ومن ذلك ما اتّفق لعمّي المهدي طابت تربته مع السيّد راضي ابن السيّد صالح القزويني من التبكيت عليه في نسبته إلى انتحال أبيات أرسلها يفتخر بها، وقد أورد هذه القضيّة عمّنا المشار إليه في كتابه مصباح الأدب الزاهر في أثناء كلام عاب به على أب السيّد راضي المذكور في قصيدة له، وبعد فراغه من عدّ معائب تلك القصيدة قال: ومن أيسر تلك الأُمور أنّ ابن رئيس فصحاء هذا العصر في النظم والنثر، الشريف أبو أحمد السيّد راضي ابن السيّد الصالح القزويني نزيل بغداد زهى بنفسه وحسب أنّه وحيد الدهر في النظم والنثر وما برح يجلس في أندية أهل بغداد يطري نفسه ويحسب أنّه ما في الكون أحد يضاهيه بقرض الشعر فإذا عنّ ذكرنا سدّد سهامه وبلغ منّا مرامه بلا جناية منّا سبقت ولا إسائة تقدّمت، ولم تك لنا بعد ببغداد معرفة ولا لنا مع أشرافها أُلفة ولا نحن ممّن يعدّ الشعر يكسو المجيد فخرًا أو يرفع له قدرًا، بل هو عندنا يخفض الشريف ويضع قدره، فأتّفق أنّ السيّد المذكور حضر نادي بعض أشراف بغداد وان فيه من ذوي المودّة لنا الشيخ حسن الفلوجي فجرى ذكر الأُدباء حتّى انتهى الكلام بهم إلى الحلّة الفيحاء، فأنكر السيّد أن يكون في الحلّة أحد من الأُدباء المجيدين، ووافقه على ذلك الزعم زعيم النادي، فقال الشيخ مُشيرًا لنا: إنّ في الحلّة من لو عرفتم لا استعظمتم ما استحقرتهم، فأشار السيّد المشار إليه إلى أبيات نظمها في مدح الإمامين الجوادين: موسى بن جعفر الصادق ومحمّد بن عليّ الرضا سلام الله عليهم بزعم أنّها لا تتشطّر، فأمر أن تبعث لنا لنشطرها، فأرسلها الشيخ المذكور ضمن كتاب إلى الحلّة وابتلى بها غيرنا من أُدبائها حذرًا من الفتنة، وذكر في أثناء كتابه أن تعرض الأبيات عَلَيّ، فتفرّست من تلك العبارة أنّها من باب: إيّاك أعني واسمعي يا جاره، فكان الأمر كما تفرّست، وها هي الأبيات:
موسى بن جعفر والجواد ... ومن هما سرّ الوجود
هذا غياث الخائفين ... وذاك غيث للوفود
ملكا الوجود فطوّقا ... بالجود عاطل كلّ جيد
فلمّا عرضت عَلَيّ أمرت من ابتلي بها بالإحجام وخلقت لها مقامةً كمقامات الحارث بن همام في كتاب كتبته: إلى واسطة عقد جيد الزمن، الشيخ حسن، وعزوت الكتاب لولدنا حيدر الذي فاق بنظمه أبا تمام ومسلم ترفّعًا عن مجارات ذلك الصبيّ الذي تزبّب وهو حصرم، وهذا نصّ الكتاب - بعد سلام وثناء طويلين طوينا ذكرهما -: أمّا بعد؛ فقد وردت الوكة محبتك ورود الحياة إلى الأجساد بعد الممات، فلمّا فضضنا ختامها، وكشفنا عن لؤلؤ ثغرها لثامها، ضحك ثغر فصاحتي بعد استعبار وقال: أتنكّر الشمس في رابعة النهار، وهل يقال لأمواج البحور أنّها آل يمور، وللسبعة السيّارة تشببها الحصى بالإنارة، فيالله العجب من إنسانَي عين الأدب، ولسانَي الفصاحة في الخطب والخطب، علمَي المجد المشيّد الحاجّين المحترمَين: عيسى وأحمد، كيف يستحليان بناديهما أكل لحومنا وهو مرّ المذاق؟ ويستحلاّن أن يحملا على هزّل الهجاء يلملم بلاغتنا وإنّ حمله لا يطاق؟ مع أنّنا إذا نشر الأعداء ذمّهما طويناه بالمدح، بجدّ كان أو بمزح، حفظًا للحمة الأدب، فإنّها عندنا أوثق حرمةً من قرابة النسب، ولولا تلك العلاقة الأبيّة لنشر لسان فصاحتي الفرزدق وجرير، وطبقت شقشقته الزوراء بالهدير، لكن من ذا الذي تسخو نفسه بأكل لحمه، وهشم عظمه، وأعجب من هذا كلّه ما وقع ممّن هو لسان قصيّ، وصبح فصاحة لوي، وشمس بلاغة غالب، وكوكب معجزها الثاقب الشريف أبو أحمد السيّد الراضي، من زعمه أنّي لا أعرف طارف الشعر وتليده حتّى امتحنني بتشطير أبيات عزاها إليه مكيدة، مع علمه أنّي أصمعيّ هذا الزمان، ولتدوين آثار من غبر ابن خلّكان، فيا سبحان الله أيجهل أنّي ضربت سير قضايا أهل الأدب، وسيّان عندي من بَعُدَ منهم وقرب، ولئن أردت قصّة تلك الأبيات فهي من الغرائب، وذلك أنّ جماعةً من مفلّقي الشعراء وردوا من النجف الأشرف إلى الزوراء، وقد صحبهم جماعة من الحلّة الفيحاء، فلمّا استقرّ بهم الجلوس في نادي المنادمة، أنشد الشيخ حسن بن نصار على بديهته هذه الأبيات:
موسى بن جعفر والجواد ومن هما ... سرّ الوجود وعلّة الإيجاد
هذا غياث الخائفين وذاك غي ... ث للوفود وروضة المرتاد
1 / 47