أقول: والإختلاف في تفضيل الشعراء بعضهم على بعض المتقدّمين منهم والمتأخّرين كثير لا تحصى أقوالهم فيه، وهذا القدر منه كاف في الذكر والإطّلاع.
فصل في إثبات فصول من نثره وعقود من نظمه
قال أعزّه الله مقرضًا على الكتاب المعروف ب "مصباح الأدب الزاهر"، الذي ألّفه عمّي المهدي في أبيه الصالح طابت تربته: هذا الكتاب الرائقة عباراته، الفائقة إشاراته، الشريفة مراميه ومقاصده، اللطيفة مصادره وموارده، المثني على منشئه بلسان إحسانه وإبداعه، وبيان نظمه وأسجاعه، روضة تلحظ منها الأبصار زهرا، فتقطفه فتراه درّاه، فتحقّقه الأفكار فتجده سحرا، فلا تعلم أشاهدت روضةً أو وجدت بحرا، وهذا غير بعيد ممّن خصّهم الله بالتأييد.
كواكبُ في سماء الطرس لاحت ... به الساري اهتدى في الشعر نهجه
وينظرها الظريف إذا رآها ... مزينةَ حدائق ذات بهجه
وكتب إليّ أيضًا بهذه الرسالة في غرض له: إنّ أبهى ما رقم في الطروس، وأزهى ما ترتاح إليه النفوس، دعوات هتكت حجاب الظلماء، وقرعت أبواب السماء، حتّى كتبت مع المجرّة سطرا، ورفعت في ديوان القبول صدرا، وتحيّات تعطر أنفاس الصبا والشمائل، وتثبت أشواقًا أنضت الضلوع، وأودت بمهجة كم فيها لبينك من صدوع، تشكوا غرامًا لا يهدء وإن ردكت رياح الأشواق، وجفنًا لا يغمض وإن نامت عيون العشّاق، أهديهما - بأتمّ الإكرام - إلى من طاب فرعًا وأصلا، واشتمل على الفواضل والفضائل شابًّا وكهلا، صافي الأُرومة، زاكي الجرثومة، الراقي من رتب المجد أسناها، والمتسنّم من ذروة النجد أعلاها، لا برح علم مجده مرفوعًا أبدًا، وبناء سعده منصوبًا بخفض العدى، ما ألقى الحام درس سجعه، وسقى الغمام غرس نبعه.
أمّا بعد؛ يا أيّها النّدب، والمنهل العذب، أُعلمك - ثمّ أفاض في ذكر غرضه وهو نظم أبيات لمجاراة بعض شعراء الشام لأمر يقتضيه (وسوف تأتي الأبيات في باب الدال) .
ومن رسالة كتبها إليّ وقد ذهب عَلَيّ أوّلها حين نقلها منها: ذاك من تتبّع آثار آبائه وجدوده، وانتهت إليه مآثر فضلهم وفضلهم لا إنتهاء لحدوده، أدام الله له سنيّ الخلود، وأضفى عليه جلابيت الإقبال والسعود، ما دامت الأفلاك دائره، والأنجم سائره بمحمّد وأهل بيته الذين من تمسّك بهم نجى، وأصحابه الذين نالوا بشرف صحبته كلّ مرتجا، ومنها في التشوّق لي أنا لا زلت ولا أزال مترقّبًا عود ليالي الإقبال وإن طوتها يد النوى، متطلّعًا ورود مافيه ورود السلسبيل الزلال، عسى ينطوي الجوى، فلم تفز نفسي بمناها، ولم تحظ عيني بما يجلو قذاها، فلو شرّفني سيّدي بكتابه، ونوّه باسمي في خطابه، ناقعًا بعباراته العذبة غلّة صدري، ورافعًا بها بعد الإنخفاض قدري، لكان ذلك الأليق بكرمه، والأوفق بشيمه، لكنّي لست أعلم سببًا للحرمان، الممتدّ إلى هذا الأوان - هذه نبذة يسيرة من نظمه البديع، وستسمع له في خاتمة الكتاب فصولًا كثيرة من النثر المزري بعقود الدر.
وأمّا منظومه: فإنّي مورد له في هذا الكتاب ما هو السحر الحلال الجدير بقوله من قال:
كلمٌ هي الأمثال إلاّ أنّها ... بين الورى أضحت بلا أمثال
وسأثبت له من الغزل والنسيب، والمدح والفخر، والتأبين والتهجين، وسائر ضروب الشعر وفنونه قوافيًا سائرة، تزري بالرياض الناظره، فمن غزله قوله:
حيّ عنّي بالحمى عهدًا قديما ... وتعهّدْ لي به الظبي الرخيما
رشأٌ بالنبل من الحاطة ... غادر القلب على عمد كليما
إنْ أقلْ ريم صريم نافرٌ ... فلكمْ أخجل بالعينين ريما
لا ومن أرشق قلبي لحظه ... أنا لا أعرف لولاه الصريما
أبلج الخدّين ما ألطفه ... قامةً هيفاء أو كشحًا هظيما
راع بالرقّة من وجنته ... رائق الورد وبالطبع النسيما
خلته والشعر في عارضه ... شمس أفق زاحمت ليلًا بهيما
فامنح الدرياق من عذب اللمى ... فلكم بت بصدغيك سليما
فالتصابي لي سمير في الدجى ... والجوى في الصبح لي صار نديما
ومنه قوله وهو الذي يكاذ يسيل لرقّته:
ضاع قلب الموله المفتون ... بربى الكرخ لا ربى جيرون
فانشداه بين الظعون فإنّي ... خلته سار بين تلك الظعون
حنّت النيب يوم حنَّ فؤادي ... وشجى الساجعات رجع أنيني
1 / 51