بستان العارفين
للفقيه الزاهد العالم العامل والأستاذ المحدث المتقن الكامل
مولانا الشيخ نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي
Shafi 301
رضي الله عنه آمين
Shafi 302
{وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (قرآن كريم)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد له رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى عباد الله الصالحين من أهل السموات والأرضين.
(قال الفقيه) أبو الليث الزاهد نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي رحمة الله تعالى عليه: إني قد جمعت في كتابي هذا من فنون العلم ما لا يسع جهله ولا التخلف عنه للخاص والعام واستخرجت ذلك من كتب كثيرة وأوردت فيه ما هو الأوضح للناظر فيه والراغب إليه، وبينت الحجج فيما يحتاج إليه من الحجة بالكتاب والأخبار والنظر والآثار، وتركت الغوامض من الكلام، وحذفت أسانيد الأحاديث تخفيفا للراغبين فيه وتسهيلا للمجتهدين والتماسا لمنفعة الناس، وأنا أرجو الثواب من الله تعالى [وسميته: بستان العارفين] وأسأل الله التوفيق فإنه عليه يسير وهو على ما يشاء قدير نعم المولى ونعم النصير.
الباب الأول: في طلب العلم
(قال الفقيه) رحمه الله: اعلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة على قدر ما يحتاج إليه لأمر دينه مما لا بد له من أحكام الوضوء والصلاة وسائر الشرائع ولأمور معاشه، وما وراء ذلك ليس بفرض خاص فإن تعلم الزيادة فهو أفضل وإن تركه فلا إثم عليه. وإنما قلنا إن تعلم مقدار ما يحتاج إليه فريضة لأن الله تعالى قال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وقال في آية أخرى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فأخبر الله تعالى أنهم صاروا من أهل النار لجهلهم.
Shafi 303
وروى مكحول عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) وفي خبر آخر ((اطلبوا العلم ولو بالصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أصحابه، وعليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه. ثم تكلم الناس في طلب الزيادة قال بعضهم: إذا تعلم من العلم مقدار ما يحتاج إليه ينبغي أن يشتغل بالعمل به ويترك التعلم، وقال بعض الناس: إذا اشتغل بزيادة العلم فهو أفضل بعد أن لا يدخل النقصان في فرائضه وهذا القول أصح. فأما حجة الطائفة الأولى فيما روى جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن أبي الدرداء قال: ويل للذي لا يعلم مرة وويل للذي يعلم ولا يعمل به سبع مرات. وروي عن فضيل بن عياض أنه قال: من عمل بما يعلم شغله الله تعالى عما لا يعلم. وقال: لأن العمل لنفسه وطلب الزيادة لغيره، فالاشتغال بأمر نفسه بما هو لنفسه أولى لأن فكاك رقبة نفسه أهم إليه: وأما حجة الطائفة الأخرى فقول الله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} الآية، وقال في آية أخرى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وقال في آية أخرى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب} الآية. قال أهل التفسير: يعني كونوا فقهاء علماء. وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فضل العلم خير من العمل وملاك دينكم الورع)). وعن الحسن البصري رحمه الله قال: من العمل أن يتعلم الرجل العلم فيعلمه الناس. وعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تذاكر العلم ساعة من الليلة أحب إلى الله من إحيائها. وعن عوف بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي ذر الغفاري فقال: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه ولا أعمل به، فقال: إنك إن تتوسد بالعلم خير لك من أن تتوسد بالجهل، ثم ذهب إلى أبي الدرداء فسأله فقال أبو الدرداء: إن الناس يبعثون من قبورهم على ما ماتوا عليه: العالم عالما والجاهل جاهلا، ثم ذهب إلى أبي هريرة فسأله عن ذلك فقال له أبو هريرة: كفى بتركه ضياعا. وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: الناس رجلان عالم رباني ومتعلم على سبيل النجاة وسائرهم همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، والعلماء باقون ما بقي الدهر وأعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، ولأن منفعة العمل لنفسه خاصة ومنفعة العلم ترجع إلى نفسه وإلى الناس عامة فصار هذا أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس من ينفع الناس)) وروي ((أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: العلم، فسأله ثانيا وثالثا فأجابه مثل جوابه الأول، فقال: يا رسول الله عليك السلام إني أسالك عن العمل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل يقبل الله الأعمال إلا بالعلم)) وروي ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أفضل ما يتصدق به العبد أن يتعلم العلم ثم يعلمه غيره)) والأخبار في هذا كثيرة.
Shafi 304
الباب الثاني: في كتابة العلم
(قال الفقيه) رضي الله تعالى عنه: كره بعض الناس كتابة العلم وأباح ذلك عامة أهل العلم، فأما حجة من كره ذلك فما روى الحسن البصري ((أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله إن ناسا من اليهود والنصارى يحدثون بأحاديث أفلا نكتب بعضها؟ فنظر إليه نظرة عرف بها الغضب في وجهه قال: ((أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم ببيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي)) فقيل للحسن ما المتهوكون؟ قال: المتحيرون. وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ((أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة العلم الحسن فلم يأذن له)) وعن ابن مسلم قال: كان ابن عباس ينهى عن الكتابة ويقول إنما ضل من كان قبلكم بالكتابة. وروى ابن أبي داود عن أبيه قال: جاء أصحاب عبد الله بن مسعود إلى عبد الله فقالوا إنا قد كتبنا عنك علما أفنعرضه عليك فتبينه لنا؟ قال: نعم، فأتوه بذلك فأخذ الكتاب فغسله بالماء ثم رده عليهم.
