فلمّا قضينا حجّنا وكررنا راجعين، مررنا بذلك الموضع وقد تضاعفت أنواره وكملت بهجته، فقلت لصاحبي: إمض بنا إلى صاحبتنا لعلّنا نجدها، فلمّا أشرفنا على الخيام ونحن دونها نسير في روضة من تلك الرياض وقد طلعت الغزالة وحباب الطل يغازلها كأعين شرقت بدموعها على قضب زبرجد، فصعدنا رَبوة ونزلنا وهْدةً وإذا بها بين خمسة لا نصلح أن تكون خادمة لإحداهنّ يجتنين من كور ذلك الزهر، ويتقلّبن على ما اعتمّ من عشبه، فلمّا رأينا وقفْن، فقلت: السلام عليكم، فقالت من بينهنّ: وعليك السلام، وقصّت عليهنّ قصّتي، فقلن لها: ويحك ألا رحمتيه وزودتيه شيئًا يتعلّل به من جوى البرحاء؟ قالت: نعم زوّدته يأسًا حاضرًا ورأيًا حائرًا، فابتدرت أنظرهنّ خدًّا وأرشقهنّ قدًّا وأبرعهنّ طرفًا فقالت: والله ما أحسنتِ بدًا، ولا أجملتِ موعدًا، ولقد أسأتِ في الردّ، ولا كافيتيه في الودِّ، وإنّي لأحسبه بك وامقًا، وإلى لقائك شائقًا، فما عليك يا سعافة وإنّ المكان لخال، وإنّ معك من لا ينمّ عليك؟ فقالت: والله ما أفعل من ذلك شيئًا أو تفعليه قبلي وتشركيني في حلوه ومرّه. فقالت لها الأُخرى: تلك قسمة ضيزى، تُعْشَقين أنت فتزَهينَ ويذلّ لك فتمنعين الرّفد، ثمّ تأمرين بما يكون منك لذّةً وشهوةً ومنّي سخرة، ما أنصفتِ في القول ولا أجملتِ في الفعل، ثمّ أقبلن عَلَيّ فقلنَ: إلى مَ قصدت؟ فقلت: تبريد غلّة وإطفاء لوعة أحرقت الكبد وأذابت الجسد. قلن: فهل قلت في ذلك شيئًا؟ قلت: نعم، وأنشدتهنّ:
حججت رجاء الفوز بالأجر قاصدًا ... لحطّ ذنوب من ركوب الكبائر
فآبت كما آب الشقي بخفّتي ... حنين ولم اوجر بتلك المشاعر
دهتني بعينيها وبهجة وجهها ... فتاةٌ كضوء الشمس وسنى النواظر
فقلن: اقترِعْنَ، فاقترعْنَ فوقعت القرعة على أملحهنّ، فضرب إزار على باب غار، فعدلت إليه وأبطأن عَلَيّ قليلًا، وأنا أتشوّف واحدة منهنّ إذ دخل عَلَيّ أسود كأنّه ساريه، بيده هراوة وهو منعظ بمثل ذراع البكر، فقلت له: ما تريد؟ قال: أفعل بك الفاحشة، فخفت وصحت بصاحبي وكان أيدًا، فخلّصني منه، فخرجت من الغار وإذا بهنّ يتعادين إلى الخيام كأنّهنّ اللئالي ينحدرن من سلك، وهنّ يتضاحكن، ومعهنّ نياط قلبي يجذبنه بينهنّ، فانصرفت بأخزى من ذات النحيين.
أقول: وقد أسهبنا في النقل من هذه الحكايات والنوادر، وفيما ذكرناه كفاية.
قال الثعالبي: أحسن الكلام ما كان قالبًا لأهواء القلوب، ويشهد بهذا المعنى قول مهيار بن مرزويه الديلمي الكاتب:
إقا قال فاعقد خيوط التميم ... عليك فألفاظه تسحر
وقال أبو عبد الله محمّد بن أحمد الخازن في تهنئة الصاحب بن عباد بمولود ولد له:
وخذْ إليك عروسًا بنت ليلتها ... من حازم مخلص ودًّا ومعتقدا
أهديتها عفو طبعي وانتحيت لها ... سحرًا وإن كنت لم أنفث له عقدا
وقال مهيار أيضًا:
سحرت جودك فاستخرجت كامنه ... إنّ الكريم ببيت الشعر مسحور
فصل في نعت نثره ونظمه
أمّا نثره: فنثار طل تساقطه الأنداء، ووشي زهر ينمنم به الربيع، ديباجة روضة غناء. وأمّا نظمه: فجان سلك تتمنّى الحور لو زانت به نحورها، ووشحت به الهيف خصورها، إن نسب أغرب، وإن شبب أطرب، فنسيبه الحلو الحلال، وتشبيبه العذب الزلال، بل هو في جميع فنون الشعر طويل الباع، غزير الإطلاع، سمح البديهة، حسن الروية، صادق النظرة، ولود الفكرة، رقيق حاشية النظم، موشي ديباجة النثر.
كم مقامات نهىً حرّرها ... ليس فيها للحر يرى مقامه
وأنقياتِ بهى لو شامها ... جوهري الشعر ما سام نظامه
فما أحقّ كلامه بقول القائل:
كلام الإمام إمام الكلام ... وفوه يفوه بحرّ النظام
مزاج معانيه في نظمها ... مزاج المدام بماء الغمام
وهذا من قولهم: كلام الملوك ملوك الكلام، وقولهم: عادات السادات سادات العادات.
رجْعٌ إلى وصف كلامه: أقول: كلامه هو الذي ليس به عثار، ولا عليه غبار، قد ولي الفضل تحبيره، وملك العقل رسمه وتصويره، فهو كما قال القائل:
سمع البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنّما ألفاظه من ماله
هبني وفيت بحمده عن فضله ... من ذا يفي بالشكر عن إفضاله
بل كما قال هذا القائل:
1 / 32