الماء.
وأحسن ما قيل في المبالغة بقلّة الكرام وكثرة اللئام قول الشيخ أبي تمام:
ولقد يكون ولا كريم نناله ... حتّى نخوض إليه ألف لئيم
ومن الغايات قوله في المدح بالسخاء:
هو البحر أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله
تعود بسط الكف حتّى لو أنّه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله
قوله: تعود بسط الكف الخ لحظه السيّد الرضي فقال متحمّسًا:
أبر على الآمال فضلي ونائلي ... وطال على الجوزاء قدري ومحتدي
ألفت يدي بذل النوال فلو نبت ... عن الجود يومًا قلت ما هذه يدي
وممّا يبهي بحسنه قول أبي الحسن بن مرزويه مهيار:
تعطي حياءً مطرقًا ملثّمًا ... وقد وهبت مسنيًا ومجزلا
ويسفر الناس على بخلهم ... لأنّهم لا يعرفون الخجلا
وقال البحتري:
يعطي عطاء المحسن الخضل الندي ... عفوًا ويعتذر اعتذار المذنب
وقال أيضًا:
كاد ممتاحه لسابق جدواه ... يكون الإصدار قبل وروده
وقال أيضًا:
دع المطي مناخات بأرحلها ... لم ينض عنهنّ تصدير ولا حقب
فما تزيد على إلمامة خلس ... بأحمد بن عليّ ثمّ تنقلب
وقال أيضًا:
أعطيتني حتّى حسبت جزيل ما ... أعطيتنيه وديعةً لم توهب
فشبعت من بر لديك ونائل ... ورويت من أهل لديك ومرحب
وقال أبو نصر عبد العزيز:
قد جدتني باللهى حتّى بها ... وكدت من ضجري أثني على البخل
لم يبق جودك لي شيئًا أؤمّله ... تركتني أصحاب الدنيا بلا أمل
وقال البحتري:
إنّي هجرتك إذ هجرتك وحشةً ... لا العود يذهبها ولا الابداء
أحشمتني بندى يديك فسوّدت ... مابيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالجود حتّى أنّني ... متخوّف أن لا يكون لقاء
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجبًا وبر راح وهو جفاء
ومنه أخذ أبوالعلا المعرّي معنى قوله وزاد فيه التمثيل فقال:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
وفي هذا المعنى ما حكاه علي بن جبله المعروف بالعكوك قال: زرت أبا دلف بالجبل فكان يظهر من برّي وإكرامي والتحفي بي أمرًا مفرطًا حتّى تأخّرت عنه حينًا، فبعث إليّ معقلًا فقال: يقول لك الأمير: قد انقطعت عنّي وأحسبك استقللت برّي فلا تغضب من ذلك فسأزيد فيه حتّى ترضى، فقلت: والله ما قطعني عنه إلاّ إفراطه في البرّ، وكتبت إليه:
هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
ولكنّني لمّا أتيتك زائرًا ... فأفرطت في برّي عجزت عن الشّكر
فملآن لا آتيك إلاّ مسلّمًا ... أزورك في الشهرين يومًا وفي الشهر
فإن زدتني برًّا تزايدت جفوةً ... فلا نلتقي حتّى القيامة في الحشر
1 / 10
فلمّا وقف أبو دلف على الأبيات قال: قاتله الله ما أحسن شعره وأدقّ معانيه، وبعث إليّ بوصيف معه ألف دينار.
أقول: قوله: فملآن لا آتيك معناه فمن الآن، فحذف النون، وهذا الحذف شايع مستعمل عند مضايقة الكلام، قال ابن دريد في مقصورته:
من رام ما يعجز عنه طوقه ... ملعبأ يومًا آض مهزول المطا
أي من العبأ.
وقال الشريف الرضي:
من أيّ الثنايا طالعتنا النوائب ... مأي حمىً منّا رعته المصائب
أي من أيّ الثنايا والنظائر كثيرة.
رجعٌ إلى ما كنّا فيه من المدح بالسخاء: قال أبو عبادة البحتري:
بدت على البدو نعمىً منه سابغة ... وقد تحضر أُخرى مثلها الحضر
لا يتعب النائل المبذول همّته ... وكيف يتعب عين النّاظر النّظر
وقال أيضًا:
لا يستريح من الألفاظ منطقه ... إلاّ إلى نعم تفتر عن نعم
وقال مهيار:
لهم دوحة خضراء رويّ أصلها ... بماء الندى الجاري وطيب فرعاها
نمت كلّ مغرور عن المجد سنّه ... يقول نعم في المهد أوّل ما فاها
وما أحلى قول البحتري في قصيدة:
إذا باكرته غاديات همومه ... اراح عليها الراح حمراء كالورد
كأنّ سناها بالعشي لشربها ... تبلج عيسى حين يلفظ بالوعد
له ضحكة عند النوال كأنّها ... تباشير برق بعد بعد من العهد
كأنّ "نعم" في فيه حين يقولها ... مجاجة مسك خيض في ذائب الشهد
وقال إسماعيل بن أحمد الشاشي:
ما قال لا قطّ مذ حلّت تمائمه ... بخلًا بها فوجدنا الجود في البخل
ما ألطف هذا المعنى وأشرفه وهو يشبه قول أبي محمّد الخازن في مدح الصاحب ابن عباد:
نعم تجنب لا يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاء لثغة الراء
وهو من قول الفرزدق:
ما قال لا قط إلاّ في تشهّده ... لولا التشهّد كانت لائه نعم
ومثله ما قيل في قثم بن العباس:
أعفيت من حل ومن رحلة ... يا ناق إن أدنيتني من قثم
إنّك إن أدنيتنيه غدًا ... حالفني اليسر ومات العدم
في وجهه نور وفي باعه ... طول وفي العرنين منه شمم
أصم عن قيل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم
لم يدر "ما" لا و"بلى" قدري ... فعافها واعتاض عنها نعم
ومثله قول بعضهم:
أبى جوده "لا" البخل واستعجلت به ... "نعم" من فتىً لا يمنع الجود قائله
قال الزمخشري في أحاجيه: هذا البيت غامض ما رأيت أحدًا فسّره.
وحكى يونس عن عمرو بن العلا أنّه جرّ البخل بإضافة لا إليه وأورده أبو علي بنصب البخل وزعم أنّه مفعول أبى وأنّ لا زائدة، وحكى ذلك عن أبي الحسن الأخفش. قال: وأمّا بقيّة البيت فلم يفسّره وهومشكل جدًّا.
