وروى زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ذليلة)) وإذا لم يقدر على تصحيح النية فالتعلم أفضل من تركه لأنه إذا تعلم العلم فإنه يرجى أن يصحح العلم نيته لأنه روي في الخبر أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من طلب العلم لغير وجه الله تعالى لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله تعالى والدار الآخرة)) وقال مجاهد: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كثير من النية ثم رزقنا الله فيه النية. وإذا أراد الخروج إلى الغربة فالأفضل له أن يخرج بإذن أبويه فإن لم يأذنا له فلا بأس بالخروج إذا كانا مستغنيين عن خدمته، ولا ينبغي للمتعلم أن يترك شيئا من الفرائض أو يؤخرها عن وقتها، ولا ينبغي أن يؤذي أحدا لأجل التعلم فتذهب بركة العلم، ولا ينبغي للمتعلم أن يكون بخيلا بعلمه إذا استعار منه إنسان كتابا أو استعان به لتفهيم مسألة أو نحو ذلك، فلا ينبغي له أن يبخل به لأنه يقصد بتعلمه أولا منفعة الخلق في المآل، فلا ينبغي له أن يمنع منفعته في الحال. وقال عبد الله بن المبارك: من بخل بعلمه ابتلي بإحدى ثلاث: إما أن يموت فيذهب علمه، أو يبتلى بسلطان جائر، أو ينسى العلم الذي حفظه. وينبغي للمتعلم أن يوقر العلم ولا ينبغي له أن يضع الكتاب على التراب فإذا خرج من الخلاء وأراد أن يمس الكتاب يستحب له أن يتوضأ أو يغسل يديه ثم يأخذ الكتاب، وينبغي للمتعلم أن يرضى بالدون من العيش من غير أن يترك حظ نفسه من الأكل والشرب والنوم، وينبغي للمتعلم أن يقلل معاشرة الناس ومخالطتهم ومباشرة النساء ومخالطتهن ولا يشتغل بما لا يعنيه. ويقال في المثل من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه. وقيل للقمان الحكيم بم نلت ما نلت؟ فقال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني. وينبغي للمتعلم أن يتدارس على الدوام ويتذاكر المسائل مع أصحابه أو وحده، فقد روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بالحديث ثم يدخل بيته فنتذاكر بيننا فكأنما زرع في قلوبنا، وذكر في قوله تعالى {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} يعني بالدرس بجد ومواظبة. ويقال في المثل: عليك بالدرس فإن الدرس هو الغرس، وقيل لعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بم أدركت هذا العلم؟ قال بلسان سؤول وقلب عقول وفؤاد غير ملول وكف بذول. وروي عن بعض الأخبار زيادة: وبدن في الضراء والسراء صبور. وقال الشعبي: من رق وجهه رق علمه، وقيل لبزرجمهر بم نلت ما نلت؟ قال ببكور كبكور الغراب وتملق كتملق الكلب وتضرع كتضرع السنور وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار. وينبغي للمتعلم إذا وقعت بينه وبين إنسان منازعة أو خصومة أن يستعمل الرفق والإنصاف ليكون فرقا بينه وبين الجاهل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه)) وينبغي للمتعلم أن يعظم أستاذه فإن تعظيمه يظهر فيه بركة العلم، وإذا استخف به ذهبت عنه بركة العلم: وينبغي للمتعلم أن يداري الناس لأنه يقال خير الناس من يداري وشر الناس من يماري. ويقال إنما ينتفع المتعلم بكلام العالم إذا كان في المتعلم ثلاث خصال: التواضع في نفسه، والحرص على التعلم، والتعظيم بالعالم. فبتواضعه ينجع فيه العلم، وبحرصه يستخرج العلم، وبتعظيمه يستعطف العلماء.
الباب الخامس عشر: في قبول القضاء وعدم قبوله
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: اختلف الناس في قبول القضاء: قال بعضهم: لا ينبغي أن يقبل القضاء، وقال بعضهم: إذا ولي بغير طلب منه فلا بأس بأن يقبل إذا كان يصلح لذلك الأمر، وهذا قول أصحابنا: أما من كره ذلك فاحتج بما روت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يجاء بقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يود أن لم يكن قضى بين اثنين)) وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من جعل قاضيا فكأنما ذبح بغير سكين)) وروى شريك عن الحسن البصري قال: كانت بنو إسرائيل إذا استقضى الرجل منهم أيس له به من النبوة. وروى أبو أيوب قال: دعي أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى الشام فوافق ذلك عزل قاضيها، فهرب واختفى حتى أتى اليمامة فلقيته بعد ذلك فقال: ما وجدت مثل القضاء إلا كمثل سابح في البحر فلم يحسن أن يسبح حتى غرق. وروي عن سفيان الثوري أنه دعي إلى القضاء فهرب إلى البصرة واختفى، فبعث أمير المؤمنين في طلبه فلم يقدروا عليه فمات وهو متوار، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ابتلي بالضرب والحبس فلم يقبل حتى مات: وأما حجة من قال بأنه لا بأس به فما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أراد القضاء وسأل عليه الشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه نزل عليه ملك يسدده)) وعن الحسن أنه قال: كان يقال لأجر حكم عدل يوما واحدا أفضل من أجر رجل يصلي في بيته سبعين سنة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الرحمن بن سمرة ((لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) وروي عن أبي موسى الأشعري أن رجلين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه فقالا استعملنا على بعض أعمالك فإن عندنا خيرا وأمانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لا نستعمل على عملنا من أراده وطلبه)).
الباب السادس عشر: في آداب القاضي
Shafi 315