(قال الفقيه) رحمه الله: كره بعض الناس الجلوس للعظة، وقال بعضهم لا بأس به إذا أراد به وجه الله تعالى، وهذا القول أصح لأنه تعلم الشرائع. فأما من كره ذلك فقد احتج بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو مراء)). وعن تميم الداري أنه استأذن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يقص على الناس في كل سبت يوما قال: وما تصنع بذلك؟ قال تذكرا للناس. قال ذكر إن شئت واعلم أنه الذبح وهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من استقصى فد ذبح بغير سكين)) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((القاص ينتظر المقت والمستمع ينتظر الرحمة)) وعن أبي قلابة أنه انصرف عن الصلاة فجاء رجل يقص ويصيح، فقال له أبو قلابة إنما أنت حمار ناهق وإن عدت إلينا لنؤدبنك. وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: أكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} الآية، وقوله تعالى {لم تقولون ما لا تفعلون} الآية، وقوله تعالى {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} وفي الحديث ((إن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستح مني)) وأما حجة من قال أنه لا بأس به فقول الله تعالى {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال تعالى في آية أخرى {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا معشر القصاص لا تقصوا فقد فقه الناس. ففي هذا الخبر دليل على أن القوم إذا لم يعلموا فلا بأس به. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه كان يذكر الناس كل عشية خميس وهو قائم على رجليه يدعو بدعوات. وروي عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: من كتم على الناس علما يعلمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وعن أبي هريرة أنه قال: لولا آية لما جلست للناس وهي قوله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل فإن فيهم الأعاجيب ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)) وقال الحسن: لولا العلماء لصار الناس كلهم مثل البهائم.
الباب العاشر: في آداب المذكر
(قال الفقيه) أبو الليث رحمه الله: أول ما يحتاج إليه المذكر يجب أن يكون صالحا في نفسه لأنه لو لم يكن صالحا يهرب منه العقلاء ويقتدي به السفهاء فيكون في ذلك فساد العالم وكلامه لا ينجع في قلوب الناس، وينبغي للمذكر أن يكون ورعا فلا يحدث الناس بحديث لم يصح عنده لأنه روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)) وينبغي أن لا يطول المجلس فيمل الناس لأنه يذهب بركة العلم. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للقلوب نشاطا وإقبالا وإن لها تولية وإدبارا فحدث القوم ما أقبلوا عليك. وروي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((روحوا القلوب ساعة فساعة)) وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان قاض في بني إسرائيل يطول عليهم فأملهم فلعن ولعنوا. وينبغي للمذكر أن يكون متواضعا لينا ولا يكون متكبرا ولا فظا غليظا لأن التواضع واللين من أخلاق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} وإذا أراد أن يخبر الناس بشيء من فضائل الصلاة والصيام والصدقة، فينبغي أن يعمل به أولا حتى لا يكون من أهل هذه الآية {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} وقال إبراهيم النخعي: إني أكره القصص لثلاث آيات وقد ذكرناها، وينبغي للمذكر أن يكون عالما بتفسير القرآن والأخبار وأقاويل الفقهاء. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يقص للناس فقال له أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ فقال لا، فقال له علي: هلكت وأهلكت. وينبغي للمذكر إذا حدث الناس أن لا يقبل بوجهه إلى واحد بل يعمهم. وقد روي عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: من السنة أن لا يقبل بوجهه على رجل واحد ولكن يعمهم، ولا ينبغي للمذكر أن يكون طماعا لأن الطمع يذل الإنسان ويذهب بهاء الوجه والعلم، ولو أهدى إليه إنسان من غير مسألة فلا بأس أن يقبل هديته، وينبغي أن يكون في مجلسه الخوف والرجاء، ولا يجعل كله خوفا ولا كله رجاء لأنه نهى عن ذلك فإن كان المذكر يحتاج إلى تطويل المجلس فيستحب له أن يجعل في خلال مجلسه كلاما يستظرفونه ويتبسمون بذلك فإن ذلك يزيد نشاطا وإقبالا على السماع. وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا جلس رغب الناس في الآخرة وزهدهم في الدنيا، فإذا رآهم قد كسلوا أخذ في ذكر الغرس والبناء والحيطان، فإذا رآهم قد نشطوا أقبل في ذكر الآخرة.
Shafi 311