Shafi 305
قال الفقيه: وذلك أنهم إذا كتبوا الكتاب اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ فيعرض على الكتابة عارض فيفوت علمهم، ولأن الكتاب مما يزاد فيه وينقص، ولأن الكتاب يمكن أن يزاد فيه ويغير والذي حفظ لا يمكن التغيير فيه، ولأن الحافظ يتكلم بالعلم والذي أخبر عن الكتاب أخبر بالظن من غير حفظ، وأما حجة من قال بأنه يجوز فما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب أنا، وعن ابن جريج بن معرور أنه قال: قال عبد الله بن عمر ((يا رسول الله إنا لنسمع منك الحديث أفنكتبه عنك؟ قال: نعم قلت في الرضا والسخط؟ قال: نعم، فإني لا أقول فيهما إلا حقا)) وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب علما فلا يعد علمه علما. وقال الله تعالى خبرا عن موسى عليه الصلاة والسلام حين سألوه عن القرون الأولى قال موسى عليه السلام: {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}. وعن ربيع بن أبي أنيس عن جديه زيد وزياد أنهما قدما على سليمان بن عبد الملك ليلا فلم يزل يحدثهما ويكتبان حتى أصبحا. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا يعجزن أحدكم أن يكون عنده كتاب من هذا العلم، ولأن فيه بلوى فلو لم يكتب لذهب عنه العلم ولو كتب لرجع إليه فيما ينسى أو يشكل عليه مسرورا. وهذا كما حكي أن أبا يوسف عاب محمدا في كتابة العلم، فقال محمد: إني خفت ذهاب العلم لأن النساء لا يلدن مثل أبي يوسف ولأن الأمة قد توارثت كتابة العلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) وما رآه المسلمون شينا فهو عند الله شين)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) ولأنهم لما توارثوا ذلك صار ذلك سبيل المؤمنين حقا بدليل الخبر، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أصحابي كالنجوم الزاهرة بأيهم اقتديتم اهتديتم)) وعن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اكتبوا هذا العلم من كل غني وفقير ومن كل صغير وكبير، ومن ترك العلم من أجل أن صاحب العلم فقير أو أصغر منه سنا فليتبوأ مقعده في النار)).
الباب الثالث: في الفتوى
(قال الفقيه) الزاهد أبو الليث رحمه الله: كره بعض الناس الفتوى وأجازها عامة أهل العلم إذ كان الرجل ممن يصلح لذلك. فأما حجة الطائفة الأولى فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أجرؤكم على النار أجرؤكم على الفتوى)) وروي عن سلمان أن أناسا كانوا يستفتونه فقال: هذا خير لكم وشر. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى. وعن ابن سيرين أنه قال: قال حذيفة بن اليمان: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بدا من ذلك، أو أحمق متكلف وكان ابن سيرين إذا سئل عن شيء يقول: لست بأحد هذين وأكره أن أكون الثالث. وأما حجة من أباح ذلك فما روي عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل بن معبد قالوا: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله اقض بيننا بكتاب الله تعالى، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي فأقول، فأذن له عليه الصلاة والسلام فقال: إن ابني هذا كان عسيفا على هذا الرجل وإنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأته الرجم)) ففي هذا الحديث دليل على جواز الفتوى لأنه قال سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني فلم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواهم، وفي الخبر أيضا دليل على أن الفتوى تجوز وإن كان غيره أعلم منه ألا ترى أنهم كانوا يفتون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ((أنه سئل عن محرم كسر بيض نعامة، فأمره علي بكل بيضة أن ينحر ولد ناقة، فجاء السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له رسول الله قد قال لك علي ما سمعت ولكن هلم إلى الرخصة فعليك بكل بيضة إطعام مسكين)) وروي عن أبي هريرة أنه سئل بالبحرين عن حلال إذا ذبح صيدا فأكله محرم فقال يجوز، فلما رجع أبو هريرة إلى عمر أخبره بذلك، فقال عمر لو قلت غير هذا لفعلت بك كذا وكذا، ولأن الصحابة كانوا يفتون في الحوادث)) وهكذا توارث المسلمون ولأن الله تعالى قال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فلما أمر الله تبارك وتعالى الجهال بأن يسألوا العلماء فقد أخبر العلماء بأن يخبروهم إذا سألوهم عن ذلك. وحكي أن جماعة اختاروا من العقلاء ثلاثة ليذكروا: من أعقل؟ فاجتمع رأيهم أعقل الناس من يقول ما يعلم.
Shafi 306
الباب الرابع: فيمن يجوز له الفتوى
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء يعني أبا حنيفة وصاحبيه، ويعلم من أين قالوا ويعرف معاملات الناس، فإن من عرف أقاويل العلماء ولم يعرف معاملات الناس ومذاهبهم فإن سئل عن مسألة يعلم أن العلماء الذين ينتحل مذهبهم قد اتفقوا عليها فلا بأس بأن يقول هذا جائز وهذا لا يجوز ويكون قوله على سبيل الحكاية، وإن كانت مسألة قد اختلفوا فيها فلا بأس بأن يقول هذا جائز في قول فلان؛ ولا يجوز له أن يختار قولا فيجيب بقول بعضهم ما لم يعرف حجته. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال: كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة منهم زفر بن الهذيل وأبو يوسف وعاقبة بن يزيد وآخر وهو الحسن بن زياد، فكلهم أجمعوا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا. وروى إبراهيم بن يوسف عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا. وروي عن عصام بن يوسف أنه قيل له إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة قد أوتي من الفهم ما لم نؤت فأدرك بفهمه ما لم ندركه، ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال.
(قال الفقيه) رحمه الله: ينبغي لمن جعل نفسه مفتيا أو تولى شيئا من أمور المسلمين وجعل وجه الناس إليه أن لا يردهم قبل أن يقضي حوائجهم إلا من عذر، ويستعمل الرفق والحلم وروى القاسم بن محمد عن ابن أبي مريم وكانت له صحبة مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ولي من أمور المسلمين شيئا واحتجب دون خلتهم يوم حاجتهم وفاقتهم احتجب الله تعالى يوم القيامة دون خلته وفاقته وحاجته)) وينبغي للمفتي أن يكون متواضعا لينا ولا يكون جبارا عنيدا ولا فظا غليظا لأن الله تعالى قال: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)).
