قد أصبحت ألفاظه صور النُّهى ... وقوالب الأسماع والألباب
وإذا حللتَ له جنابًا واحدًا ... حلَّ المؤمّل منك ألف جناب
قال رسول الله ﵌: إنّ من الشعر لحكمةً، وإنّ من البيان لسحرًا.
وقال علي ﵇: خير الشعراء ما كان مَثلًا، وخير الأمثال مالم يكن شعرًا.
وقال الخليل بن أحمد: الشعراء أُمراء الكلام، يصرّفونه أنّى شاؤا، جائزٌ لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تفريق اللفظ وتعقيده، ومدّ مقصوره وقصر ممدوحه، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته.
وقال السيّد المرتضى في الدرر في أثناء كلام أملاه ردًّا على الآمدي فيما عاب به البحتري: أنّ الشاعر لا يجب أن يؤخذ عليه في كلامه التحقيق والتحديد، فإنّ ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه، وكلام القوم مبنيّ على التوسّع والتجوّز والإشارات الخفيّة والإيماء إلى المعاني تارةً بعد أُخرى من قرب، لأنّهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق وإنّما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم.
وقال الجاحظ في كتاب البيان: كان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول، ويسمّون تلك القصائد: الحوليّات والمنقّحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلًا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا، وفي بيوت الشعراء الأوابد والأمثال ومنها الشواهد والشوارد.
طبقات الشعراء والشعراء أربع طبقات: أوّلهم: الفحل الخنذيذ وهو التام، ودون الخنذيذ: الشاعر المفلق، ودون ذلك: الشاعر فقط، والرابع: الشعرور.
وقال بعضهم: طبقات الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وشعرور.
وما أصدق قول القائل:
الشعراء فاعلمنَّ أربعهْ ... فشاعرٌ يجري ولا يجرى معهْ
وشاعرٌ من حقّه أن ترفعهْ ... وشاعرٌ من حقّه أن تسمعهْ
وشاعرٌ من حقّه أن تصفعهْ وذكر شارح الكامل: إنّ الحطيئة دخل على سعيد بن العاص وهو يتغذّى، فأكل أكل جايع، فلمّا فرغ من طعامه وخرج الناس أقام مكانه، فأتاه الحاجب ليخرجه فامتنع وقال: أترغب عن مجالستي، فلمّا سمعه سعيد وكان لا يعرفه قال للحاجب: دعه، ثمّ تذاكروا الشعر، فقال الحطيئة: ما أصبتم جيد الشعر ولو أعطيتم القوس باريها بلغتم ما تريدون. وقيل: إنّه أوّل من قال: أعط القوس باريها، فانتسبوه، فانتسب لهم، وذاكروه فقال لسعيد: اسمع ثمّ أنشد:
الشعراء فاعلمنّ أربعهْ ... فشاعرٌ لا يرتجى لمنفعهْ
وشاعر ينشد وسط المجمعهْ ... وشاعر آخر لا يجرى معهْ
وشاعرٌ يقال خمرٌ في دعهْ ومعنى قوله: خمر في دعه، غطّ وجهك حياءً من قبح ما أتى به، ثمّ أنشد:
الشعر صعبٌ وطويل سلمهْ ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ
زلّت به إلى الحضيض قدمهْ ... يريد أن يعربه فيعجمهْ
أقول: حمل لظة يعجمه على القطع والإستيناف كأنّه قال: فإذا هو يعجمه ولم يحمله على الفعل الذي عملت فيه أن، ولو عطفه عليه لبطل المعنى ولم يكن مستقيمًا.
وقيل للمفضَّل الضبيِّ: لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به يمنعني عن قوله، وأنشد:
وإنّما الشعر لبّ المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسًا وإن حمقا
وإنّ أفضل بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وقال بعضهم:
والبيت لا يحسن إنشاده ... إلاّ إذا أحسن منْ شادَه
وقال الآخر:
لا تعرضنَّ على الرواة قصيدةً ... مالم تبالغ قبل في تهذيبها
فمتى عرضت الشعر غير مهذّب ... عدَّوه منك وساوسًا تهذي بها
وقال أبوالفضل الميكالي:
يا من يقول الشعر غير مهذَّب ... ويسومني التعذيب في تهذيبه
لو أنّ كلّ الناس فيك مساعدي ... لعجزت عن تهذيب ما تهذي به
وما أظرف قول العماد الكاتب في هذا الباب وألطفه:
هي كتبي وليس تصلح من بعدي ... لغير العطّار والإسكاف
فهي إمّا مزاود للعقاقير ... وإمّا بطائن للخفاف
وممّن بالغ في هجاء بعضهم على خطله، وبلغ غاية الجدّ في هزله الحسين بن الحجّاج في قوله:
قيل إنّ الوزير قد قال شعرًا ... يجمع الشمل نظمه ويعمهْ
ثمّ أخفاه فهو كالهر يخري ... في زوايا البيوت ثمّ يطمهْ
ومن الكلم النوابغ: العجب ممّن يكثر غلطه ثمّ يكثر لغطه.
1 / 33