ذكرت بقول الحطيئة: الشعراء فاعلمنّ أربعة ما حكاه الثعالبي قال: قال لي سهل بن مرزبان يومًا: إنّ من الشعراء من شلشل، ومنهم من سلسل، ومنهم من قلقل، ومنهم من بلبل. فقلت: أخاف أن أكون رابع الشعراء، وأردت قول الشاعر: وشاعر من حقّه أن تصفعه، الأبيات المتقدّمة. قوله: ومنهم من بلبل أراد قول الثعالبي:
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانف البلابل باحتساء بلابل
والأعشى هو المعني بقوله: ومنهم من شلشل، لقوله:
وقد غدوت على الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول
والمعني بقوله: ومنهم من سلسل، مسلم بن الوليد، لأنّه القائل:
سلت وسلت ثمّ سلّ سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا
وأبوالطيب المتنبي هو المعني بقوله: ومنهم من قلقل، وذلك حيث يقول:
وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلّهنّ قلاقل
وإنّما عيب عليهم ذلك لتكرير اللفظ الواحد في البيت لغير تجنيس بحيث صار مستثقلًا إلاّ أنّ بيت الثعالبي وإن وقع التجنيس في لفظته المكرّرة إذ المراد بالاُولى جمع بلبل؛ وهو طائر معروف، وبالثانية الهموم، وبالثالثة قناة الكوز التى نصب الماء، والبلبلة الكوز الذي فيه بلبل إلى جنب رأسه، ولكنّه صار مستثقلًا للتكرير الذي فيه ولهذا تراه أخف في الجملة من الأبيات الآخر، وقد تفنّن الشعراء في وصف الشعر، فمنهم من عدّه لنفسه شرفًا وفخرًا، واستطال به جلالة وقدرًا كأبي الطيب المتنبي في قوله:
لا تحسب الفصحاء تنشد هاهنا ... بيتًا ولكنّي الهزبر الباسل
وقوله:
لا بقومي شرفت بل شرّفوا بي ... وبجدّي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كلّ من طق الضاد ... وعوذ الجاني وغوث الطريد
أنا ترب الندى وربّ القوافي ... وسمام العدى وغيظ الحسود
وقوله:
خليلَيّ مالي لا أرى غير شاعر ... فلمْ منهم الدعوى ومنّي القصائد
وقوله:
أفي كلّ يوم تحت ضبعي شويعرٌ ... ضعيفٌ يقاويني قصير يطاول
وكالبحتري في قوله:
فإذا ما بنيت بيتًا تبخترت ... كأنّي بنيت ذات العماد
وقوله:
ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والحمد
وتلطّف ما شاء بقوله:
لا تخف عيلتي وهذي القوافي ... بيت مال ما إن أخاف ذهابه
وقول المعرّي:
وإنّي وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وقول مهيار:
وما الشعر إلاّ النسر بُعدًا وصورةً ... فلو شاء لم يطمع يدًا فيه رافع
وقد أفلَ النجمان منه فلا يفت ... على عين راء ثالث منه طالع
بقيت لكم وحدي وإن قال معشر ... وفي القول ما تنهاك عنه المسامع
ولو شئتُ لي أخفى زهير ثنائه ... على هرم أيّام تجري الصنائع
وكان غبينًا في أُميّة من شرى ... مديح عتاب وهو مغل فبايع
على كلّ حال أنت مُعط وكلّهم ... على سعة الأحوال مُعط ومانع
وقد وهبوا مثل الذي أنت واهب ... فما سمعوا بعض الذي أنت سامع
قوله: ثالث منه طالع يعني نفسه لقوله بعده: بقيت لكم وحدي، ويُشير بقوله: وقد أفل النجمان إلى ابننباته والسيّد الرضي، وكنّى بالاُفول عن موتهما، وكان لا يرى غيرهما متقدّمًا في هذا الفن، ورثاهما معًا، قال في رثاء ابن نباته من قصيدة جليلة أوّلها:
حملوكَ لو علموا من المحمول ... فارتاض معتاص وخفَّ ثقيل
واستودعوا بطن الثرى بك هضبةً ... وأقلّها أنّ الثرى لحمول
منها:
يا ناشد الكلم الغرائب أعوصت ... منها فليس لآيها تأويل
قف ناد في النادي هل ابن نباتة ... أُذن فيسمع أو فم فيقول
منها في وصف شعره:
وإذا وسمن على لئيم عرضه ... عارًا فليس لما علطنَ نصول
ويظللن يومًا بالملوك حواليًا ... يحفى لهنّ الشمّ والتقبيل
أبكارهنّ المطمعات نواشز ... وإناثهنّ المغزلات فحول
من كلّ بيت أمره بك نافذ ... وعلى اشتطاطك حكمه مقبول
قال الثعالبي: وهذا ابن نباته هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر ابن نباته السعدي، كان من محاسن الدهر، لا يُعاب إلاّ بعدم من لا يعرف قدره.
وقال مهيار أيضًا في رثاء السيّد الرضي، وهو دليل على ما ذكرناه:
1 / 34