أقول: ويترجّح في نظري ما فسّره به بعض القدماء قال في معناه أنّه مدح لكريم، أبى جوده أن ينطق بلا التي للبخل واستعجلت بجوده نعم أي سبقت نعم لا صادرة من فتىً لا يمنع. والهاء في قائله تعود على نعم أي قائل نعم لا يممنع الجود، وهذا أليق التفاسير على كثرتها.
ومن ذلك ما قاله الوليد في معاوية يهجوه وقد عكس فيه المعنى المتقدم:
فإذا سُئلت تقول لا ... وإذا سألت تقول هات
تأبى فعال الخير لا ... تسقي وأنت على الفرات
أفلا تميل إلى نعم ... أو ترك لا حتّى الممات
وقال آخر في المدح:
بدأت بمعروف وثنّيت بالرضا ... وثلّثت بالحسنى وربّعت بالكرم
وباشرت أمري واعتنيت بحاجتي ... وأخّرت لا عنّي وقدّمت لي نعم
وصدّقت لي ظنّي وأنجزت موعدي ... وطبت به نفسًا ولم تتبع الندم
فإن نحن وافينا بشكر فواجب ... وإن نحن قصّرنا فما الودّ متّهم
وأمّا أخلاقه: فأقول أنّه قد تحلّى بطباع شفافه، وأخلاق أرقّ من السلافه، لا تحمل قذى الواشين لصفائها، ولا تروى عن ابنة العنقود سورة صهبائها، تزيّنها شيم الطف من روضة باكرها الطل، وأطيب من شيحة تتحدّث عن أريجها النسائم.
خلق شف فالنسيم كثيف ... عنده إن قرنت فيه النسيما
لأخي شيمة تعلم منها ... الغيث إذ يستهلّ أن لا يريما
قد حواها عن معشر أورثوها ... منه من كان مثلهم مستقيما
1 / 11
فهي في اللطف أوّلًا وأخيرًا ... شرع تفضل العرار شميما
فكأنّ القديم كان حديثًا ... وكأنّ الحديث كان قديما
قال علي ﵇: ربّ عزيز أذلّه خرقه، وذليل أعزّه خلقه.
وقال ﵇: من لم تصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبه.
وكان يقال: ألق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره.
ووصف أعرابي رجلًا بحسن البشر فقال: لا تراه الدهر إلاّ كأنّه لا غنى به عنك فإذا أذنبت غفر وكأنّه المذنب، وإن أحسن اعتذر وكأنّه المسيء.
وقال النبي ﵌: إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الأخلاق.
أقول: وحسبك مدحًا لحسن الخلق قوله تعالى لنبيّه: (إنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) .
وقال النبي ﵌: مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه، وتكون في الإبن ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيّده. قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافات بالصنايع، وصلة الرحم، والتذمّم للجار والصاحب، والحلم في القدرة، والمواساة في الشدّة، وقرى الضيف، ورأسهنّ الحياء.
وقال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي بن أبي طالب ﵉ فأعجبني سمته وروائه فأثار منّي الحسد ما كان يجنّه صدري من البغض لأبيه، فقلت له: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ فقال: نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إليّ نظرة عاطف رؤف، ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ، وَإمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إنَّهُ سَميعٌ عليم، إنَّ الَّذينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُون) ثمّ قال لي: خفّض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا أعنّاك، ولو استرفدتنا رفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. قال عصام: فتوسّم في الندم على ما فرط منّي، فقال: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْم يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين)، أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حيّاك الله وبيّاك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجد عندنا أفضل ظنّك إنشاء الله. قال عصام: فضاقت عَلَيّ الأرض بما رحبت ووددت لو ساخت بي ثمّ تسلّلت منه لواذًا وما على وجه الأرض أحد أحبّ إليّ منه ومن أبيه.
أقول: أمّا قوله: شنشنة أعرفها من أخزم فهو مثل قائله أبو أخزم الطائي جدّ حاتم الطائي أو جدّ جدّه على ما قيل، ويقال: إنّ ابنه أخزم مات وترك بنين فوثبوا على جدّهم فأدموه، فقال:
إنّ بَنِيَّ رمّلوني بالدم ... من يلق آساد الرجل يكلّم
ومن يكن ذا أود يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزم
والشنشنة السجيّة والطبيعة. وفي بعض النسخ: ومن يكن درء به يقوم، والدرء الميل والإعوجاج في القنات.
وعلى ذكر عقوق الأولاد: حدّث المدائني قال: كان جرير بن عطيّة الخطفي الشاعر المشهور من أعقّ الناس بأبيه، وكان ابنه بلالًا أعقّ الناس به، فراجع جرير بلالًا في الكلام فقال له بلال: الكاذب منّي ومنك من ناك أُمّه، فأقبلت عليه أُمّه وقالت: يا عدوّ الله تقول هذا لأبيك؟! فقال لها جرير: دعيه فوالله لكأنّي أسمعها وأنا أقولها لأبي.
ونظير ذلك ما حكي عن يونس بن عبد الله الخيّاط أنّه مرّ برجل وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقًّا به، فقال له: ويحك أتفعل هذا بأبيك، وخلّصه من يده، ثمّ أقبل على الأب يعزّيه ويسكّن منه، فقال له الأب: يا أخي لا تلمه واعلم أنّه ابني حقًّا، والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه، فانصرف الرجل وهو يضحك.
وما أحسن قول أُم ثواب في ابن لها وقد عقّها:
ربّيته وهو مثل الفرخ أطعمه ... أم الطعام ترى في جلده الزغبا
حتّى إذا آض كالفحال شذّ به ... أباره ونفى عن متنه الكربا
أمسى يخرق أثوابي يؤدّبني ... أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا
قالت له عرسه يومًا لتسمعني ... مهلًا فإنّ لنا في أُمّنا إربا
ولو رأتني في نار مسعرةً ... ثمّ استطاعت لألقت فوقها حطبا
1 / 12
قولها: كالفحال هو من النخل ما كان من ذكوره فحلًا لإناثه، جمعه فحاحيل، ولا يقال فحال إلاّ في النخل خاصّة. وشذّ به أباره يقال: جذع مشذّب أي مقشّر، وتقشير الجذع إزالة الكرب عنه، وتأبير النخل إصلاحه.
