ولابدّ أن أشكو إليك ظلامة ... وغارة مغوار سجيّته الغصب
تخيّل شعري أنّه قوم صالح ... هلاكًا وأنّ لخالديّ له سقب
رعى بين أعطان له ومسارح ... فلم يرع فيهنّ العشار ولا النجب
وكان رياضًا غضةً فتكدّرت ... مواردها وأصفر في تربها العشب
يساق إلى الهجن المقارف جلبه ... وتسلّبه الغرّ المحجّلة القبّ
غضبت على ديباجه وعقوده ... فديباجه غصب وجوهره نهب
وأبكاره شتّى أذيل مصونها ... وريعت عذاراها كما روّع السرب
وكنت إذا ما قلت شعرًا حدت به ... حداة المطايا أو تغنّى به الشرب
وقال أيضًا في أبي عثمان الخالدي:
لابدّ من نفثة مصدور ... فحاذروا صولة محذور
قد أنست العالم غاراته ... في الشعر غارات المغاوير
أثكلني غيد قواف غدت ... أبهى من الغيد المعاطير
أطيب ريحًا من نسيم الصبا ... جائت بريّا المسك عن حور
من بعدما فتحت أنوارها ... فابتسمت مثل الأزاهير
وبات فكري بتصانيفها ... ينقشها نقش الدنانير
يا وارث الأغفال ما حبّروا ... من القوافي والمشاهير
أعط قفانبك أمانًا فقد ... راحت بقلب منك مذعور
وله أيضًا من قصيدة أُخرى وقد تظلّم بها إلى سلامة بن فهد من الخالديين والتلعفري:
هل الصبر مُجد حين ادّرع الصبرا ... وهل ناصرٌ للشعر يوسعه نصرا
تحيف شعري يابن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى
وفي كلّ يوم للغبيين غارة ... تروّع ألفاظي المحجّلة الغرّا
غريب كسطر البرق لمّا تبسّمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا
فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه الصدرا
تناوله مثر من الجهل معدم ... من الحلم معذور متى بلّغ العذرا
فبعَّد ما قرَّبتُ منه غباوة ... وأورد ما سهّلت من لفظه وعرا
فمهلًا أبا عثمان مهلًا فإنّما ... يغار على الأشعار من عشق الشعرا
لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... واد نستما تلك المطارف والأزرا
فويحكما هلاّ بشطر فنعتما ... وأبقيتمالي من محاسنه شطرا
أقول: ولمّا اشتملت عليه هذه القصائد والمقاطيع من الرقّة والإنسجام وحسن الأُسلوب وجودة السبك والمعاني القريبة والألفاظ الرائقة تمهّد العذر في الإطالة بها، مع ما فيها من التزيّد من السريّ وكثرة التشنيع على الخالديين وسلبهما من التملّي بالأدب إذ مقامهما فيه مشهور، ومحلّهما منه على الألسنة مذكور ومشكور، وناهيك بأبي إسحاق الصابي نقدًا للأدب وقد قال فيهما:
أرى الشاعرَين الخالديين سيرا ... قصائد يفني الدهر وهي تخلد
جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصد
تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومرّ جدال بينهم يتردّد
فطائفةٌ قالت سعيد مقدَّمٌ ... وطائفة قالت لهم بل محمّد
فصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلاّ بالّتي هي أرشد
هما في اجتماع الفضل روح مؤلّف ... ومعناهما من حيث بيّنت مفرد
كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا ... علًا أشكلا هذاك أم ذاك أمجد
فزوجهما ما مثله في اتّفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد
فقاموا على صلح وقالوا جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد
فما أعدل هذه الحكومة من أبي إسحاق، فما منها إلاّ محسن يحطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الأفراد. ذكرتُ بهذه الحكومة حكومة الصلتان العبديّ الشاعر المشهور وقد قيل له: إقض بين جرير والفرزدق أيّهما أحسن شعرًا وأجلّ حسبًا وفخرًا؟ فقال:
أنا الصلتانيّ الذي قد علمتموا ... متى ما يحكم فهو بالحقّ صادع
أتتني تميم حين هابت قضاتها ... وإنّي لبالفضل المبين قاطع
كما أنفذ الأعشى قضيّة عامر ... وما لتميم في قضائي رواجع
سأقضي قضاء بينهم غير جائر ... فهل أنت للحكم المبين سامع
قضاء امرء لا يتّقي الشتم منهما ... وليس له في المدح منهم منافع
فإن كنتما حكّمتماني فأنصتا ... ولا تجزعا وليرض بالحقّ قانع
1 / 45