ومعدن المادة في رأيه غير معدن الروح لأن الروح صاعدة حرة، والمادة هابطة مقيدة، وليس أدل على تناقض الطبيعتين من تعليل الضحك في رأيه، فنحن نضحك إذا رأينا إنسانا يتصرف تصرف الآلة المادية؛ لأنه تصرف لا يحسن بالحياة، ونحن لا نضحك من مادة ولا من حشرة مسلوبة الحرية، ولكننا نضحك من «ذي روح» يتصرف تصرف الجماد.
والعقل الإنساني أعرف بالحقائق المكانية، ولكنه لا ينفذ إلى بواطن الحركة «الزمانية» في صميمها، وإنما تنفذ إليها «البداهة» وهي أرقى ما ترتقي إليه الغرائز الحيوية، إلا أن برجسون لا يقيد العقل بالدماغ كما يفعل بعض الفلاسفة الماديين أو الفلاسفة الآليين: بل يقول إن العقل قد يفكر بغير دماغ، كما يهضم بعض الأحياء بغير معدة، فليست مادة الدماغ هي مصدر العقل الأصيل، وما هي إلا أدة تتهيأ لتوجيهات العقل بعد استعداد طويل.
واعتمادا على تعليق الحياة بعنصر الزمان يبسط الفيلسوف أوسع الآمال على مستقبل الحياة في الزمان الباقي إلى أبد الأبيد، فقد تعلو الحياة حتى تتغلب على الموت، وقد يسمو العقل حتى يحطم قيود المكان أو قيود المادة التي هي عنده ألصق بعنصر المكان.
أما «الخالق» في مذهب برجسون فليس كما صوره أصحاب العقيدة الدينية ولا كما صوره أصحاب الفلسفة الآلية.
أولئك قد شبه لهم عمل الخالق بعمل الإنسان فحسبوا الكون مصنوعا من مصنوعات إنسان كبير ليس له انتهاء.
وهؤلاء رانت على أفكارهم غاشية الصناعة فحسبوا الكون على مثال الآلات الضخام التي تدار بالبخار أو الكهرباء في دقة وإحكام.
ومفصل القول بين الفريقين على مذهب برجسون أن القوة الخالقة - أو التطور الخالق - موجود «في الكون» وليست موجودة خارج الكون، وأنها حركة دائمة تلقى العنت من مقاومة الجمود الدائم، وهو جمود المادة الصماء .
على أن المشكلة الكبرى كما قدمنا هي اعتقادهم أن القوة الخالقة هي «في الكون» وأنها مقيدة به ثم يأتي منها الخلق على أطوار.
فلماذا يأتي خلقها على أطوار مع الزمان؟ لماذا لا يحدث دفعة واحدة من أزل الآزال؟
أهي تزداد وتنتصر؟ أم أن المادة تنقص وتنهزم؟ إن المعسكرين والسلاحين والجيشين والقيادتين كلها قائمة من عهد ليس له ابتداء، فلم التطور؟ ولم التغير في الزمن؟ وما هي العقبى بعد النصر المبين من هنا والخذلان المبين هناك؟ •••
Shafi da ba'a sani ba