مَلكا الوجود فطوَّقا بالجود عا ... طل كلّ جيد للأنام وهادي
واقترح عَلَيّ الجماعة تشطيرها، فابتدرهم من شعراء الحلّة الفيحاء ذوالشرف والعفّة محمّد بن إسماعيل الخلفة فقال:
موسى بن جعفر والجواد ومن هما ... للخلق كالأرواح للأجساد
بهما الوجود قد استفاد لأنْ هما ... سرّ الوجود وعلّة الإيجاد
هذا غياث الخائفين وذاك غي ... ظ الحاسدين وحاصد الأجناد
بل ذا مغيث الصارخين وذاك غي ... ث للوفود وروضة المرتاد
ملكا الوجود فطوّقا بالجود عا ... فيه معًا وقماقم الأمجاد
حتّى برفد نداهما قد زين عا ... طل كلّ جيد للأنام وهادي
فقام الشيخ محمّد رضا بن الشيخ أحمد النحوي وضرب بيده على فخذه مغضبًا وقال: يا للرجال! موتوا عجبًا، ما كنت أحسب أنّ الشيخ على جلالة قدره ينتحل شعري الذي قلته في مدح الجوادين، ويزيد لكلّ بيت كلمتين، وينشده بحضرتي، من غير احتفال بسطوتي، كأن لم يدر أنّي قلت، وأنشد:
موسى بن جعفر والجواد ... ومن هما سرّ الوجود
هذا غياث الخائفين ... وذاك غيث للوفود
ملكا الوجود فطوّقا ... بالجود عاطل كلّ جيد
فأزجع الشيخ مسلم بن عقيل وصاح بأعلا صوته: ما هذه الزخارف والأباطيل، وأنتما لفصاحة قمرًا سماها، ومصباحًا دجاها، لقد أفسدتما أبياتي، وبددتما نظام كلماتي، وكنت قد أحكمت صدورها بقوافيها، وطرزتها بالجناس متانقًا فيها، ثمّ طلب من ذوي الفضل أن يحكموا بينهم بالعدل، ثمّ التفت إليهم وأنشد:
موسى بن جعفر والجواد ومن هما ... سرّ الوجود وجعفر الجود
هذا غياث الخائفين وذاك غي ... ث للوفود شفاء مفؤد
ملكا الوجود فطوّقا بالجود عا ... طل كلّ جيد للأماجيد
فقال السيّد صادق الفحّام: على أدب الشيخ مسلم السّلام، إذا كان هذا في النظم نضرك، فكلّما قالت الشعراء شعرك، أنا كلّما أجلت فكرتي بالتقاطك لئالىء نظمي من سلكي، أعجب كيف سلمت منك قفانبك، وإذا كان هذا ديدنك في النظام، فما هذه الغفلة منك عن كتاب الله الواحد العلاّم، فطرّزه بالجناس، وافتخر به بين النّاس. فقال مسلم: مهلًا مهلًا لا يخرجك الغضب من الهزل إلى الجدّ، وتنضوا لخصومتي سيفًا ماضي الحد. فقال الصادق: ويلك يا مسلم أتضع سبابتك في فم الأرقم، وتزعم أنّك تسلم، أرأيت نملة حملت ثبير، أو البعوض جرّت الأثير، فأعرني سمعك لأُبيّن لك الخطأ فيما سرقت، فإنّه لا يتغطّى قبحه بحسن التجنيس، أُنظر إلى البيت الأوّل هل ترى للواو في "ومن هما" من محصل؟ وهل فيه فائدة إلاّ حفظ الوزن أن يختل؟ وأجل فكرك في ثاني الأبيات ترى أنّك أهملت معناه، وراعيت بالجناس لفظه، إذ جعلت أحدهما غيثًا والآخر غياثًا، فخصصت أحدهما بالشجاعة والآخر بالكرم، مع أنّ كلًاّ منهما جامع للوصفين ولسائر صفات الكمال، وأعد نظرك إلى البيت الثالث فإنّ أجدر لك بعد قولك ملكا الوجود أن تقول: طوّقا جميع ما حواه بالجود، وأجدر بك إذ سرقته أن تنشده كما وجدته، ثمّ اندفع ينشد:
موسى بن جعفر والجواد هما ... سرّ الوجود وعيبة العلم
فهما غياث الخائفين هما ... غيث الوفود ومنتهى الحلم
ملكا الوجود فطوّقا كرمًا ... ما في الوجود بنائل جمِّ
ثمّ التفت إليه وقال: إنّ عثرتك لا تقال، فإن كنت نائمًا انتبه لما أنت به، فقد أسفر الصباح لذي عينين، واستبان للناقد النحاس من اللجين، ثمّ تمثّل بهذه الأبيات:
يا صاح قد لحنت في قولي وما ... كان بقلبي فيه أمسى مودّعا
واللحن في المقال لا يعرفه ... إلاّ فتىً برمزه قد برعا
فإن تجدني قد ذكرت المنحني ... فاعلم بأنّي قد قصدت لعلعا
أو قلت حزوى فمرادي رامةٌ ... أو الغضا فقد أردت الأجرعا
فسكت الشيخ مسلم ولم يتكلّم، وظهر عليه أنّه خجل وتندّم.
قال عمّنا بعد فراغه من هذا الكتاب: والعجب العجيب أنّ كتابي لمّا ورد بغداد ورآه السيّد الشريف خال أنّ هذه القضيّة المبتدعة قضيّة حقيقيّة، مع أنّ فيها إشارات واضحة على أنّها مخترعة خلقيّة، ولم يشعر بأنّ أبياته من مجزوّ الكامل المذال بحرف، وإنّا أضفنا إليه تلك الزيادات مكيدة لئلاّ يعرف.
1 / 48