وقال قرعان في ابنه منزل وقد عقّه من جملة أبيات يقول فيها:
جرت رحم بيني وبين منازل ... جرّاء كما يستنزل القطر طالبه
تربّيته حتّى إذا آض شيظمًا ... يكاد يساوي غارب الفحل غاربه
وكان له عندي إذا جاع أو بكى ... من الزاد أحلا زادنا وأطائبه
تعمّد حقّي ظالمًا ولوّى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه
وربّيته حتّى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وجمعتها دهمًا جلادًا كأنّها ... أشاء نخيل لم تقطع جوانبه
فأخرجني منها سليبًا كأنّني ... حسام يمان فارقته مضاربه
وقال آخر في ولد له:
فلمّا بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل
جعلت جزائي غلظة وفضاضةً ... كأنّك أنت المنعم المتفضّل
رجع الكلام إلى كلام الحسن ﵇: قوله: حيّاك وبيّاك، معنى حيّاك أبقاك الله وملّكك، ومعنى بيّاك أضحكك أو قرّبك أو جاء بك أو بوّئك منزلًا أو أنّه تباع لحيّاك.
ومن محاسن الأخلاق ما يروى عن بهرام أنّه خرج متصيّدًا فعنّ له حمار وحش فأتبعه حتّى صرعه وقد انقطع عن أصحابه، فنزل عن فرسه يريد ذبحه وبصر براع فقال له: أمسك على فرسي، وتشاغل بذبح الحمار وحانت منه التفاتة فنظر إلى الراعي وهو يقلع جواهر عذار فرسه، فحوّل وجهه عنه وقال: تأمّل العيب عيب، وعتاب من لا يستطيع الدفاع عن نفسه سفه، والعفو من شيم الملوك، ثمّ قال: يا غلام آتني بفرسي، فلمّا أتاه به ضرب بهرام بيده إلى شريان الراعي ثمّ قال: يا غلام ما بال شريانك يضطرب، لعلّك آذاك وطئنا أرضك بحوافر خيلنا؟ قال: نعم وقد عزمت على السفر لأرض كذا وهو موضع بعيد، فقال بهرام: لا ترع فهذا الموضع وما فيه لك، وكان الراعي خبيثًا داهيًا، فقال: إنّ الملوك إذا قالوا قولًا أتبعوه بفعل، فرجع بهرام إلى عسكره وقال له: أتبعني لأوثق لك من هذه الأرض، فأتبعه، فلمّا بصر به الوزير قال: أيّها الملك إنّي أرى جواهر عذار فرسك مقلعًا، فتبسّم وقال: نعم أخذه من لا يردّه ورآه من لا ينم عليه.
وممّا جاء في الشّيم قولهم: شيم الأحرار إحرار الشّيم.
وقال الثعالبي: أحسن الشيم ما يشام منه بارق الكرم.
ومن جيّد ما جاء في الشيم والأخلاق الأنيقة قول بعض الشعراء:
تزين الفتى أخلاقه وتشينه ... وتذكر أخلاق الفتنى وهو لا يدري
وقول الآخر:
وبعض أخلاق الفتى ... أولى به من نسبه
وقول مهيار:
حببّه إلى النفوس خلق ... لو ذاقه عدوّه حلى له
وقوله:
فلو سبكت خلقه المطرب في ... الكاسات ما غودرت الأثملا
وقول أبي طاب المأموني:
وخلائق كالخمر درّ فعاله ... حبّب لهنّ وما لهنّ خمار
وقول الآخر:
ولي شيمة في وجنة الدهر شامة ... تنير على رغم الصباح الدياجيا
وقول مهيار:
ملآن من شرف التحيّة نفسه ... تحوي الفضائل من جميع جهاتها
وقول المعرّي:
وسجايا محمّد أعجزت في الو ... صف لطف الأفكار والأذهان
وقول البحتري:
قد وجدنا محمّد بن عليّ ... غاية المجد قائلًا وفعولا
ولقينا شمائلًا تنثر المسك ... سحيقًا كما لقيت شمولا
وقول أبي تمام:
فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع
فصل في حلمه ونهاه ووقاره وحجاه
أقول: إنّه الحليم الذي ما ضمنت أحلم منه معاقد حبوه، ولا التفت عللى أوقر منه مجامع ندوه يزينه من الحجى ركانه، ومن النهى ما يعلى على النبلاء مكانه.
زعيم بني الشرف الواضح ... وربّ النهى والحجى الراجح
حليم إذا ما عرا فادح ... توقّر يرسي على الفادح
وقور على مقذعات الحسود ... وهل يعبأ البدر بالنابح
الحلم هو الأناة، والنُّهى العقل، والوقار الحلم، والركانة الوقار والرزانة، والحجى العقل أيضًا.
قالت الحكماء: الحلم أفضل من العقل لأنّ الله ﷾ وصف نفسه به.
1 / 13
ويقال في المثل: حسب الحليم أنّ الناس أنصاره.
وقال أميرالمؤمنين علي ﵇: ربّ كلمة يخترعها حليم مخافة ما هو شرّ منها، وكفى بالحلم ناصرًا.
وقال ﵇: لِن واحلم تُنْبل، ولا تعجب فتُمقَت وتُمتَهَن.
وقيل: من مناقب المرء الحلم من غير ضعف، والجود بغير طلب ثواب الدنيا.
وقال بعض الحكماء: من اتّخذ الحلم لجامًا إتّخذه النّاس إمامًا، ومن لم يكن حليمًا لم يزل سقيمًا.
وقيل لمعاوية: من أصبر الناس؟ قال: أردّهم لجهله بحلمه.
وكان يقال: دلّ على عقل المرء إختياره.
قال بعض الشعراء:
قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ن دليلًا على اللبيب اختياره
وقال علي ﵇: العقل إصابة الظنّ ومعرفة ما لم يكن بما كان.
وقال ﵇: ذمّ العقلاء أشدّ من عقوبة السلطان.
وقال ﵇: من زاد عقله نقص حظّه، وما جعل الله لأحد عقلًا وافرًا إلاّ احتُسِبَ به من زرقه.
وقال ﵇: الروح حياة البدن، والعقل حياة الروح.
وقال ﵇: ليس شيء أحسن من عقل زانه علم، ومن علم زانه حلم، ومن حلم زانه صدق، ومن صدق زانه رفق، ومن رفق زانه تقوى، إنّ ملاك العقل ومكارم الأخلاق صون العرض والجزاء بالقرض والأخذ بالفضل والوفاء بالعهد والإنجاز للوعد، ومن حاول أمرًا بالمعصية كان أقرب إلى ما يخاف وأبعد ممّا يرجو.
ويقال: العقل منهاة فمن لم تنه تجاربه عدّ من البهائم.
وقال الثعالبي: العقل أحسن معقل.