الباب الخامس: من الاختلاف
Shafi 307
(قال الفقيه) أبو الليث رضي الله تعالى عنه: تكلم الناس في مسألة اختلف العلماء فيها، قال بعضهم: كلاهما صواب وهو قول المعتزلة، وقال بعضهم: أحدهما صواب والآخر خطأ إلا إنه رفع عنه الإثم وهذا القول أصح. فأما حجة الطائفة الأولى فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع نخيل بني النضير فكان أبو ليلى المازني يقطع النخل العجوة وكان عبد الله بن سلام يقطع اللوز، فقيل لأبي ليلى لم تقطع العجوة؟ قال: لأن فيه كبتا للعدو فقيل لعبد الله بن سلام لم تقطع اللوز؟ فقال لأني أعلم أن النخيل تصير للنبي صلى الله عليه وسلم فأريد أن تبقى له العجوة، فنزل قوله تعالى {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} فقد رضي الله تعالى بما فعل الفريقان جميعا. وأما حجة الطائفة الأخرى فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه لقال لعمرو بن العاص: إقض بين هذين، فقال أقضي وأنت حاضر؟ فقال: نعم، قال: على ماذا أقضي؟ قال: على أنك إن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك أجر واحد)). فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المجتهد في اجتهاده قد يخطئ وقد يصيب، ولأن الله تعالى قال: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} إلى قوله تعالى {ففهمناها سليمان} فمدح الله تعالى سليمان بأنه أدرك بفهمه ما لم يدرك به داود عليهما السلام، ولو كان كلا الحكمين صوابا في اجتهاد الرائي لكان لا يستوجب المدح بفهمه، ولو كان أحد القولين خطأ فقد رفع الإثم عنه لأنه كان مأذونا له الاجتهاد. وروى موسى الجهني عن طلحة بن مطرف أنه كان إذا ذكر عنده الاختلاف فقال: لا تقولوا الاختلاف ولكن قولوا السعة. وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما أحب أن يكون لي باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حمر النعم: يعني أن اختلافهم أحب إلي من حمر النعم لأنهم لو لم يختلفوا لكان لا يجوز لأحد بعدهم الاختلاف وإذا لم يجز الاختلاف لضاق الأمر على الناس. وروي عن القاسم بن محمد قال: اختلاف الصحابة كان رحمة للمسلمين.
الباب السادس: في رواية الحديث بالمعنى
(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في رواية الحديث بالمعنى. قال بعضهم: لا يجوز إلا بلفظه، وقال بعضهم: يجوز وهو الأصح. أما حجة الطائفة الأولى فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رحم الله امرأ سمع مني حديثا فبلغه كما سمع)) وروى البراء بن عازب ((أن النبي صلى الله عليه وسلم علم رجلا دعاء وكان في آخر دعائه ((آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) فقال الرجل وبرسولك الذي أرسلت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قل ونبيك الذي أرسلت فنهاه عن تغيير اللفظ)) وأما حجة من قال إنه يجوز بالمعنى فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب)) فقد أمرنا بالتبليغ عاما. وروي عن واثلة بن الأسقع وكان من الصحابة قال: إذا حدثناكم حديثا بالمعنى فحسبكم. وقال ابن عوف: كان إبراهيم النخعي والشعبي والحسن البصري يؤدون الحديث بالمعنى. وقال وكيع: لو لم يكن بالمعنى واسعا لهلك الناس وقال سفيان الثوري: إني لو قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، ولأن الله تعالى قال: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} بلفظ العربية، ولو كان قومهم لا يفقهون بلفظ العربية فلا بد له من البيان والتفسير، فثبت أن العبرة للمعنى لا للفظ.
Shafi 308
الباب السابع: في رواية الحديث والإجازة
(قال الفقيه) أبو الليث رضي الله تعالى عنه: اختلف الناس في رواية الحديث لو قال مكان حدثنا أخبرنا أو قال مكان أخبرنا حدثنا يجوز أم لا؟ قال بعض أهل الحديث: إذا قرأت الحديث على محدث فأردت أن تروي عنه ينبغي لك أن تقول أخبرنا فلان، وإن كان لمحدث قرأ عليك فقل حدثنا فلان. وقال أكثر أهل العلم: كلاهما سواء وبه نأخذ. وقد روي عن أبي يوسف القاضي رحمه الله أنه قال: إذا قرأت الحديث على فقيه أو قرأ عليك فإن شئت قلت حدثنا، وإن شئت قلت أخبرنا، وإن شئت قلت سمعت من فلان: وروي عن أبي مطيع أنه قال: سألت أبا حنيفة فقلت له أقول: حدثنا أو أقول أخبرنا قال: إن شئت قلت حدثنا وإن شئت قلت أخبرنا. وروي عن شعبة بن الحجاج أنه قال: إن شئتم قلتم حدثنا وإن شئتم قلتم أنبأنا وإن شئتم قلتم أخبرنا، وإن قال المحدث أجزت لك أن تحدث عني فلا يجوز لك أن تقول حدثنا ولا أخبرنا، وجاز أن تقول أجازني فلان.
(قال الفقيه) رحمه الله: سمعت الخليل بن أحمد القاضي رحمه الله قال: سمعت أبا طاهر أحمد ابن سفين الديامي قال: إذا قال المحدث أجزت لك فكأنه قال أجزت لك بأن لا تكذب علي.
(وقال الفقيه) رحمه الله: ولو كتب إليك المحدث بحديث أو دفع إليك كتابه وقال حدثني فلان بجميع ما فيه جاز لك أن تقول، أخبرنا فلان ولا يجوز أن تقول حدثنا فلان لأن الكتابة خبر والحديث لا يكون إلا بالمخاطبة، ألا ترى لو أن رجلا حلف أن لا يخبر فلانا بكذا، فكتب إليه بذلك فإنه يحنث، ولو حلف بأن لا يحدثه فكتب إليه فإنه لا يحنث ما لم يخاطبه. وروى أبو ضمرة عن عبد الله بن عمر قال: رأيت عبد الله بن شهاب يؤتى بالكتاب فيقال له هذا كتابك عرفته؟ فيقول: نعم، فيرضون بما قرأه عليهم وما قرؤوه عليه فينسخون ويخبرون به. وروى عبد العزيز بن أبان عن شعبة قال: كتب إلي منصور بن المنعم بحديث فلقيته فسألته عن ذلك فقال أليس قد كتبت إليك كتابا؟ فقلت له إذا كتبت إلي فقد حدثتني به؟ قال نعم، فذكرت ذلك لأيوب السختياني فقال صدق إذا كتب إليك فقد حدثك. وروي عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه قال: كتابة العلم إليك وسماعك منه بمنزلة واحدة يجوز الرواية عنه إذا كتب إليك كما يجوز لو سمعت منه، ولكن يختلفان في لفظ الرواية.
