فإن يك بحر الحنظليين واحدًا ... فما تستوي حيتانه والضفادع
وما يستوي صدر القناة وزجّها ... وما تستوي شمّ الذرى والأارع
وليس الذنابي كالقدامي وريشها ... وما تستوي في الكفّ منك الأصابع
ألا إنّما تحظى كليب بشعرها ... وبالمجد تحظى دارم والأفارع
أرى الخطفى بزّ الفرزدق شأوه ... ولكنّ خيرًا من كليب مجاشع
فيا شاعرًا لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع
ويرفع من شعر الفرزدق أنّه ... له بذخٌ لذي الخسيسة دافع
وقد يحمد السيف الدوان بغمده ... وتلقاه رثًا جفنه وهو قاطع
يناشدني النصر الفرزدق بعدما ... أناخت عليه من جرير صواقع
فقلت له إنّي ونصرك كالذي ... يثبت أنفًا هشّمته الجوادع
وفي ذلك يقول جرير:
أقول ولم أملك سوابق عبرة ... متى كان حم الله في كرب النخل
أقول: وممّا يليق أن أذكره في هذا المقام ما صنعه بعض الأُدباء مع بعضهم من التبكيت عليهم في دعوى انتحالهم الشعر إظهارًا للقدرة وافتخارًا بالإستطالة، فمن ذلك ما حكي أنّ صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص قال يصف باكورة ورد حملت إلى أبي عامر محمّد بن أبي عامر المقلّب بالمنصور:
أتتك أبا عامر وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها رأسها
فاستحسن المنصور ما جاء به، فحسده الحسين بن العريف فقال: هي للعباس بن الأحنف، فناكره صاعد، فقام ابن العريف إلى منزله ووضع أبياتًا وأثبتها في صفح دفتر عتيق كان قد نقض بعض أسطره وأتى بها قبل افتراق المجلس، وهي هذه:
عشوت إلى قصر عبّاسة ... وقد جدّل النوم حرَّاسها
فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صرّع السكر أنّاسها
فقالت أسار على هجعة ... فقلت بلى فرمت كاسها
ومدّت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها رأسها
وقالت خف الله لا تفضحنّ ... ابنة عمّك عبّاسها
فولّيت عنها على غفلة ... ولا خفت ناسي ولا ناسها
قال: فخجل صاعد وحلف، فلم يقبل منه، وافترق المجلس على أنّه سرقها، وتمكّنت من صاعد بأنّه كان يوصف بغير الثقة فيما ينقله.
وحدّث البحتري قال: أوّل ما رأيت أبا تمام أنّي دخلت على أبي سعيد محمّد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي التي أوّلها:
آفاق صبّ من هوىً فأفيقا ... أم خان عهدًا أم أطاع شقيقا
فسرّ بها أبو سعيد فقال: أحسنت والله يا فتى. قال: وكان في المجلس رجل نبيل رفيع المجلس منه، فوق كلّ من حضر عنده، يكاد تمسّ ركبته ركبته، فأقبل عَلَيّ ثمّ قال: يا فتى أما تستحيي منّي هذا شعري تنتحله بحضرتي؟ فقال أبو سعيد: أحقًّا ما تقول؟ قال: نعم وإنّما علقه منّي فسبقني به إليك وزاد فيه، ثمّ اندفع فأنشد أكثر القصيدة حتّى شكّكني - علم الله - في نفسي وبقيت متحيّرًا، فأقبل عَلَيّ أبو سعيد فقال: يا بني قد كان في قرابتك منّا وردّك لنا ما يغنيك عن هذا، فجعلت أحلف بكلّ محرجة من الأيمان أنّ الشعر لي ما سبقني إليه أحد، ولا سمعته ولا انتحلته، فلم ينفع ذلك شيئًا، وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتّى تمنّيت أنّي سخت في الأرض، فقمت منكسر البال أجرّ رجلي، فخرجت فما هو إلاّ أن بلغت باب الدار حتّى جاء الغلمان فردّوني، فأقبل عَلَيّ الرجل فقال: الشعر لك يا بنيّ، والله ما قلته قط ولا سمعت به إلاّ منك، ولكنّني ظنت أنّك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتّى عرّفني الأمير نسبك وموضعك، ولوددت أن لا تلد طائيّة أبدًا إلاّ مثلك، وجعل أبو سعيد يضحك، فدعاني الرجل فضمّني إليه وعانقني وأعلمني أنّه أبو تمام، وأقبل يقرضني، ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به.
1 / 46