وقال: العاقل من يروى له ثمّ يروي، ويُخْبَر ثمّ يخبِر، ويُشاهد ثمّ يشهد، ويعلم ثمّ يعمل.
وقال أيضًا: العاقل من يستدلّ بأسارير الوجوه على أسرار القلوب.
وقال: العاقل من يرى بأوّل رأيه أواخر الاُمور، ويهتك عن أسبابها ظلم الستور.
وقال: العاقل من يشتهي فينتهي، ويبصر فيقصر.
ومن جيد الشعر في هذا الفصل قول بعضهم:
الحلم يعقب راحةً ومحبّةً ... والصفح عن ذنب المسيء جميل
وقال الآخر:
من خير ما رُزِق العباد وأُلهموا ... علم يُعاشُ به وحلم راجح
وقول الرضي:
وأحلم خلق الله حتّى إذا دنا ... إليها الأذى طارت بها جهلاتها
ينظر فيه إلى قول النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
وهذا هو الغاية في بابه. ومن جيد ما قيل في الحلم والوقال قول ابن دريد في مقصورته:
يعتصم الحلم بجنبي حبوتي ... إذا رياح الطيش طارت بالحبى
وقول البحتري:
ووقور تحت السكينة ما ير ... فع من طرفه ضجاج الخصوم
وقول المتنبي:
وبقايا وقاره عاقت الناس ... فكانت ركانةً في الجبال
فصل في تجاربه وذكائه
أقول: إنّه هو الذي سبر غور الأيّام بتجاربه، واستشف له النظر فيها أستار عواقبها، ولو تقدّم في الأعصر الأوّل لضرب بذكائه المثل، ورآه الناس أذكى من أياس.
حازم يسلس من بعد الشماس ... كلّ أمر راضه صعب المراس
ذو ذكاء لو أياس رامه ... لدعاه الفخر عد عنه بياس
قتل الأيّام خبرًا وله ... قبس التجريب أسنى الإقتباس
لو سيوفًا طبعت آرائه ... لبرت ما أدركت حتّى الرواسي
قال علي ﵇: العقل غريزة تربّيها التجارب.
وقال ﵇: عليك بمجالسة أصحاب التجارب فإنّها تقوم عليهم بأغلا الغلا، وتأخذها منهم بأرخص الرخص.
وقال ﵇: في التجارب علم مستأنف، والإعتبار يفيدك الرشاد، وكفاك أدبًا لنفسك ما كرهته لغيرك، وعليك لأخيك مثل الذي عليه لك.
أقول: وبهذا يعلم أنّ العقل نوعان: غريزة ومكتسب بالتجارب، كما أشار إليه أميرالمؤمنين ﵇، ولم يحكم الأمور محكم كالتجربة.
وقيل: التجارب لا غاية لها.
والذكاء حدّة الفؤاد.
قال علي ﵇: ذكّ قلبك بالأدب كما تذكّي النّار الحطب.
والحزم ضبط الرّجل أمره وأخذه بالثقة.
قال علي ﵇: أحزم الناس من ملك جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن حظّه ولا غضبه عن كيده.
وقال ﵇: الرأي يريك غاية الاُمور مبدؤه.
1 / 14
وممّا جاء للشعراء في هذا الفصل قول بعضهم:
إذا ما قتلت الشيء علمًا فقل به ... ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
وكان يقال: قتل أرضعًا عالمها وقتلت أرض جاهلها.
قال أبوالطيب المتنبّي:
قد بلوت الخطوب حلوًا ومرًّا ... وملكت الأيّام حزنًا وسهلًا
وقتلت الزمان علمًا فما يغر ... ب قولًا ولا يجدّد فعلا
وقال أيضًا:
هذا الذي أفنى النظار مواهبًا ... وعداه قتلًا والزمان تجاربا
وممّا ورد لبعض الشعراء يصف شاعرًا بالذكاء لكنّه أخرجه مخرج التهكّم، وهو ظريف جدًّا:
وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط أذكاء
أقام يجهد أيّامًا قريحته ... وشبّه الماء بعد الجهد بالماء
يريد بهذا قول القائل:
كأنّنا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
قوله: أوقد الطبع الذكاء له، يقال: وقدت النار توقّدت هي وأوقدتها أنا واستوقدتها.
ومن الغايات في المدح بالذكاء قول أبي الطيب المتنبّي:
تعرف في عينه حقائقه ... كأنّه بالذكاء مكتحل
أشفق عند اتّقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل
وفي معنى البيت الثاني قول الخالدي:
لو لم يكن ماء علمي قاهرًا فكري ... لأحرقتني في نيرانها فكري
وعكس هذا المعنى أبوالعلا المعرّى، فنقله من المدح بالذكاء إلى المدح بالشجاعة وشدّة العزم، فقال:
من كلّ من لولا تلهّب بأسه ... لا خضر في يمنى يديه الأسمر
قوله: الأخضر في يمنى يديه الأسمر، أخذه مهيار الديلمي أخذًا لطيفًا فقال، ونقله إلى المدح بالكرم:
لو ركبوا في عواليهم أناملهم ... يوم الوغى خضرت أطرافها الحمر
وحكى أبوالحسن العمري قال: دخلت على الشريف المرتضى فأراني بيتين قد عملهما وهما:
سرى طيف سعدي طارقًا فاستفزّني ... هبوبًا وصحبي بالفلاة هجود
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعلّ خيالًا طارقًا سيعود
فخرجت من عنده ودخلت على أخيه السيّد الرضي، فعرضت عليه البيتين، فقال بديهًا:
فردّت جوابًا والدموع بوادر ... وقد آن للشمل المشتّ ورود
فهيهات من لقيا حبيب تعرّضت ... لنا دون لقياه مهامه بيد
فعدت إلى المرتضى بالخبر، فقال: يعزّ عَلَيّ أخي قتله الذكاء، فما كان إلاّ يسيرًا حتّى مضى لسبيله.
وكان أياس معروفًا بالفطنة والذكاء والفراسة، وذكره أبو تمام في قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء أياس
وقد جمع في ذكائه مجلّد.
يقال: إنّه نظر إلى ثلاث نسوة فزعن من شيء، فقال: هذه حامل وهذه مرضع وهذه بكر، فسُئِلنَ فكان الأمر كما ذكر، فقيل له: من أين لك ذلك؟ فقال: لمّا فزعن وضعت إحداهنّ يدها على بطنها والاُخرى على ثديها والاُخرى على فرجها.