الباب الثامن: في أخذ العلم من الثقات
Shafi 309
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: ينبغي أن لا يؤخذ العلم إلا من أمين ثقة لأن قوام الدين بالعلم، فينبغي للرجل أن لا يأتمن على دينه إلا من يجوز أن يؤتمن على نفسه. وروى عباد بن كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تحدثوا ممن لا تقبلون شهادته)) وعن محمد بن سيرين قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وعن المحسن أنه قال: من قال قولا حسنا وعمل عملا سيئا فلا تأخذوا عنه علما ولا تعتمدوا عليه، فإن قيل أليس قد روى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العلم ضالة المؤمن حيثما وجده أخذه)) قيل له حيثما وجده أخذه إذا كان الذي أخبره به ثقة وكلامه ينجع، وأما إذا كان الذي أخبره به غير ثقة فلا يأخذه منه، ولو أن رجلا سمع حديثا أو سمع مسألة فإن لم يكن القائل ثقة فلا يسع أن يقبل منه إلا أن يكون قولا يوافق الأصول فيجوز العمل به ولا يقع به العلم، وكذلك لو وجد حديثا مكتوبا أو مسألة فإن كان موافقا للأصول جاز له أن يعمل به وإلا فلا. وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حديث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)).
الباب التاسع: في إباحة مجلس العظة
Shafi 310
(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس الجلوس للعظة، وقال بعضهم لا بأس به إذا أراد به وجه الله تعالى، وهذا القول أصح لأنه تعلم الشرائع. فأما من كره ذلك فقد احتج بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مراء)). وعن تميم الداري أنه استأذن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يقص على الناس في كل سبت يوما قال: وما تصنع بذلك؟ قال تذكرا للناس. قال ذكر إن شئت واعلم أنه الذبح وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من استقصى فد ذبح بغير سكين)) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((القاص ينتظر المقت والمستمع ينتظر الرحمة)) وعن أبي قلابة أنه انصرف عن الصلاة فجاء رجل يقص ويصيح، فقال له أبو قلابة إنما أنت حمار ناهق وإن عدت إلينا لنؤدبنك. وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: أكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} الآية، وقوله تعالى {لم تقولون ما لا تفعلون} الآية، وقوله تعالى {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} وفي الحديث ((إن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستح مني)) وأما حجة من قال أنه لا بأس به فقول الله تعالى {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال تعالى في آية أخرى {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا معشر القصاص لا تقصوا فقد فقه الناس. ففي هذا الخبر دليل على أن القوم إذا لم يعلموا فلا بأس به. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كان يذكر الناس كل عشية خميس وهو قائم على رجليه يدعو بدعوات. وروي عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: من كتم على الناس علما يعلمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وعن أبي هريرة أنه قال: لولا آية لما جلست للناس وهي قوله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل فإن فيهم الأعاجيب ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) وقال الحسن: لولا العلماء لصار الناس كلهم مثل البهائم.
الباب العاشر: في آداب المذكر
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: أول ما يحتاج إليه المذكر يجب أن يكون صالحا في نفسه لأنه لو لم يكن صالحا يهرب منه العقلاء ويقتدي به السفهاء فيكون في ذلك فساد العالم وكلامه لا ينجع في قلوب الناس، وينبغي للمذكر أن يكون ورعا فلا يحدث الناس بحديث لم يصح عنده لأنه روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)) وينبغي أن لا يطول المجلس فيمل الناس لأنه يذهب بركة العلم. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للقلوب نشاطا وإقبالا وإن لها تولية وإدبارا فحدث القوم ما أقبلوا عليك. وروي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((روحوا القلوب ساعة فساعة)) وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان قاض في بني إسرائيل يطول عليهم فأملهم فلعن ولعنوا. وينبغي للمذكر أن يكون متواضعا لينا ولا يكون متكبرا ولا فظا غليظا لأن التواضع واللين من أخلاق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} وإذا أراد أن يخبر الناس بشيء من فضائل الصلاة والصيام والصدقة، فينبغي أن يعمل به أولا حتى لا يكون من أهل هذه الآية {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وقال إبراهيم النخعي: إني أكره القصص لثلاث آيات وقد ذكرناها، وينبغي للمذكر أن يكون عالما بتفسير القرآن والأخبار وأقاويل الفقهاء. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يقص للناس فقال له أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ فقال لا، فقال له علي: هلكت وأهلكت. وينبغي للمذكر إذا حدث الناس أن لا يقبل بوجهه إلى واحد بل يعمهم. وقد روي عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: من السنة أن لا يقبل بوجهه على رجل واحد ولكن يعمهم، ولا ينبغي للمذكر أن يكون طماعا لأن الطمع يذل الإنسان ويذهب بهاء الوجه والعلم، ولو أهدى إليه إنسان من غير مسألة فلا بأس أن يقبل هديته، وينبغي أن يكون في مجلسه الخوف والرجاء، ولا يجعل كله خوفا ولا كله رجاء لأنه نهى عن ذلك فإن كان المذكر يحتاج إلى تطويل المجلس فيستحب له أن يجعل في خلال مجلسه كلاما يستظرفونه ويتبسمون بذلك فإن ذلك يزيد نشاطا وإقبالا على السماع. وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا جلس رغب الناس في الآخرة وزهدهم في الدنيا، فإذا رآهم قد كسلوا أخذ في ذكر الغرس والبناء والحيطان، فإذا رآهم قد نشطوا أقبل في ذكر الآخرة.
Shafi 311
الباب الحادي عشر: في آداب المستمعين
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: ينبغي أن يقبل المستمع إلى وجه المذكر ويستمع منه بصحيح القلب ولا يشتغل بشيء غيره لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من سمع مسألة وحديثا فعمل بذلك فإنه حي ومنجي، ومن سمع حديثا فلم يعمل به فإنه يهلك)) ويستحب للمستمعين عند فصل كل حديث أن يقولوا صدقت أو أحسنت حتى يكون المذكر راغبا في الحديث، ويصلي عند كل سماع اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينزع وسواس الشيطان عن قلبهم، ولا ينام في حال المجلس لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من نام عند المجلس فقد خاب من رحمة الله تعالى وكان حبيب الشياطين)).
الباب الثاني عشر: في الحث على طلب العلم وتفضيل الفقه على غيره
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: ينبغي للإنسان أن يتعلم العلم ولا يقنع بالجهل لأن الله تعالى قال {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ففضل أهل العلم على غيرهم قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا خير فيمن لم يكن عالما أو متعلما)) وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: ما لي أرى علماءكم يموتون وجهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم بذهاب العلماء، وقال عروة بن الزبير لبنيه: يا بني تعلموا فإن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبار قوم آخرين، وما أقبح علي من شيخ لم يكن عنده علم. وقال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره رأيت أن سفره لم يضع.
Shafi 312
ثم اعلم أن العلم على أنواع، وكل ذلك عند الله حسن وليس كالفقه، فينبغي للرجل أن يكون تعلم الفقه أهم إليه من غيره لأن من تعلم الفقه تيسر عليه سائر العلوم، والفقه هو قوام الدين. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين)) وقال ((لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد جاهل)) وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: لأن أجلس فأتفقه ساعة أحب إلى الله من إحياء ليلة بلا فقه. وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا، وإذا أخذ الإنسان حظا وافرا من الفقه ينبغي أن لا يقتصر على الفقه ولكن ينظر في علم الزهد والحكمة وفي كلام الآخرة وفي شمائل الصالحين فإن الإنسان إذا تعلم الفقه ولم ينظر في علم الزهد والحكمة قسا قلبه والقلب القاسي بعيد من الله تعالى، ولو تعلم من علم النجوم والحكمة قسا قلبه والقلب القاسي بعيد من الله تعالى، ولو تعلم من علم النجوم والحكمة مقدار ما يعرف به الحساب فلا بأس به ولا يزيد عليه إذا تعلم مقدار ما يهتدي به إلى أمر القبلة وأمر الحساب قال الله تعالى {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} وقال في آية أخرى {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} الآية، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تعلموا من النجوم مقدار ما تعرفون به أمر قبلتكم، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المناظرة في النجوم، وقال عبد الله بن عباس لميمون بن مهران: لا تتبع علم النجوم فإنه يؤدي إلى السحر والكهانة.
الباب الثالث عشر: في مناظرة العلم
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: كره بعض الناس المناظرة والجدال في العلم واحتجوا بقول الله تعالى {ما ضربوه لك إلا جدلا} وقال في موضع آخر {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} فلامهم على المجادلة وذمهم عليها. وروت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أبغض الناس إلى الله تعالى الألد الخصم)) وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((دع المراء ولو كنت محقا)) وروي بلفظ آخر أنه قال: ((لا يجد أحدكم حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وهو محق)) ولأن المراء يؤدي إلى العداوة والعداوة بين المسلمين حرام قال عامة أهل العلم لا بأس بها إذا قصد بها ظهور الحق لقوله تعالى {وجادلهم بالتي هي أحسن} وقال أيضا {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} وقال {ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} إلى قوله {فبهت الذي كفر}. وروي عن طلحة بن عبيد الله أنه قال ((تذاكرنا في لحم صيد يأكله المحرم وقد ذبحه حلال والنبي صلى الله عليه وسلم نائم، فارتفعت أصواتنا فاستيقظ من ذلك قال: فماذا تتنازعون؟ فأخبرناه فأمرنا بأكله)) ولم ينكر عليهم جدالهم في المسألة ولأن في المناظرة ظهور الحق من الباطل والنظر في طلب الحق مباح، والآثار التي وردت في النهي معناها إذا جادل بغير حق وأراد به المباهاة فهو مكروه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. من تعلم العلم لثلاث فهو في النار: أن يباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الخلق إلى نفسه)).
الباب الرابع عشر: في آداب المتعلم
Shafi 313
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: فأول ما يحتاج إليه المتعلم أن يصحح نيته لينتفع بما يتعلم وينتفع به من يأخذ منه، فإذا أراد أن يصحح نيته يحتاج إلى أن ينوي أربعة أشياء: أولها أن ينوي بتعلمه الخروج من الجهل لأن الله تعالى قال {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} والثاني أن ينوي به منفعة الخلق لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس من ينفع الناس)) والثالث: أن ينوي به إحياء العلم، لأن الناس لو تركوا التعلم لذهب العلم كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعلموا العلم قبل أن يرفع العلم)) ورفعه ذهاب العلماء، والرابع أن ينوي به أن يعمل به لا بخلافه لأن العلم آلة للعمل وطلب الآلة لا للعمل لغو كما إذا عمل لا بالعلم فهو لغو. وقيل العلم بلا عمل وبال، والعمل بلا علم ضلال: وينبغي للمتعلم أن يطلب به وجه الله تعالى والدار الآخرة ولا ينوي به طلب الدنيا، لأنه إذا طلب به وجه الله تعالى والدار الآخرة فإنه ينال الأمرين جميعا كما قال الله تعالى {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب}.