أقول: وهو أياس بن معاوية، حكى المسعودي في شرح المقامات أنّ المهدي دخل البصرة فرأى أياس بن معاوية وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وغيرهم وهو مقدّمهم، فقال المهدي: أُف لهؤلاء الفتّانين، أما كان فيهم شيخ يتقدّمهم غير هذا الحدث؟! ثمّ إنّ المهدي إلتفت إليه وقال: كم سنّك يا فتى؟ فقال: سنّي أطال الله بقاء أميرالمؤمنين سنّ أُسامة بن زيد بن حارثة حين ولاّه النبيّ ﵌ جيشًا فيه أبو بكر وعمر، فقال له: تقدّم بارك الله فيك.
وقال السيّد الرضي يصف نفسه بالحزم:
ومالي بعلم الغيب إلاّ طليعة ... من الحزم لا يخفى عليها المغيّب
وقال مهيار في صدق الرأي:
يرى بوجه اليوم صدر غده ... تعطيه ما في المصدر الموارد
وقال أيضًا:
يطلعه نجد كلّ مشكلة ... فكرّ وراء الغيوب مطلع
وقال البحتري:
ومصيب مفاصل الرأي إن حا ... رب كانت آرائه من جنوده
قوّمت عزمه الأصالة والرمح ... يقيم الثقاف من تأويده
فصل في فصاحة لسانه وبلاغة بيانه
أقول: هو قادح زند الفصاحة، وماسح غرر سوابق البلاغة، لسانه صفحة منصل، وبيانه عقد مفصّل.
بوركت طلعتك الغرّاء يا ... قمرًا في فلك العلياء مفرد
أنت ريحانة فضل لا أرى ... مثل ريّاها بهذا العصر يوجد
لك ذكر نشره يهدي شذى ... فيه أنفاس النسيم الغض تشهد
1 / 15
ولسان في القضايا ذرب ... ينطق الفصل إذا الفصل تردد
وبيان لو يجاري سحره ... سحر هاروت وماروت لبلد
عقد الألباب تنحل به ... وبه ينتظم الأمر فيعقد
قال النبي ﵌: الجمال في اللسان.
وقال أميرالمؤمنين ﵇: من طال لسانه وحسن بيانه فليترك التحدّث بغرائب ما سمع، فإنّ الحسد لحسن ما يظهر منه يحمل أكثر الناس على تكذيبه.
وقال: المرء مخبوّ تحت لسانه.
وقال بعضهم:
كفى بالمرء عيبًا أن تراه ... له وجه وليس له لسان
وقالت الحكماء: الصورة الحسنة بلا منطق حسن كالبيت الحسن ليس به ساكن.
وقيل: المرء بأصغريه قلبه ولسانه.
وقيل: المرء مخبوّ تحت طيّ لسانه لا طيلسانه.
وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلاّ ضالّة مهملة أو بهيمة مرسلة.
وقيل: دخل بعض الفصحاء على بعض الاُمراء فازدراه لدمامته وقال: لإن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: مهلًا أيّها الأمير، فإنّما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن تكلّم تكلّم بلسان وإن قاتل قاتل بجنان، ثمّ أنشأ يقول:
وما المرء إلاّ الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصوّر
فإن غرّة راقتك منه فربّما ... أمر مذاق العود والعود أخضر
وأنشد أيضًا:
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلّم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم
وحسبك شاهدًا في هذا المقام بالحكاية التي تقدّمت في نقل ما جرى بين شريك بن الأعور ومعاوية بن أبي سفيان، وقوله في آخر كلامه:
أيشتمني معاوية بن حرب ... وسيفي صارم ومعي لساني
فقوله: وسيفي صارم ومعي لساني يشبه الكلام الذي مرّ في قولهم: إن تكلّم تكلّم بلسان وإن قاتل قاتل بجنان، ويشبهه قول مهيار:
مالي أذلّ وسيف نصري في فمي ... والمجد يحفظ سارحي وغريبي
وقول الآخر وهو من شعراء اليتيمة:
وإذا السيوف قطعن كلّ ضريبة ... قطع السيوف القاطعات لساني
وقول السيّد الرضي:
ومقولي كالسيف يحتمى به ... أشوس إباء على المقاول
وقوله أيضًا:
ما مقامي على الهوان وعندي ... مقول صارم وأنف حمي
وإباء محلق بي عن الضيم ... كما راغ طائر وحشي
وقوله أيضًا:
إن لم تكن في الجمع أمضى طعنةً ... فلأنت أنفذ خطبةً في المجمع
بنوافذ للقول يبلغ وقعها ... ماليس يبلغ بالرماح الشرّع
وقوله في رثاء الحسين بن الحجاج:
وما كنت أحسب أنّ المنون ... تفلّ مضارب ذاك اللسان
لسان هو الأرزق القعضبي ... تمضمض في ريقة الأفعوان
وقول مهيار:
من طاعني ثغر الخطوب ... بكلّ سكّيت مفوه
أُمراء معركة الخطابة ... فاتحو الشبهات عنوه
في كلّ جلسة كاتب ... منهم إلى الأعداء غزوه
والشعر في هذا الباب كثير جدًّا، وأقول: إنّما يشبه اللسان بالسيف تاره وبالسنان أُخرى لأنّ بعض الكلام الذي هو أثر اللسان وصفته له تأثير في النفوس كتأثير الجرح الحاصل من السنان والسيف، قال الشاعر:
جرحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان
وفي بعض النسخ "الكلام" بدل اللسان وهو أولى إن كان البيت استهلالًا من حيث يكون مصراعًا.
ولا بأس بإيراد شيء ممّا ورد من الكلام المنثور في البلاغة والكلام البليغ والمتكلّم البليغ: قال أميرالمؤمنين ﵇: البلاغة النصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة، ومن النصر بالحجة أن يدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان الإيضاح أوعر طريقه، وكانت الكناية أبلغ في الدرك وأحقّ بالظفر.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل.
وقيل لابن المقفع: ما البلاغة؟ قال: هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنّه يحسن مثلها.
وقال معاوية للضحّاك العبدي: ما البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تخطي، وتقول فلا تبطي. فقال: أكذلك أنت؟ قال: أقلني يا أميرالمؤمنين، البلاغة أن لا تخطي ولا تبطي.
وقال عبد الحميد الكاتب: البلاغة ما فهمته العامّة ورضيته الخاصة.
وقيل لكلثوم بن عمرو الغساني: ما البلاغة؟ فقال: ما أفهمك لفظه من غير إعادة ولا حبسه.
1 / 16
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: السلاطة والجزالة.
وقال آخر: البلاغة التقرّب من البعيد والتباعد من الكلفة، والدلالة من القليل على الكثير.
ومن مختار قول الثعالبي في هذا الباب: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه وقلّ مجازه وكثر إعجازه وتناسبت صدوره وإعجازه.
وقال: ربّ كلام له حسن الوجوه الصباح، وسحر الحدق الملاح.
وقال في صفة البليغ: البليغ من يبلغ الأغراض البعيدة بالألفاظ القريبة.
وقيل: البليغ من إذا نطق طبق المفصل، وإذا كتب نسق الدر المفصل.
نبذة فيما ورد لبعضهم من الكلام البليغ قيل لأعرابي: إنّك لكذوب خوار، فقال: والله إنّي لأصدق من قطاة، وأصلب من صفاة.
وقال آخر: يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل.
وذكر أعرابي محلة قوم فقال: ارتحلت عنها ربّات الخدور، وأقامت بها رواحل القدور، ولقد كانوا يعفون آثار الرياح، فعفت آثارهم فذهبت بأبدانهم وبقت ديارهم، فالعهد قريب واللقاء بعيد.
ودعى آخر على رجل فقال: اللهمّ اجعل معيشته السؤال، ومنيته الهزال، ولبوسه العار، ومصيره إلى النّار، وأقلل عدده، وأفني مدده.
ودعت أعرابيّة على زوجها فقالت: ضربك الله بداء لا يكون له دواء إلاّ أبوال القطا.
وسُئِل أعرابي عن بلدين كم بينهما؟ قال: أديم يوم وعمر ليله.
ودخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح وعنده أخواله من بني الحرث ابن كعب، فقال: ما تقول يا خالد في أخوالي؟ فقال: هم هامة الشرف، وعرنين الكرم، إنّ فيهم خصالًا ما اجتمعت في غيرهم من قومهم، إنّهم لأطولهم أُممًا، وأضربهم قممًا، وأكرمهم شيمًا، وأطيبهم طعمًا، وأوفاهم ذممًا، وأبعدهم هممًا، هم الجمرة في الحرب، والرفد في الجدب، والرأس في كلّ خطب، وغيرهم بمنزلة العجب. فقال السفاح: لقد وصفت يابن صفوان فأحسنت، فزاد أخواله في الإفتخار، فغضب أبوالعباس لأعمامه فقال: أفخر يا خالد، قال: أو على أخوال أميرالمؤمنين؟ قال: وأنت من أعمامه، فقال: كيف أُفاخر قومًا هم بين ناسج برد وسائس قرد ودابغ جلد، دلّ عليهم هدهد وأغرقهم جرد وملكتهم أُم ولد، فتهلّل وجه أبي العباس. قال الجاحظ وقد ذكر كلام خالد هذا: والله لو فكّر في جميع معائبهم واحتضار اللفظ في مثالهم بعد ذلك المدح المهذّب حولًا كاملًا لكان قليلًا، فكيف وهو على بديهته لم يرض فكرًا ولم يجهد خاطرًا.
ومثله ما روي أنّه وفد على رسول الله ﵌ الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميان، فقال له الزبرقان: يا رسول الله أنا سيّد تميم المطاع فيهم والمجاب منهم، آخذ لهم الحق وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك منّي؛ يعني عمروًا، فقال: أجل يا رسول الله، إنّه لمانع لحوزته، مطاع في عشيرته. فقال الزبرقان: لقد علم أكثر ممّا قال، ولكنّه حسدني شرفي، فقال عمرو: أمّا لئن قال ذلك ما علمته إلاّ ضيق العطن، زمر المروّة، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى. فتبيّن الكراهة في وجه رسول الله لاختلاف قوله، فقال: يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت، وعضبت فقلت أقبح ما علمت، ولقد صدقت في الاُولى وما كذبت في الاُخرى. فقال النبي عند ذلك: إنّ من البيان لسحرًا، وإنّ من الشعر لحمة.
وتظلّم رجل إلى المأمون من عامل له، فقال: يا أميرالمؤمنين ما ترك لنا ذهبًا إلاّ ذهب به، ولا فضّة إلاّ فضّها، ولا غلّة إلاّ غلّها، ولا ضيعةً إلاّ أضاعها، ولا علقًا إلاّ علّقه، ولا عرضًا إلاّ عرض له، ولا ماشيةً إلاّ أمتشها، ولا جليلًا إلاّ أجلاه، ولا دقيقًا إلاّ دقّه، فعجب المأمون من فصاحته وكشف ظلامته.
وقال المنصور لمعن بن زائدة الشيباني: كبرت يا معن؟ قال: في طاعتك يا أميرالمؤمنين. قال: وإنّ فيك لبقيّة، قال: هي لك يا أميرالمؤمنين. قال: وإنّك لجلد، قال: على أعدائك يا أميرالمؤمنين. قال: أيّ الدولتين أحبّ إليك: دولتنا أم دولة بني أُميّة؟ قال: ذلك إليك؛ إن زاد إحسانك على إحسانهم فدولتك أحبّ إليّ وإن نقص عنه فدولتهم أخفّ عَلَيّ.
وقال المنصور لإسحاق بن مسلم: أفرطت في وفائك لبني أُميّة؟! فقال: يا أميرالمؤمنين من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى، قال: صدقت.
1 / 17
ووصف بعض البلغاء رجلًا فقال: إنّه لبسط الكفّ، رحب الصدر، وطىء الأكناف، سهل الأخلاق، كريم الطباع، ضاحك السنّ، طلق الوجه، سحاب ماطر، وبحر زاخر، يستقبلك بحسن بشر، ويستدبرك بكرم غيب، عبد لضيفه غير ملاحظ لأكيله، ريّان من العقل، ظمآن من الجهل، راجح الحلم، ثاقب الرأي، كاس من كلّ مكرمة، عار من كلّ ملامة، إن سُئِل بذل، وإن قال فعل.
ومدح أعرابي رجلًا فقال: ذاك والله صريح النسب، مستحكم الأدب، من أيّ أقطاره أتيته تلقاه بكرم فعال وحسن مقال.
وذكر أعرابي قومًا فقال: هم أقلّ الناس ذنبًا إلى أعدائهم، وأكثر جرمًا إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على المنكر.
وذمّ آخر رجلًا فقال: هو غني من اللؤم، فقير من الكرم، موته حياة وحياته موت.
وذمّ آخر رجلًا فقال: هو أكثر ذنوبًا من الدهر.