Shafi 314
وروى زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ذليلة)) وإذا لم يقدر على تصحيح النية فالتعلم أفضل من تركه لأنه إذا تعلم العلم فإنه يرجى أن يصحح العلم نيته لأنه روي في الخبر أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من طلب العلم لغير وجه الله تعالى لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله تعالى والدار الآخرة)) وقال مجاهد: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كثير من النية ثم رزقنا الله فيه النية. وإذا أراد الخروج إلى الغربة فالأفضل له أن يخرج بإذن أبويه فإن لم يأذنا له فلا بأس بالخروج إذا كانا مستغنيين عن خدمته، ولا ينبغي للمتعلم أن يترك شيئا من الفرائض أو يؤخرها عن وقتها، ولا ينبغي أن يؤذي أحدا لأجل التعلم فتذهب بركة العلم، ولا ينبغي للمتعلم أن يكون بخيلا بعلمه إذا استعار منه إنسان كتابا أو استعان به لتفهيم مسألة أو نحو ذلك، فلا ينبغي له أن يبخل به لأنه يقصد بتعلمه أولا منفعة الخلق في المآل، فلا ينبغي له أن يمنع منفعته في الحال. وقال عبد الله بن المبارك: من بخل بعلمه ابتلي بإحدى ثلاث: إما أن يموت فيذهب علمه، أو يبتلى بسلطان جائر، أو ينسى العلم الذي حفظه. وينبغي للمتعلم أن يوقر العلم ولا ينبغي له أن يضع الكتاب على التراب فإذا خرج من الخلاء وأراد أن يمس الكتاب يستحب له أن يتوضأ أو يغسل يديه ثم يأخذ الكتاب، وينبغي للمتعلم أن يرضى بالدون من العيش من غير أن يترك حظ نفسه من الأكل والشرب والنوم، وينبغي للمتعلم أن يقلل معاشرة الناس ومخالطتهم ومباشرة النساء ومخالطتهن ولا يشتغل بما لا يعنيه. ويقال في المثل من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه. وقيل للقمان الحكيم بم نلت ما نلت؟ فقال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني. وينبغي للمتعلم أن يتدارس على الدوام ويتذاكر المسائل مع أصحابه أو وحده، فقد روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بالحديث ثم يدخل بيته فنتذاكر بيننا فكأنما زرع في قلوبنا، وذكر في قوله تعالى {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} يعني بالدرس بجد ومواظبة. ويقال في المثل: عليك بالدرس فإن الدرس هو الغرس، وقيل لعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما بم أدركت هذا العلم؟ قال بلسان سؤول وقلب عقول وفؤاد غير ملول وكف بذول. وروي عن بعض الأخبار زيادة: وبدن في الضراء والسراء صبور. وقال الشعبي: من رق وجهه رق علمه، وقيل لبزرجمهر بم نلت ما نلت؟ قال ببكور كبكور الغراب وتملق كتملق الكلب وتضرع كتضرع السنور وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار. وينبغي للمتعلم إذا وقعت بينه وبين إنسان منازعة أو خصومة أن يستعمل الرفق والإنصاف ليكون فرقا بينه وبين الجاهل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه)) وينبغي للمتعلم أن يعظم أستاذه فإن تعظيمه يظهر فيه بركة العلم، وإذا استخف به ذهبت عنه بركة العلم: وينبغي للمتعلم أن يداري الناس لأنه يقال خير الناس من يداري وشر الناس من يماري. ويقال إنما ينتفع المتعلم بكلام العالم إذا كان في المتعلم ثلاث خصال: التواضع في نفسه، والحرص على التعلم، والتعظيم بالعالم. فبتواضعه ينجع فيه العلم، وبحرصه يستخرج العلم، وبتعظيمه يستعطف العلماء.
الباب الخامس عشر: في قبول القضاء وعدم قبوله
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله تعالى: اختلف الناس في قبول القضاء: قال بعضهم: لا ينبغي أن يقبل القضاء، وقال بعضهم: إذا ولي بغير طلب منه فلا بأس بأن يقبل إذا كان يصلح لذلك الأمر، وهذا قول أصحابنا: أما من كره ذلك فاحتج بما روت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يجاء بقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يود أن لم يكن قضى بين اثنين)) وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من جعل قاضيا فكأنما ذبح بغير سكين)) وروى شريك عن الحسن البصري قال: كانت بنو إسرائيل إذا استقضى الرجل منهم أيس له به من النبوة. وروى أبو أيوب قال: دعي أبو قلابة للقضاء فهرب حتى أتى الشام فوافق ذلك عزل قاضيها، فهرب واختفى حتى أتى اليمامة فلقيته بعد ذلك فقال: ما وجدت مثل القضاء إلا كمثل سابح في البحر فلم يحسن أن يسبح حتى غرق. وروي عن سفيان الثوري أنه دعي إلى القضاء فهرب إلى البصرة واختفى، فبعث أمير المؤمنين في طلبه فلم يقدروا عليه فمات وهو متوار، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ابتلي بالضرب والحبس فلم يقبل حتى مات: وأما حجة من قال بأنه لا بأس به فما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أراد القضاء وسأل عليه الشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه نزل عليه ملك يسدده)) وعن الحسن أنه قال: كان يقال لأجر حكم عدل يوما واحدا أفضل من أجر رجل يصلي في بيته سبعين سنة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الرحمن بن سمرة ((لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)) وروي عن أبي موسى الأشعري أن رجلين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه فقالا استعملنا على بعض أعمالك فإن عندنا خيرا وأمانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لا نستعمل على عملنا من أراده وطلبه)).
الباب السادس عشر: في آداب القاضي
Shafi 315
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في المجلس والنظر وفي غيره كما جاء في الأثر. روت أم سلمة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بين الخصمين في المجلس والإشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين أكثر مما على الآخر، وينبغي للقاضي أن يكون في قضائه فارغ القلب)) وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقض القاضي إلا وهو شبعان ريان)) وروي عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه كتب إلى ابنه وكان قاضيا بسجستان: أن لا تقض بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((لا يقض القاضي بين اثنين وهو غضبان)) وقال الحسن البصري رحمه الله: أخذ الله تعالى على الحكام بثلاثة أشياء: أن لا يتبعوا الهوى، وأن يخشوا الله تعالى ولا يخشوا الناس ولا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ثم تلا قوله تعالى {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} وقرأ قوله تعالى {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} وقرأ أيضا {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} إلى قوله {ففهمناها سليمان} ثم قال الحسن: لولا ما ذكر الله تعالى من أمر هذين لرأيت أن القضاة قد هلكوا، ولكن الله أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده.
الباب السابع عشر: في فضل تعلم القرآن وتعليمه
Shafi 316
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: لا ينبغي للقارئ أن يترك حظه من قراءة القرآن في بعض الأوقات فكلما كان أكثر فهو أفضل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((أفضل الناس الحال المرتحل قيل وما الحال المرتحل؟ قال الخاتم المفتتح صاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره كلما حل ارتحل وينبغي للقارئ أن يختم القرآن في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة)) وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: من قرأ القرآن في السنة مرتين فقد أدى حقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه على جبريل في السنة التي توفي فيها مرتين. وروي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الإنسان من المسجد فلم أر خيرا أعظم من قراءة القرآن، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من آية أو سورة أوتيها الرجل فنسيها)) وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه غيره)) وقال أبو عبد الرحمن: فذلك الذي أقعدني هذا المقعد: يعني به جلوسه لتعليم الناس وكان معلم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما: قال ذو النون: دخلت مسجدا فرأيت رجلا يقرأ {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} يرددها ويمص فاه كأنه يشرب شيئا، فقلت له يا هذا أتشرب أم تقرأ؟ فقال لي يا بطال إني لأجد من قراءته لذة وحلاوة مثل ما أجد لشرب ما قرأته. وفي الخبر إن لإسرافيل عليه الصلاة والسلام نغمة طيبة فهو إذا أراد قراءة القرآن قطع صلاة الملائكة لاستماعهم إليه، وكان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت أعطي من حسن الصوت ما لو تلا الزبور جمد الماء واحتبس الطير في الهواء والبهائم والوحوش في الأرض وتخللت السباع بين الأغنام، فلما ظهرت منه تلك الزلة سلبت الحلاوة من نغمته، فقال يا رب ما فعلت بنغمتي؟ فأوحى الله عز وجل إليه أطعتنا فأطعناك وعصيتنا فأمهلناك ولو كنت غدوت كما كنت قبلناك قال: فإذا كان يوم القيامة أمر إسرافيل عليه السلام بالقراءة، وأمر داود عليه الصلاة والسلام بالقراءة فيقول يا رب نغمتي؟ فيقال: ترد عليك نغمتك فترد عليه فيرفع الحور أصواتهن من الغرف فترفع أصوات لم يسمع الخلائق مثلها، فيقول الله عز وجل هل سمعتم نغمات طيبة؟ فيرفع الحجاب فيقول لهم ربهم سلام عليكم وذلك قوله تعالى {تحيتهم يوم يلقونه سلام}.
(قال الفقيه) رحمه الله: التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها أن يعلم للحسبة ولا يأخذ له عوضا، والثاني أن يعلم بالأجرة، والثالث أن يعلم بغير شرط فإذا أهدي إليه قبل. فأما إذا علم للحسبة فهو مأجور فيه وعمله عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأما إذا علم بالأجرة فقد اختلف الناس فيه، قال أصحابنا المتقدمون: لا يجوز له أخذ الأجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بلغوا عني ولو آية)) فأوجب على أمته التبليغ كما أوجب الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم التبليغ، فكما لم يجز للنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الأجرة فكذلك لا يجوز لأمته، وقال جماعة من العلماء المتأخرين: إنه يجوز، مثل عصام بن يوسف ونصير بن يحيى وأبي نصر بن سلام وغيرهم، فالأفضل للمتعلم أن يشارط على الأجرة للحفظ وتعليم الهجاء والكتابة فلو شارط لتعليم القرآن أرجو أن لا بأس به لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه والوجه الثالث: أنه إن علم بغير شرط وأهدي إليه به قبل الهدية فإنه يجوز في قولهم جميعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معلما وكان يقبل الهدية . وروى أبو المتوكل الباجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ((أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في غزوة فمروا بحي من أحياء العرب فقال هل فيكم من راق فإن سيد الحي قد لدغ؟ فرقاه رجل بفاتحة الكتاب فبرئ فأعطي قطيعا من الغنم فأبى أن يأخذ، فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بم رقيته؟ قال بفاتحة الكتاب، قال فما يدريك أنها رقية خذها واضربوا لي معكم فيها بسهم)) يعني إن أخذه مباح، وكره بعض الناس النقط والتعشير في المصاحف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وحجته ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: جردوا القرآن ولا تكتبوا فيه شيئا مع كلام الله تعالى ولا تعشروه وزينوه بأحسن الأصوات واعربوه فإنه عربي، ولكن نقول النقط والتعشير لو فعل فلا بأس لأن المسلمين توارثوا ذلك فاحتاجوا إليه وخاصة للعجم لا بد من النقط والعلامات لأنهم متكلفون روي أنه قال: القرآن ماحل مصدق وشافع مشفع. والماحل الساعي.
Shafi 317
ولا يجوز للجنب ولا للحائض أن يقرأ القرآن ولا يمس المصحف إلا أن يكون في غلاف ولو كان محدثا فلا بأس بأن يقرأ القرآن، ولا ينبغي له أن يمس المصحف إلا في غلافه لقوله تعالى في محكم تنزيله {لا يمسه إلا المطهرون} وقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يمس القرآن إلا طاهر)) وأما القراءة فلا بأس بها إذا كان على غير وضوء لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن بعد ما خرج من الخلاء وكان لا يحجزه ولا يحجبه لشيء سوى الجنازة. والمستحب أن يكون متوضئا ولا بأس بأن يقرأ الجنب والحائض أقل من آية واحدة، ولو كانت المرأة معلمة فحاضت فأرادت أن تعلم الصبيان ينبغي لها أن تلقن نصف آية ثم تسكت ثم تعلم نصف آية ولا تعلم آية تامة دفعة واحدة، ولا يجوز للجنب والحائض أن يدخلا المسجد ولا بأس للمحدث بدخول المسجد ولا بأس للجنب والحائض بالتسبيح والتهليل والدعوات، وإنما لا يجوز قراءة القرآن خاصة.
الباب الثامن عشر: في تفسير السبع المثاني
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم في قول الله تعالى {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} قال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف. قال الراوي: ونسيت السابع، وإنما سميت مثاني لأن الله تعالى استثناها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وذخرها لهم وهو قول التابعين. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أخرى أنه قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. وقال ابن مسعود: السبع المثاني: فاتحة الكتاب. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى {سبعا من المثاني} قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب، فقيل له إنهم يقولون هي السبع الطوال؟ فقال لقد أنزلت هذه الآية وما نزل شيء من الطوال. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هي فاتحة الكتاب)) وفي رواية أخرى أنه أراد به جميع القرآن، ويقال إنما سميت فاتحة الكتاب بالسبع المثاني فإنها سبع آيات، وتثنى بالقراءة في كل صلاة. وقيل إنما سميت بالسبع المثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة تعظيما لها، والله أعلم.