وذُكِرَ عند أعرابي رجل مريض فقال: ذاك إلى من يداوي عقله من الجهل أحوج منه إلى من يداوي جسمه من المرض.
وقال آخر: فلان غناه فقر، ومطبخه قفر، يملأ بطنه والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضايع.
قوله: ومطبخه قفر نظيره قول الشريف الرضي:
بيوتهم سود الذرى ولنارهم ... مواقد بيض ما بهنّ رماد
وذكر أعرابي قومًا فقال: ألقوا من الصلاة الأذان مخافة أن تسمعه الأذان فتدلّ عليهم الضيفان.
وحدّث محمّد بن سلام قال: تكلّم الخطباء عند المهدي فأطنبوا في وصفه ومدحه، فقام شبيب المنقري فقال لأميرالمؤمنين: أعزّه الله أشباه فمنها القمر الباهر ومنها الفرات الزاخر ومنها الغيث الباكر ومنها الأسد الخادر؛ فأمّا القمر الباهر فأشبه منه حسنه وبهائه، وأمّا الفرات الزاخر فأشبه منه جوده وسخائه، وأمّا الغيث الباكر فأشبه منه طيبه وحبائه، وأمّا الأسد الخادر فأشبه منه شجاعته ومضائه. فقال المهدي: لا حاجة بنا بعد هذا إلى كلام.
ومثل هذا الكلام البليغ ما حكاه أبو محكم قال: اجتمع الشعراء على باب المعتصم، فبعث إليهم محمّد بن عبد الملك الزيّات فقال لهم: إنّ أميرالمؤمنين يقول لكم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النميري في الرشيد:
خليفة الله إنّ الجود أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع
من لم يكن ببني العبّاس معتصمًا ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن أخلف القطر لم تخلف مخائله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع
فليدخل وإلاّ فلينصرف، فقام محمّد بن وهيب فقال: فينا من يقول مثله، قال: وأيّ شيء قلت؟ فقال:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فالشمس تحكيه في الإشراق طالعة ... إذا تقطّع عن إداركها النظر
والبدر يحكيه في الظلماء منبلحًا ... إذا استنارت لياليه به الغرر
يحكي أفاعيله في كلّ نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذكر
فالغيث يحكي ندى كفّيه منهمرًا ... إذا استهلّ بصوب الديمة المطر
وربّما صال أحيانًا على حمق ... شبيه صولته الضرغامة الهصر
والهند وانى يحكي من عزائمه ... صريمة الرأي منه النقض والمرر
وكلّها مشبه شيئًا على حدّة ... وقد تخالف فيها الفعل والصور
وأنت جامع ما فيهنّ من حسن ... فقد تكامل فيك النفع والضرر
فالخلق جسم له رأس مدبّرة ... وأنت جار حتاه السمع والبصر
فأمر بإدخاله وأحسن جائزته.
ولا بأس بذكر أبيات من قصيدة النميري في الرشيد: قال السيّد المرتضى: روي أنّ أبا عصمة الشعبي لمّا أوقع بأهل ديار ربيعة، أوفدت ربيعة وفدًا إلى الرشيد فيهم منصور النميري، فلمّا صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل منهم عليه، فاختاروا عددًا بعد عدد إلى أن اختاروا رجلين النميري أحدهما ليدخلا ويسألا حوائجهما، وكا النميري مؤدّبًا لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك ولا عرف به، فلمّا مثّل هو وصاحبه بين يدي الرشيد، قال لهما: قولا ما تريدان، فاندفع النميري فأنشده: "ما تنقضي حسرة منّي ولا جزع"، فقال له الرشيد: قل حاجتك وعد عن هذا، فقال: "إذا ذكرت شبابًا ليس يرتجع"، وأنشده القصيدة حتّى انتهى إلى قوله:
ركب من النمر عاذوا بابن عمّهم ... من هاشم إذا لحّ الأزلم الجذع
متوا إليك بقربى منك تعرفهم ... لهم بها في سنام المجد مطّلع
1 / 18
إنّ المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت امرءً فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متّضع
نفسي فدائك والأبطال معلمة ... يوم الوغى والمنايا بينهم قرع
حتّى أتى على آخرها، فقال: ويحك قل حاجتك، فقال: يا أميرالمؤمنين أُخربَت الديار وأُخذت الأموال وهُتِكَ الحرم، فقال: أُكتبوا له بكلّ ما يريد، وأمر له بثلاثين ألف درهم، واحتبسه عنده وشخص أصحابه بالكتب، ولم يزل عنده يقول الشعر فيه.
وقيل: ورد منصور بن سلمة النميري على البرامكة وهو شيخ كبير، فحدّث مروان بن أبي حفصة قال: دخل رجل شامي إلى الرشيد وكان قد تقدّمته البرامكة في الذكر عنده، فأذن له، فدخل فسلّم فأجاد، فأذن له الرشيد، فجلس، قال مروان: فأوجست منه خوفًا فقلت: يا نفس أنا حجازي نجدي شافهت العرب وشافهتني وهذا شامي أفتراه أشعر منّي، قال: فجعلت أرفق نفسي إلى أن استنشده هارون، فإذا هو والله أفصح الناس، فدخلني له حسد، قال: فأنشده قصيدة تمنّيت أنّها لي وأنّ عَلَيّ غرمًا، ثمّ ذكر مروان أنّه حفظ من القصيدة أبياتًا وهي:
أميرالمؤمنين إليك خضنا ... غمار الموت من بلد شطير
بخوص كالأهلّة جانفات ... تميل على السرى وعلى الهجير
حملن إليك آمالًا عظامًا ... ومثل الصخر والدرّ النثير
فقد وقف المديح بمنتهاه ... وغايته وصار إلى المصير
إلى من لا تشير إلى سواه ... إذا ذكر الندى كفّ المشير
قال مروان: فوددت أنّه أخذ جائزتي وسكت، وعجبت من تخلّصه إلى تلك القوافي، ثمّ ذكر ولد أميرالمؤمنين ﵇ فأحسن التخلّص، ورأيت هارون يعجب بذلك، فقال:
يد لك في رقاب بني عليٍّ ... ومن ليس بالمنّ اليسير
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم ... وإلاّ فالندامة للكفور
مننت على ابن عبد الله يحيى ... وكان من الحتوف على شفير
وقد سخطت لسخطتك المنايا ... عليه فهي حائمة النّسور
ولو كافأت ما اجترحت يداه ... دلفت له بقاصمة الظهور
ولكن جلّ حلمك فاجتباه ... على الهفوات عفو من قدير
فعاد كأنّما لم يجن ذنبًا ... وكان قد اجتنى حسك الصدور
وإنّك حين تبلغهم أذاة ... وإن ظلموا لمحترق الضمير
قال: فلمّا سمع الرشيد هذا البيت منه قال: والله هذا معنىً كان في نفسي، وأدخله بيت المال فحكّمه فيه، ثمّ قال مروان: وكان هارون يبسم وكاد يضحك للطف ما سمع ثمّ أومأ إليّ أن أنشده، فأنشدته قصيدتي التي أقول منها:
خلّوا الطريق لمعشر عاداتهم ... حطم المناكب كلّ يوم زحام
حتّى أتيت على آخرها، فوالله ما عاج ذلك الرجل بشعري ولا حفل به، وأنشده منصور يومئذ:
إنّ لهارون أمّا الهدى ... كنزين من أجر ومن برّ
يريش ما تبري الليالي ولا ... تريش أيديهنّ ما ييري
كأنّما البدر على رحله ... ترميك منه مقلتا صقر
وقال الجاحظ: كان منصور هذا ينافق الريد ويذكر هارون في شعره ومراده بذلك أميرالمؤمنين ﵇ لقول النبي ﵌: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلى أن وشى به عنده بعض أعدائه؛ وهو العتابي، فوجّه الرشيد برجل من بني فزارة وأمره أن يضرب عنقه حيث تقع عينه عليه، فقدم الرجل رأس عين بعد موت منصور بأيّام قلائل.