الباب التاسع عشر: فيما نزل من القرآن بمكة والمدينة
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: نزل من القرآن بالمدينة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأنفال، والتوبة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، والذين كفروا، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والقتال، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والتحريم، ولم يكن الذين كفروا، وإذا جاء نصر الله، وقل هو الله أحد، والمعوذتان، ونزل سائر السور بمكة. وقال بعضهم: ست آيات من سورة الأنعام، وبعض آيات من النحل، وبعض من بني إسرائيل، وبعض آيات من سورة القصص، وبعض آيات من سورة هل أتى على الإنسان، وآخر سورة الشعراء، وسورة والعاديات مدنية. وقال مجاهد: فاتحة الكتاب نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت بمكة.
Shafi 318
الباب العشرون: في الكلام في سورة براءة
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: اختلفوا في حذف بسم الله الرحمن الرحيم في أول سورة براءة. وقال بعضهم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن أملاه على كاتب يكتبه، فلما أملى عليه سورة براءة نسي الكاتب كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، فبقيت هذه بغير بسملة، وقال بعضهم: براءة نزلت لنقض العهد الذي كان بين المسلمين وبين الكفار، فلم تكتب بسم الله الرحمن الرحيم لأن في كتابة بسم الله أمانا لهم فتركت كتابتها لكي لا تكون أمانا. وأصح الأقاويل عندي ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: سألت عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عن ذلك فقال: سورة الأنفال نزلت أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وسورة التوبة نزلت آخر القرآن، وقصتها يشبه بعضها بعضا، ولم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتبه علينا أمرهما أنهما سورتان أم لا؟ ففصلنا بينهما وتركنا كتابة بسم الله الرحمن الرحيم. وقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال: لأنها نزلت بالسيف: يعني لنقض العهد.
الباب الحادي والعشرون: في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم
القرآن على أبي بن كعب
Shafi 319
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ القرآن على أبي بن كعب فتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم: إنما قرأ عليه القرآن ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة، وقال بعضهم: إنما قرأ عليه لأن أبي بن كعب كان أسرع أخذا لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته عليه أن يأخذ أبي بن كعب ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرأ كما سمع منه ويعلم غيره. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: ((إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سماني؟ قال: نعم، فبكى)) ويروى ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه {لم يكن الذين كفروا} وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} الحديث. أما بكاؤه فبكاء سرور واستصغار لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة وإعطائه هذه المنزلة والنعمة فيها من وجهين. أحدهما: لكونه منصوصا عليه بعينه ولهذا قال وسماني معناه نص على تعييني، أو قال اقرأ على واحد من أصحابك قال بل سماك فتزايدت النعماء. والثاني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم عليه فإنها منقبة عظيمة له لم يشاركه فيها أحد من الناس، وقيل إنما بكى خوفا من تقصيره في شكر هذه النعمة. وأما تخصيصه بهذه السورة بالقراءة فلأنها مع وجازتها جامعة لأصول وقواعد ومهمات، وكان الحال يقتضي الاختصار. وأما الحكمة في أمره تعالى بالقراءة على أبي فهو أن يتعلم: أي ألفاظه وصيغة أدائه ومواضع الوقوف وضبط النغم، فإن نغمات القرآن على أسلوب ألفه الشرع وقدره بخلاف ما سواه من النغم المستعملة في غيره، ولكل ضرب من النغم أثر مخصوص في النفوس، فكانت القراءة عليه ليعلمه لا ليتعلم منه. وقيل: قرأ عليه ليبين عرض القرآن على حفاظه البارعين فيه المجيدين لأدائه، وليبين التواضع في أخذ الإنسان القرآن وغيره من العلوم الشرعية من أهلها وإن كانوا دونه في النسب والدين والفضيلة والمرتبة والشهرة وغير ذلك، ولينبه الناس على فضيلة أبي في ذلك ويحثهم على الأخذ عنه وتقديمه في ذلك، وكان بعد النبي صلى الله عليه وسلم رأسا وإماما مقصودا في ذلك مشهورا.
الباب الثاني والعشرون: في الشعر وإنشاده
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: قد تكلم الناس في إنشاد الشعر فكرهه بعض الناس، ورخص فيه آخرون. فأما من كرهه فاحتج بما روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لأن يملتئ جوف أحدكم قيحا ودما حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا)) ولأن الله تعالى قال {والشعراء يتبعهم الغاوون} يعني الضالون. وروي عن الشعبي أنه قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا أمام الشعر بسم الله الرحمن الرحيم. وروي عن مسروق أنه كان يتمثل ببيت من شعر فقطعه فقيل له لو أتممت البيت؟ فقال إني لأكره أن أجد في كتابي بيتا من الشعر. وروي عن إبراهيم بن يوسف عن كثير بن هشام قال: سئل عبد الكريم عن قوله تعالى {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: الغناء والشعر. وروي عن عطاء أن إبليس قال يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فأين بيتي؟ قال الحمام قال فأين مجلسي؟ قال: السوق قال فما قراءتي؟ قال الشعر قال فما حبالي؟ قال النساء قال فما حديثي؟ قال الغيبة والكذب قال فأين كتابي؟ قال الوشم. وأما حجة من أباح ذلك فما روي عن هشام بن عروة عن أبيه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من الشعر لحكمة)) وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما رأيت امرأة أعلم بشعر ولا بطب ولا بلغة ولا بفقه من عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. وروى سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتناشدون الشعر والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم جالس يتبسم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قرأ أحدكم شيئا من القرآن فلم يدر ما تفسيره فليلتمسه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب. قيل لأبي الدرداء كل الأنصار يقولون الشعر غيرك؟ قال: وأنا أقول أيضا الشعر، ثم قال عند ذلك:
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا
فلا تك يا ابن آدم في غرور ... فقد قام المنادي صاح نادى
بأن الموت طالبكم فهبوا ... لهذا الموت راحلة وزادا
Shafi 320