قال المرزباني: ويصدّق قول الجاحظ أنّه كان يذكر هارون في شعره ويعني به أميرالمؤمنين ﵇ ما أنشده محمّد بن الحسن بن دريد:
آل الرسول خيار الناس كلّهم ... وخير آل رسول الله هارون
رضيت حكمك لا أبغي به بدلًا ... لأنّ حكمك بالتوفيق مقرون
وممّا امتعض منه هارون الرشيد قوله:
شاء من الناس راتع هامل ... يعللّون النفس بالباطل
تقتل ذريّة النبي وير ... جون خلود الجنان للقاتل
ما الشك عندي في لؤم قاتله ... لكنّني قد أشكّ في الخاذل
1 / 19
ونظير قول المعتصم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النميري الخ ما رواه ميمون بن هارون قال: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرخ وحاله متماسكة، فسألته فقال: كنت من جلساء المستعين، فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلاّ ممّن قال مثل قول البحتري في المتوكّل:
فلو أنّ مشتاقًا تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
فرجعت إلى داري وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن ممّا قاله البحتري في المتوكّل، فقال: هاته، فأنشدته:
ولو أنّ برد المصطفى إذ لبسته ... يظنّ لظنّ البرد أنّك صاحبه
وقال قد أعطيته ولبسته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه
وقال: ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به، فرجعت فبعث إليّ سبعة آلاف دينار وقال: أذخر هذه للحوادث من بعدي ولك عَلَيّ الجراية والكفاية ما دمت حيًّا.
ويناسب هذه الحكاية ما روي عن ابن هرمة أنّه دخل على المنصور ممتدحًا له، فقال له المنصور: وما عسى أن تقول فيّ بعد قولك في عبد الواحد بن سليمان:
إذا قيل من عند ريب الزمان ... لمقتر فهر ومحتاجها
ومن يعجل الخيل يوم الهياج ... بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالك ... إليك به دون أزواجها
قلت: يا أميرالمؤمنين فإنّي قلت فيك أحسن من هذا، وأنشده:
إذا قيل أيّ فتىً تعلمون ... أهشّ إلى الطعن بالذابل
وأضرب للقرن يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل
أشارت إليك أكفّ الأنام ... إشارة غرقى إلى الساحل
قال المنصور: أمّا هذا فمسروق من ذاك، وأمّا نحن فلا نكافىء إلاّ بالتي هي أحسن، ثمّ أنعم عليه وأحسن جائزته.
ومثل ذلك ما رواه يموت به المزرع أنّ أحمد بن محمّد بن عبد الله أباالحسن الكاتب المعروف بابن المدبّر الضبي كان إذا مدحله شاعر ولم يرض شعره قال لغلامه: إمض به إلى المسجد ولا تفارقه حتّى يصلّي مأة ركعة، فتحاماه الشعراء إلاّ الأفراد المجيدون، فجائه أبو عبد الله الحسن بن عبد السلام المصري فاستأذنه في النشيد، فقال له: قد عرفت الشرط؟ قال: نعم، ثمّ أنشده هذه الأبيات:
أردنا في أبي حسن مديحًا ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا أكرم الثقلين طرًّا ... ومن كفّيه دجلة والفرات
فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهنّ الصّلاة
فقلت لهم وما يغني عيالي ... صلاتي إنّما الشّأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... فتصبح لي الصلاة هي الصلاة
فضحك ابن المدبّر واستظرفه، فقال: من أين أخذت هذا؟ قال: من قول أبي تمام الطائي:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فانّهنّ حمام
فاستحسن ذلك وأجزل طلبته.
وتكلّم خالد بن صفوان بين يدي هشام بن عبد الملك بكلام استحسنه هشام، فحسده بعض جلسائه فقال له: ما اسمك؟ فقال: خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال الرجل: اسمك كاذب وما أحد بخالد، وأبوك صفوان وهو حجر صلد، وجدّك أهتم والصحيح خير من الأهتم. فقال خالد: قد سألت فأجبناك، فممّن أنت؟ قال: من أهل الحجاز، قال: بخّ بخّ بلد العرب، ومنشأ أهل الأدب، فمن أيّ الحجاز؟ قال: من مكّة، قال: بخّ بخّ حرم الله وأمنه ومهجر إبراهيم ومولد إسماعيل، فمن أيّ أهل مكّة أنت؟ قال: من عبد الدار، قال: لم تصنع شيئًا يا أخا عبد الدار، هشمتك هاشم، وأمتك أُميّة، وخزمتك مخزوم، وجمحت بك جمح، وسهمتك سهم، وألوت بك لوي، وغلبتك غالب وأنافت بك مناف، وزهرت عليك زهرة، فأنت ابن عبد دارها، ومنتهى عارها، فتفتح لها إذا دخلت، وتغلق ورائها إذا خرجت. فمرض الرجل بعد ذلك أيّامًا ثمّ مات، فادّعى أهله على خالد ديته لأنّه مات بسبب كلامه.
1 / 20